الإثنين 29 ابريل 2024

أيام صعبة في عاصمة الأهوال

أخرى25-11-2020 | 10:44

سليمان عبدالعظيم

سليمان.. تروح بيروت ؟.. هكذا سألني الأستاذ مكرم محمد أحمد رئيس تحرير مجلة المصور ذات يوم في يوليو 1989 .. بيروت دلوقتي في عز الحرب الأهلية ..هكذا جاء تعليقي الأول على هذا السؤال المباغت.. أنا كنت فاكر يا أستاذ مكرم إنك هتقولي معي دعوة إلى لندن  لشخصين.. خد المدام وسافروا إنت ما سافرتش ..إنت قضيت شهر العسل في الشغل.. أنا مأمن لك كل حاجة في بيروت مع شخصية لبنانية صديقة لمصر.. هو هياخد باله قوي منك..وأنا هاعمل لك بوليصة تأمين بـ 100 ألف جنيه !"


لم أرد بالطبع.. تركني رئيس التحرير ذاهبا إلى مكتبه قائلا : تعالى قولي رأيك إيه..هي 10 خطوات ولقيته وقف وبيقولي : خد معاك فاروق عبد الحميد يصور الرحلة.


 عرض على الأستاذ الفكرة  وقرر  أن يختار المصور الصحفي..  فقد كان يعرف جيدا بحكم عملي معه منذ 1981 أنني لن أترك أبدا تلك الفرصة الذهبية تفلت من يدي مهما كانت المخاطر والأهوال التي سوف أواجهها في ذلك البلد الذي كان كل العرب يحسدون أهله علي مدنيته وتحضره وسحره وثقافته وجماله.


سافرت دون أن أوقع على بوليصة التأمين.. تركتها أمانة لدي الأستاذ عبد الحميد حمروش نائب رئيس مجلس اإدارة.. سافرنا فاروق رحمه الله وأنا إلى دمشق على أرخص طائرة شركة الطيران الرومانية .. كان ﻻبد من الشام ..سوريا لأن كل مطارات لبنان كانت مغلقة منذ أن بدأت الحرب الأهلية بين الفصائل والمليشيات اللبنانية المتحاربة عام 1975.. في دمشق قضينا يومي الخميس والجمعة في فندق الشام .. عندما عرف السيد أمين أبو الشامات محافظ دمشق أن هناك بعثة صحفية مصرية أرسل مندوب العلاقات العامة يدعونا للقائه على العشاء.. كان ﻻزم نعرف بوجودكم حتي نرحب بكم.. كتر ألف خيرك سيادة المحافظ.. عدنا إلى الفندق لنعرف أن المحافظة أبلغت إدارة الفندق بأننا ضيوف المحافظ .


صباح السبت ركبنا سيارة مخصوص لتنقلنا عبر طريق الشام إلى حيث عاصمة بلد الأهوال.. بيروت.


ذهبنا إلى شارع الحمراء .. نزلنا بفندق صغير صاحبه كان يعيش في الإسكندرية.. كانت بيروت قد احترقت تقريبا طوال سنوات الحرب الأهلية الطويلة.. لم يعد هناك مكان ﻻ تظهر فيه آثار الرصاص أو دانات المدافع.. بحثت عن مقر مجلس الوزراء حتي أجري حوارا مع الدكتور سليم الحص.. لم أجده..وجدت رئيس الوزراء يمارس عمله في مقر آخر بعد أن وصلت طلقات المدافع إلى مقره  الرئيسي.. بعد ساعة ونصف الساعة انتهي أول حوار.. عدنا إلى الفندق لأجد مقاتل لبناني يحمل كلاشينكوف يقتحم الفندق ويسألنا في غضب مين منحكم الإذن..  تدخل صاحب الفندق وطلب مني 5 دوﻻرات أخذها المقاتل الرعديد وانصرف.. ده واحد من أشاوس وليد بك.. يقصد وليد جنبلاط زعيم طائفة الدروز ورئيس الحزب التقدمي اﻻشتراكي.


مساء السبت نزلنا نتمشي في شارع الحمراء بدون الكاميرا طبعا خوفا من مصادرتها من جانب مقاتلي حزب وليد بك كما يلقبه اللبنانيون.. الشارع الذي صورته الأفلام بعد حرب 1967  الذي كان الذي يضم كل الكازينوهات والنوادي الليلية أصبح في خبر كان.. كل شئ مغلق بأمر أي ميلشياوي أزعر.. سبحان الله.. شارع الحمراء المشهور بالراقصات والقمار والزبائن من كل صوب وحدب أصبح مقفرا إﻻ من مليشيات زعيم الدروز وليد جنبلاط.


صباح الأحد ذهبنا إلى مقر السفارة المصرية بالرملة..هناك وجدنا القنصل العام أحمد عاطف السمادوني في انتظارنا.. تركنا الفندق وأقمنا في شقة القنصل الذي كان مضيافا أقصي الحدود.


الإثنين.. جاءتنا السيارة المرسيدس الخضراء التي حاولت ميلشيات الحرس الثوري الإيراني اغتيال صاحبها صديقي الأكبر حسن صبرا صاحب ورئيس تحرير مجلة الشراع اللبنانية.. قبل سفرنا إلى بيروت سبقتنا تعليمات الأستاذ حسن الذي كان مقيما إقامة دائمة في القاهرة إلى الأستاذ جورج سكرتير التحرير بتجهيز المرسيدس. 


 إلى بيروت الشرقية ذهبنا للقاء العماد ميشال عون في مقره الحربي بقصر بعبدا..عندما انتهي الحوار همس لي السكرتير الخاص للعماد عون هل بمقدورك نقل رسالة إلى د. أسامة الباز لرفعها للرئيس حسني مبارك.. لم أتردد لحظة. قلت طبعا أقدر.


قضيت في بيروت الشرقية ثلاثة أيام أجريت فيها حوارات مهمة مع مسؤلين ووزراء وقيادات بارزة.. أبرزهم وأشهرهم كريم بقرادوني فيلسوف حزب الكتائب اللبنانية وبطرس حرب وزير السياحة ثم اﻻقتصاد وسمير جعجع.. وكثيرون غيرهم.. لم نبيت في بيروت الشرقية رغم عروض هائلة مرحبة ومغرية من قياداتها وزعمائها.


في بيروت الغربية حان موعدي المؤجل مع سماحة السيد محمد حسين فضل الله.. الزعيم الروحي لحزب الله اللبناني.. أدخلنا حرسه الخاص إلى حيث كان يقبع في مملكته الخاصة في الضاحية.. كل شيعة لبنان يقدسون هذا الرجل.. همس سكرتيره الخاص لي : من فضلك قل سماحة السيد قبل كل سؤال..ممكن؟!.. طبعا أجبته.. وبدأ الحوار السياسي بيننا الذي بدأ ساخنا وانتهي كذلك.. وكان تعليق سماحة السيد الأخير: اسئلتك كانت شقية جدا ..!


 في اليوم التاسع وجدت أمامي في السفارة  حسين القوتلي.. مدير دار اﻻفتاء الذي تصورت أنني في لبنان سوف أكون تحت حمايته منذ اللحظة الأولي.


إلى شمال لبنان شددت الرحيل.. ما كان ممكنا أن اكون بلبنان وﻻ التقي بالرئيس سليمان فرنجيه رئيس جمهورية لبنان الذي شهدت سنوات رئاسته بدايات الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975.


أقام لنا مفتي طرابلس وشمال لبنان الشيخ طه صابونجي وليمة عشاء فاخرة  تكريما لبعثة مؤسسة دار الهلال المصرية حاورت بعدها السبد عمر كرامي رئيس الوزراء فيما بعد 1989 شقيق الزعيم اللبناني العتيد رشيد كرامي أشهر رئيس وزراء لبناني..


كان أبرز ما عرفته في تلك الرحلة الصعبة ، التي كان ثمنها إذا توفانا الله بوليصة تأمين لي و لفاروق ب 100 ألف جنيه ، أن اتفاق جنتلمان كان معقودا بين الطرفين المتحاربين في غرب وشرق بيروت بأن يتوقف القصف المتبادل بينهما حينما تكون هناك وفود صحفية وإعلامية في خط التماس بينهما. 


 في فيلا السيد حسين الحسيني رئيس مجلس النواب اللبناني الذي كان أخر لقاءاتي مع زعماء لبنان الممزق عبرت للرجل عن مخاوفي من أن تصادر القوات السورية ورجال مخابرات العميد أشهر غازي كنعان قائد القوات السورية في لبنان جميع أشرطة التسجيل التي تحمل حواراتي الصحفية وأفلام فاروق..ولكن اتصالا تليفونيا من رئيس مجلس النواب بنائب غازي كنعان كان كفي لإزالة كل مخاوفي بينما كانت السيارة تعود بنا عبر طريق الشام إلى مطار دمشق..عائدين إلى القاهرة.


في القاهرة..اكتشفت أن الأستاذ حمروش عمل بوليصة تأمين ب 15 ألف جنيه فقط.. غضبت طبعا وعبرت عن ذلك للأستاذ مكرم..دخل معي وقال للأستاذ حمروش أنا مش قلت لك أعمل البوليصة ب 100 ألف.. رد حمروش أصل لقيت القسط غالي قوي.. فكان ردي بغضب شديد: وأنا عمري أيضا غالي قوي يا حمروش بك!!


في القاهرة سرت بعد عودتنا بسبارتي الـ 131 في شارع فصر العيني وأنا أفكر .. أنه يشبه تماما خط التماس الواصل بين المليشيات المتحاربة.. اللبنانيون المقيمين في بيروت الغربية واللبنانيون المقيمون في بيروت الشرقية  .. تخيلوا !

حفظ الله مصر

    Dr.Randa
    Dr.Radwa