جاء توقيع الاتفاق التجاري بين بريطانيا وكندا ليهدئ من وتيرة الضغط الذي يعيشه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، في ظل المفاوضات المتعثرة مع الاتحاد الأوروبي للتوصل إلى اتفاق لمرحلة ما بعد "بريكست"، والذي يتزامن مع تزايد الضغوط الداخلية من جراء الأوضاع الاقتصادية الصعبة الناتجة عن وباء "كورونا".
وكانت بريطانيا وقعت، السبت الماضي، مع كندا اتفاقًا تجاريًا مؤقتًا لمرحلة ما بعد "بريكست"، من شأنه تعزيز المبادلات التجارية بقيمة 20 مليار جنيه إسترليني (22,4 مليار يورو)، ويوفر آلاف فرص عمل، ووصف جونسون الاتفاق بأنه "رائع" بالنسبة لبلاده معبرا عن أمله في أن "يعزز" الصادرات البريطانية إلى كندا.
ومن المقرر أن يدخل الاتفاق حيز النفاذ في أول يناير القادم مع انتهاء فترة "بريكست" الانتقالية، والتي تلتزم خلالها بريطانيا بالقواعد الأوروبية بعد مغادرتها الاتحاد الأوروبي رسميا في 31 يناير الماضي.
ويعد هذا الاتفاق هو الثاني من نوعه الذي تتوصل إليه بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، حيث وقعت الاتفاق الأول مع اليابان في 23 أكتوبر الماضي، وبموجبه تعفى 99% من الصادرات البريطانية لليابان من الرسوم الجمركية، كما أن من شأنه زيادة التجارة بين البلدين بواقع 15.2 مليار جنيه استرليني (19.9 مليار دولار) على المدى الطويل مقارنة بعام 2018.
ويبدو واضحا أن حكومة جونسون تعطي أهمية أولية لإبرام اتفاقيات تجارة حرة مع دول العالم وإبرازها باعتبارها إحدى أهم المميزات التي حصلت عليها البلاد إثر خروجها من الاتحاد الأوروبي، ورغم أن فوز الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن لم يكن أفضل خيار لحكومة جونسون، إلا أن الأخيرة تعول كثيرا على اتفاق التجارة الجاري التفاوض بشأنه مع الولايات المتحدة لتعويض أي تأثير سلبي قد يلحق بالاقتصاد من جراء "بريكست"، لاسيما في ظل صعوبة التوصل إلى اتفاق تجاري مع الجانب الأوروبي.
ومع قرب انتهاء الفترة الانتقالية، تتزايد أجواء القلق من الغموض الذي يخيم على مستقبل العلاقات بين بريطانيا وأوروبا في ظل عدم إحراز جولات التفاوض أي تقدم ملموس، رغم ما وصفته رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بأنه تقدم "متواضع" خلال مفاوضات الأسبوع الماضي، والتي واجهت معوقات إثر اكتشاف إصابة بوباء كورونا في صفوف فريق التفاوض الأوروبي، أدت إلى تعليق المفاوضات المباشرة.
واستؤنفت جولة المفاوضات مجددا أمس وسط أجواء من الترقب والقلق مع ضيق الوقت وقرب انتهاء المهلة، حيث أنه في حالة عدم التوصل إلى اتفاق ستخضع علاقات الجانبين إلى قواعد منظمة التجارة العالمية مع إعادة فرض رسوم جمركية مرتفعة، فضلا عن عقبات متعلقة بالحصص والمعايير التقنية والصحية، حيث ستخضع البضائع المتبادلة لعمليات تدقيق شديدة، وهو ما يثير المخاوف من حدوث اضطرابات قد تؤدي بدورها إلى نقص في الأغذية والأدوية.
ويتفق المراقبون على أن الأيام القليلة القادمة ستكون حاسمة في مستقبل العلاقات بين لندن وبروكسل، فالطرفان في حاجة للتوصل بشكل عاجل لاتفاق لتجنب تعطيل التجارة بينهما، والتي يزيد حجمها عن تريليون دولار، وهو ما دفع حزب العمال البريطاني المعارض لمطالبة رئيس الوزراء بوريس جونسون بالتدخل شخصيا في محادثات التجارة مع الاتحاد الأوروبي لضمان التوصل إلى اتفاق قبل انتهاء الفترة الانتقالية، حيث رأوا أن الغموض المستمر بشأن ما إذا كان يمكن التوصل إلى اتفاق يعرقل الاقتصاد ويسلط الضوء على الضرر الذي يمكن أن يلحق بالشركات وبعلاقات بريطانيا مع الدول الأوروبية في حالة الفشل في التوصل إلى اتفاق.
وتؤكد التقارير والتحليلات الصحفية في لندن أن المشهد البريطاني حاليا يبدو مضطربا، وأن جونسون يخضع لضغوط قوية خلال المرحلة الراهنة لإنجاز اتفاق مع الجانب الأوروبي قد يجنب البلاد أضرارا اقتصادية لاسيما في ظل ما يعانيه الاقتصاد من جراء وباء كورونا.
في هذا السياق، أفاد تقرير لشركة "كاي بي أم جي" العالمية أن تداعيات "بريكست" ستؤثر على بريطانيا أكثر من غيرها من بين القوى الاقتصادية المتقدمة العام المقبل، موضحا أن الفشل في التوصل إلى اتفاق تجاري مع الاتحاد الأوروبي سيخفض بأكثر من النصف معدل تعافي بريطانيا الاقتصادي من وباء كورونا خلال العام المقبل، إلى 4,4 % مقارنة بتحسن نسبته 10,1% في حالة التوصل إلى اتفاق.
كما أشار التقرير إلى أن "بريكست" قد يحرم النمو الاقتصادي البريطاني العام المقبل من عشرات المليارات من الجنيهات الاسترلينية، فيعيق تعافيه من أكبر ركود تعرض له على مدار تاريخه، حيث من المتوقع أن يحرم "بريكست" نمو بريطانيا العام المقبل من 2.9 نقطة مئوية، مع عدم وصول الاقتصاد إلى مستوياته السابقة لفيروس كورونا قبل نهاية عام 2022.
وفي ضوء ما سبق يبدو واضحا أن بريطانيا مقبلة على مرحلة صعبة مع تزايد المخاوف وتأزم المفاوضات مع الجانب الأوروبي، وهو ما تحاول بريطانيا تعويضه بعقد صفقات تجارية مع مختلف دول العالم، ورغم تأكيد جونسون على أن بلاده "ستزدهر" حتى دون التوصل إلى اتفاق وبوجود رسوم جمركية إلا أن جمهور المراقبين يجمع على أن بريطانيا ستشهد الفترة المقبلة مجموعة من التحديات الصعبة، حيث يرون أنه حتى في حالة التوصل إلى اتفاق مع الاتحاد فإن بريطانيا لن تحصل على نفس المزايا التي كانت تحصل عليها من عضويتها في الاتحاد، وسيتعين على المصدّرين البريطانيين التعامل مع مجموعة كبيرة من المعاملات الجديدة المرتبطة بالجمارك، وهو ما سيكون له تداعيات واضحة على اقتصاد البلاد، لاسيما في ظل الأوضاع المتردية التي يشهدها مع تفاقم "كورونا".