السبت 11 مايو 2024

وجاء الأفغاني

كنوزنا20-11-2020 | 19:24

 قبل الدخول في رحلة طويلة مضنية مع محمد على ينبغي أن نسدل الستار على المماليك بالوقوف عند مذبحة القلعة : إذ أنه بعد موت الألفي. استطاع محمد على أن يشق صفوف المماليك وأن يفرقهم. واستمال بعضهم وحارب البعض الآخر. ثم عفا عن الجميع، وسمح لهم بالدخول إلى القاهرة واغدق عليهم واقطعهم الاقطاعيات وعمر لهم الدور والقصور وقرر لهم المرتبات الضخمة، وكان يرسل إليهم الهدايا الثمينة ويدعوهم إلى مجلسه حتی اطمانوا إلى محمد على ووثقوا فيه. ومضت الحياة هنيئة بالمماليك، يتزوجون ويتناسلون ويجمعون الاتاوات من الفلاحين، ولكن محمد على ظل يقظة لا يغمض له جفن، وعندما أدرك أن الساعة قد حانت تشرع في تنفيذ خطته على الفور. ولكنه كان يبحث عن مناسبة، وجاءت المناسبة حين اصدر محمد علي فرمانا بتعيين إبنه طوسون قائدا للحملة المصرية المسافرة إلى بلاد الحجاز. ثم قرر الاحتفال بسفر الحملة شعبيا ورسميا، وأطلق في المدينة المنادين، وقد ارتدى كل منهم عدة الشغل : الطبق على رأسه، ويرتدي الضلمة وراكب حمار عال وأمامه مقدم بعكاز وحوله قابجية ينادون یارن الأي ». وهكذا هبت على القاهرة نسمات من الماضي البعيد المجيد، ولكن أحدا لم يتصور لحظتها أن محمد على قد قرر بالفعل عبور جسور التاريخ، والعودة بمصر إلى سابق مجدها القديم..

انتظم الموكب صباح يوم السادس من محرم عام ألف ومائتين وستة وعشرين في صحن القلعة، وأطلع الأمراء بمماليكهم وعساكرهم فدخل الأمراء عند الباشا وسلموا عليه وشربوا القهوة معه وتضاحك معهم، وكان بسيطا وبشوشا ومرحا على نحو ما وعندما بدأ سير الموكب إلى خارج القلعة منحدرا فوق الطريق الحجري نحو المدينة، خرج طوسون باشا وعساكر الولاة والفرسان ثم الأعيان والتجار، وكان المماليك في نهاية الموكب بقيادة شاهين بك الألفي، ولكن قبل أن يخرج المماليك من باب القلعة، أغلق الباب فجأة وانهال عليهم الرصاص من كل جانب، وفهم العساكر المتترسون فوق الأبراج المراد فأطلقوا النار على المماليك في الحال. وخر منهم عشرات صرعي في الحال، وألقى الأخرون بما على أكتافهم من ملابس ثقيلة وركنوا إلى الفرار داخل القلعة , ولكن الرصاص حصدهم فسقطوا کالجراد، ووقع شاهين بك مصابا بطلقة في صدره , فهجم عليه عساكر محمد على وأجهزوا عليه بالطعنات ثم قطعوا رأسه وجروا به إلى حيث كان يجلس محمد على بشرب القهوة، وذلك ليحصلوا من الباشا على الحلوان ! وكان كلما سقط كبير من المماليك قطعوا رأسه وجروا به للباشا التهنئته وتناول المعلوم. وفي الحال. وعندما ترامت أنباء المذبحة إلى العامة في المدينة وإلى عساكر محمد على. سارع الجميع إلى الهجوم على بيوت المماليك. ففسقوا في النساء والجواري وعروهن وسلبوا حليهن. وكان الجندي الأرناؤوطي يحاول استخلاص السوار من معصم السيدة فلا يستطيع فيعمد إلى قطع يدها للحصول على ما يريد، ونهبوا الدور بما فيها من فرش وأثاث وتحف، وسلبوا سكانها نقودهم. وخطفوا الجواري والغلمان، وبعضهم سكن الدور واكنفی بطرد السكان وقتل بعضهم. أما المماليك داخل القلعة فقد قاوموا ببسالة وهجموا على عسكر محمد على بالسيوف، ولكنها كانت مقاومة اليأس الذي انسدت كل السبل في وجهه، وعندما أدركوا أنها النهاية، طلبوا وقف اطلاق النار ريثما يتم لهم إقامة الصلاة الأخيرة، ولقد سمح لهم الجند بتحقيق هذه الأمنية، وسجدوا جميعا على أرض القلعة. وتيمموا لتعذر وجود الماء، ولم يطل أحد منهم في صلاته، بل سارعوا بها وأسرعوا فيها وطلبوا من الله الصفح والغفران، ثم وقفوا أمام الموت بشجاعة، وتلقوا مصيرهم برباطة جأش. ولم ينج من المذبحة الرهيبة إلا أمين بك. الذي تسلق أسوار القلعة بحصانه، وقفز من هذا العلو الشاهق، وقد انكسرت ساقه، ولكنه تمكن من الهرب ولاذ بالفرار في الصحراء الشرقية ولم يلبث أن ظهر بعد ذلك في بلاد الشام !

ولم يكن كل المماليك بالطبع في القلعة لحظة وقوع المذبحة. كان بعضهم غائبا في الأرياف لجباية الفرد والضرائب وحق الطريق وغيرها من المظالم ! وقد انيط أمر هؤلاء بحكام الأقاليم، وقام هؤلاء بالمهمة على الوجه. الأكمل، وقتلوا كل من كان عندهم من المماليك وقطعوا روسهم وأرسلوها إلى القاهرة. أما المرضى وكبار السن فقد طلبوا الأمان من محمد على فأمنهم وعندما تظفر بهم احتجزهم أياما ثم قطع رءوسهم وحشاها تبنا وعلقها على أغصان الشجر في الرميلة وحول القلعة، وقد لجأ ثلاثة من المماليك الشبان إلى بيت الشيخ السادات واستجاروا به، فطلب من محمد على الأمان لهم، فاستجاب لطلب الشيخ السادات، وبعث في طلبهم. فارتابوا في الأمر، وقالوا : إذا كان قد أعطانا الأمان فلماذا يطلبنا ؟ ولكن الشيخ السادات طمانهم وطيب خاطرهم فأذعنوا وطلعوا إلى القلعة، فراهم الجند من ثيابهم وسلبوهم أموالهم، وزجوا بهم في الحبس، ولم تمض أيام حتى ذبحوهم ذبح النعاج وطافوا برءوسهم في حوارى القاهرة !

وهكذا انطوت من تاريخ مصر صفحة المماليك المثيرة الرهيبة الباهرة، وتمت تصفية اعظم حزب سياسي شهدته مصر في القرون الوسطى. واختفت من فوق المسرح السياسي المصري طائفة أضافت إلى أمجاد مصر أمجادا خالدة، وكسبت لها انتصارات بقيت مضيئة على مر التاريخ. وبزغت من صفوفها كواكب تفخر مصر ببنوتهم، قطز والظاهر بيبرس وقلاوون وقنصوه الغورى وطومان بای وعلى بك الكبير ومحمد بن أبو الذهب ومحمد الألفي ! وانتهت إلى الأبد حكاية المماليك، وطابت مصر لمحمد علي !

ولكن محمد على العظيم لم يات عبثا ولم يذهب سدي ! أيقظ مصر من غفلتها ووضع السلاح في أيدى بنيها، وسار بهم من نصر إلى نصر، وجاء بفلاح من الصعيد وأرسله إلى فرنسا، ولما عاد عينه رئيسا لتحرير , الوقائع المصرية، وأمم الأرض الزراعية وانتزع من مصر براثن الاقطاع إلى ملكية الدولة. وفرض التجنيد الإجباري، وخرج الجندي المصري عن مجاله التقليدي حتى في عصوره الزاهية، فحارب في اليونان وفي روسيا القيصرية، وعبر المحيط إلى المكسيك وسكن المصريون لأول مرة الدور الفخيمة، واقتنوا التحف الثمينة، واكتشفوا أنهم ليسوا أدني درجة من صنف الجركس والأروام، واكتشفوا شيئا أهم.... اكتشفوا مصر ! ولذلك بكي المصريون عندما فقدوا محمد على... كانهم فقدوا قطعة من روح مصر. ولعل بكاءهم كان له سبب آخر، لأن محمد على ترك وراءه

حکاما دون المسئولية، جهلة ومتعاظمين، وعلى درجة عالية من التفاهة. ورأوا أن محمد على أضاع حياته في مالا يجدی، وقضى العمر في ما لاينفع، وان الحاكم الفذ هو الذي يستمتع بالسلطة، وبهنا بالسلطان !! ومر سعيد وعباس ومصر في حالة أكثر انحطاطا مما كانت عليه أيام المماليك. فاغلقت المصانع أبوابها، وتحول الجيش إلى أداة للزينة أيام التشريقة ووقت خروج المحمل وفي تشييع جنازات العظماء !

وجاء الخديو اسماعيل، وهو رجل طموح. ولكنه في الوقت نفسه كان يحسب حساباته بدقة ! ولقد رأی أن محمد على تعرض للهلاك عندما خرج يتحدى الغرب، ولذلك قرر أن يهادن الغرب وأن يستفيد منه إلى أقصى درجة ! وما دام الغرب قويا فلابد من أن يكون السبب هو نمط الحياة التي يحياها الغرب، فقرر أن يتحول بمصر إلى الحضارة الغربية، وهنا اخطا اسماعيل في الحساب، لأنه لم يدرك أن الحضارة ليست عملية تجميل فحسب، ولكنها نتاج ظروف موضوعية وتاريخية، وحاصل عمليات اقتصادية وعلمية، ونتيجة مناخ لم يكن متوافرا في مصر، ولم يكن اسماعيل على استعداد لتوفيره لها. ولذلك سنراه يغرق في الديون حتی أذنيه ليجعل من القاهرة قطعة من أوروبا !! ولقد نجح اسماعيل في ذلك بالفعل. شق الشوارع والميادين، وبث النافورات والتماثيل، وأقام المتاحف والمعارض، ومد الجسور على النيل، وشيد القصور الملكية على أرقی هندسة العصر، وافتتح دارا للأوبرا ودارا للتمثيل، والف مجلسا للشورى وجعل من اللغة الفرنسية لغة رسمية للصالونات والنوادي في عاصمة مصر ! ولكن مصيره لم يمتد إلى أبعد من القاهرة، وعينه لم تلحظ وجود فلاحين يعيشون في الريف عيشة أكثر تعاسة من عيشية الكلاب، فلم يكن الريف في نظره إلا مخزنا للطعام، ومستودعا للبشر المستعدين دائما للخدمة، وللصبر !! وعندما مات اسماعيل كانت مصر تغوص في مستنقع الديون وترك وراءه طبقة تعيش على أرض مصر، وتجيد الحديث بالتركية والفرنسية، وترى في استعمال اللغة العربية تخلفا ! والانتساب إلى الفلاحين وصمة ! والانحدار من أصول مصرية إهانة. وكان من مفاخر هذه الطبقة أنهم ينحدرون من اصول قوقازية أو تركية أو جركسية او أرمنية ! وسنرى رئيسا لوزراء مصر أرمنيا اسمه نوبار باشا ؛ وجركسيا قائدا الجيش مصر اسمه السلحدار باشا ؛ وسنرى كل شذاذ الأفاق في كل موقع وفي كل منصب، وستصبح مصر هدفا لهجرة كل حالم بالثراء في أوربا، وكان نصاب ودجال وكلاوچی، اصبحت مصر هي البقرة التي تحلب

اللبن، والدجاجة التي تبيض الذهب، وبدأ عصر المتعة الحقيقية والاسترخاء الطبيعي، عصر الريف وتجار القطن الأجانب، وسماسرة البورصة، إنه الانفتاح بلا قيود ولا سدود..

وعندما جلس توفيق على عرش مصر كانت مصر تغلى في الأعماق، وكان الشارع المصري يعاني من الضياع، والمواطن المصرى بعاني من الاذلال والجندي المصري بعاني من غطرسة الأرستقراطية العسكرية التي تتكون أساسا من ضباط أجانب خليط من الجركس والأرناؤوط والألبان..

وفي هذه الأثناء مر على مصر رجل كالأنبياء، قاطع السيف، واضح كالشمس، هو جمال الدين الأفغاني، وتعجب من الحال التي وصلت إليها مصر، شعب صابر ومسالم، وحاكم فاجر، وعصابة من اللصوص الأجانب اوجلس الرجل الذي كانت الثورة حرفته على مقهى متانيا بميدان العتبة الخضراء يبث تعاليمه في تلاميذه الذين التفوا حوله يعدون أنفاسه، ويسجلون كل حرف يخرج من بين شفتيه ! وكان الرجل يصرخ في وجه تلاميذه، عجبي على هؤلاء المصريين يجرى النيل في بلادهم بينما ابدائهم المتسخة تفوح برائحة العفن ! إنكم تعيشون عيشة البهائم بينما جلادوكم بعيشون عيشة الملوك !! إنه خير لكم لو توقفتم عن شق بطن الأرض لتزرعوها وتشقوا صدور أعدائكم، ولو انتصرتم لغنمتم كل شيء ولو خسرتم فلن تخسروا إلا البؤس والفاقة !! وكانت دائرة التلاميذ تتسع كل يوم، حتى ضاق المقهى بالرجل وتلاميذه، وكانوا خليطا من أنواع شتی، طالب الدين محمد عبده، والجندي أحمد عرابي، والشاعر محمود سامي البارودي، والفلاح محمد عبد العال الصعيدي، والصعلوك الظريف عبد الله النديم، ولفتت الندوة انتباه السلطة، وجذبت رائحتها أنوف جواسيس الحكومة، وكان الأمر أكثر من أن يحتمل ! وذات صباح هجمت عساكر الخديو على دار الأفغاني، واختطفت الرجل من فراشه. وأبعدته عن مصر، وظنت أن الأمور قد سارت في الطريق الذي حددته، ولكن الأمر الذي تركه الأفغاني في مصر كان أكبر من كل تصورات السلطة، ومئات الرجال الذين كانوا يلتفون حوله على مقاعد متناثرة في مقهى متاتيا، تحول كل منهم إلى جمال الدين الأفغانی ! وإذا كان الثائر قد مضى فإن تعاليمه قد بقيت، وكلماته الخالدة قد استقرت في الأرض..

والقائد الحقيقي ليس هو الذي يقود في حياته، ولكن هو الذي يترك خلفه مصابيح تضيء الطريق من بعده، وما أكثر المصابيح التي تركها الأفغاني، وهو لم يترك مصابيح فقط، ولكنها كانت مصابيح ومواد ملتهبة في أن واحد، وسرعان ما تفجر الأمر كله عن بركان سيهز مصر هزا عنيفا، وسيشعل النار في كل شيء، سيزلزل الأرض تحت أقدام الطغاة، وسيدهش العالم كله ! وسيثبت حقيقة مصر الأبدية. إن الحياة تمضي بها

في هدوء حتى يخيل للبلهاء أنها في غيبوبة، ثم لا تلبث أن تنفجر فجأة. ويكون لانفجارها دوی عظيم، وكان الانفجار هذه المرة أعنف مما تصور البعض، وأخطر مما تنبأ به البعض... إنها الثورة !

 محمود السعدني

    Dr.Radwa
    Egypt Air