السبت 1 يونيو 2024

«الهلال اليوم» تنشر جزءًا من «أحجار على رقعة الأوراسيا»

فن25-11-2020 | 15:59

تنشر بوابة «الهلال اليوم» جزءًا من الفصل الثالث من كتاب "أحجار على رقعة الأوراسيا"، للكاتب عمرو عمار، والصادر عن دار سما للنشر، وجاء فيه:


بوش الأب (1989-1993)

انتقد حاكم ولاية أركنساس (بيل كلنتون) في خطابه أمام جمعية السياسة الخارجية في نيويورك، في الأول من أبريل عام 1992، السياسات الخارجية للرئيس جورج بوش الأب، وصفها بالسياسات غير واضحة المعالم والأهداف، قائلًا:

"إن بوش دعا إلى نظامٍ عالميٍّ جديد، دون أن يحدد الهدف الأمريكي الجديد من هذا النظام، فالرئيس فشل في تحديد أهدافٍ واضحة للسياسة الخارجية الأمريكية".


وكان كلينتون محق في انتقاد فترة حكم بوش، الذي وجد صعوبات عديدة في تحديد استراتيجية الإدارة الجديدة تحت قيادته؛ ولهذا تأخر بوش في إصدار وثيقة استراتيجية الأمن القومي للبيت الأبيض، مدة عام كامل على توليه مهام منصبه، إلى أن صدرت الوثيقة في الأول من مارس عام 1990؛ وقد وصفت بوثيقة (انفصال الشخصية) إذ كانت البيئة الاستراتيجية، والواقع في أوروبا الشرقية، متغيرًا بشكلٍ سريع، مما جعل بنود عديدة من وثيقة بوش قديمة، بالنسبة للمستجدات التي حدثت بعد صدورها(1).


ربيع براغ... الثورة مستمرة

بانتهاء الحرب الباردة، وتحلل الاتحاد السوفيتي، وانسحاب كافة أعضاء حلف وارسو، دولة تلو الأخرى، إلى أن تم حله رسميًّا في يوليو من عام 1991، تغير دور حلف الناتو من الالتزام بمهمة الدفاع عن أراضي دول التحالف، في مواجهة حلف وارسو، إلى التدخل العسكري في النزاعات العرقية التي ظهرت بدول وسط وجنوب أوروبا بعد تفكيك الكتلة الشيوعية، بفعل مطارق الديمقراطية الغربية، تمامًا مثلما تغيرت استراتيجية حرب اللاعنف من الدفاع عن أوروبا من غزوٍ محتمل لحلف وارسو، إلى خطط اختراق سيادة الدول وإسقاط الأنظمة، بفعل مطارق الديمقراطية الزائفة.


ويُعد تفكك (جمهورية تشيكوسلوفاكيا) بفعل هذه المطارق، من أبرز معالم عصر بوش الأب، ما عُرف بـ (الثورة الناعمة أو المخملية) عام 1989، حينما حُشدت شوارع براغ بالطلاب، رافعين شعارات العصيان المدني وفق تكتيكات جين شارب، من أجل إسقاط حكم الجمهورية الشيوعية، كامتدادٍ طبيعي لما عُرف تاريخيًّا بـــ (ربيع براغ) الذي بدأ عام 1968، حينما شيد الحزب الشيوعي السلوفاكي بزعامة الإصلاحي (ألكسندر دوبتشيك) المسار الأول على طريق الإصلاح الديمقراطي، بالمنظور الغربي (الاشتراكية الديمقراطية).


ورغم وأد هذه الإصلاحات من قبل حلف وارسو بعد ثمانية شهور، باجتياحٍ عسكري للبلاد بقيادة موسكو، إلا أن بذور إصلاحات دوبتشيك ظلت تتكاثر داخل جسد الجمهورية الاشتراكية، عامًا تلو الآخر حتى اشتعلت الثورة المخملية.


وقادت الثورة إلى الانفصال الرسمي بين التشيك، وسلوفاكيا، في يناير من عام 1993، أي بنهاية حكم بوش؛ وهكذا جاء تفكك الجمهورية الاشتراكية عبر ثورة ملونة، نتيجة اختراق أمريكي لهذا المجتمع الاشتراكي طيلة 26عامًا.


ويمكن القول أن أدبيات ربيع براغ عام 1968، لم تضع بذرة فناء جمهورية تشيكوسلوفاكيا فحسب، بل دقت دعائم مطارق الديمقراطية التي فككت أيضًا جميع الكتلة الشيوعية في أوروبا الشرقية، ما بعد الحقبة السوفيتية، ومن ثم تحويلها إلى دويلات صغيرة منهكة اقتصاديًّا، وضعيفة عسكريًّا، لتخضع بنهاية المطاف إلى سلطة الاتحاد الأوروبي من بروكسل.


البلقنة

أما جمهورية يوغسلافيا الاتحادية الاشتراكية (جنوب شرق أوروبا) التي تأسست تحت زعامة (جوزيف تيتو) خلال الحرب العالمية الثانية، وضمت العديد من القبائل السلافية، بجوار عرقيات أخرى وديانات متعددة، فقد بدأت مطارق الديمقراطية، واقتصاد السوق الحرة، وتوابع عسكرة الحرب الباردة، تضرب جمهورياتها أيضًا خلال عصر بوش، بما عرف بـ (عملية البلقنة) التي شهدت حروبًا دموية وتدخلًا عسكريًّا أمريكيًّا تحت قيادة حلف شمال الأطلسي في مخالفةٍ لميثاق الحلف، والأهداف التي تأسس من أجلها؛ وهو ما أدى إلى انفصال كافة دول الجمهورية الاشتراكية تباعًا (صربيا – سلوفانيا - كرواتيا -  البوسنة والهرسك - الجبل الأسود-  مقدونيا).


وعلى الرغم من تفتيت الكتلة الشيوعية في أوروبا الشرقية تباعًا ما بعد الحقبة السوفيتية، وخلال عصر بوش الأب، لكن ظل هناك أنظمة حكم لهذه الدويلات الوليدة، تابعة للأيديولوجية الشيوعية، وتدين بالولاء لموسكو، وهو ما استتبعه استدعاء مجدد لمطارق الديمقراطية الغربية، بأدبيات جين شارب، وحروب اللاعنف، عبر تنظيم ثورات ملونة جديدة، اشتعلت في أوروبا الشرقية فيما بعد، للإطاحة بهذه الأنظمة، لصالح الديمقراطية الغربية تحت إشراف وكالات زعزعة الاستقرار وتمويلات هيئة (نيد) ومنظمة المجتمع المفتوح لسوروس.


أي أن أوروبا الشرقية ما بعد الحقبة السوفيتية، سقطت فريسة العولمة الغربية على مرحلتين: الأولى، شهدت تفكيك الكتل الشيوعية المتناثرة على المساحة الشرقية للقارة العجوز، بفعل ربيع براغ.


وأما المرحلة الثانية، كانت مرحلة الثورات الملونة، بأسلوب سقوط قطع الدومينوز المتتالية، والتي قضت على أنظمة الحكم الاشتراكي لصالح اقتصاد السوق الحرة، والنمط الرأسمالي، سنشير لها لاحقًا.


وعلى هذا بدأ النفوذ السياسي والعسكري للولايات المتحدة الأمريكية يمتد عبر المنطقة المركزية لماكيندر، حتى وصل إلى حدود اللاعب الشرقي على الجانب الآخر من رقعة الأوراسيا (روسيا) حيث انضم كلٌّ من المجر، والتشيك، وسلوفاكيا مع سلوفانيا، إلى الاتحاد الأوروبي عام 2004، بجوار لاتفيا وليتوانيا (دولتان من دول البلطيق على حدود موسكو).


وفي العام 2007، انضمت بلغاريا، أحد الجمهوريات الاشتراكية المنهارة بفعل مطارق الديمقراطية، تبعتها جورجيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، ومؤخرًا انضمت كرواتيا عام 2013 هكذا ابتلعت أمريكا تباعًا دول الاتحاد السوفيتي القديم، عبر الأذرع السياسية، والعسكرية، والاقتصادية للاتحاد الأوروبي... كيف حدث هذا؟!!


بلغاريا وحرب اللاعنف

العام 1991، في عهد بوش الأب، شهدت بلغاريا أحد دول منطقة البلقان (ثورة ملونة) ناجحة، نظمتها وكالة الاستخبارات المركزية، وواجهتها المدنية، الصندوق الوطني للديمقراطية (نيد) من أجل القضاء على بقايا المعسكر الشيوعي داخل بلغاريا، تلك الدولة الواقعة على البحر الأسود في جنوبي شرقي أوروبا.


وبعد تحلل الاتحاد السوفيتي، كان الشعب البلغاري لا يزال متحفظًا من العواقب الناجمة عن التحول من الاتحاد السوفيتي، إلى اقتصاد السوق الحرة، وهو ما دفعه للتصويت لصالح الحزب الشيوعي البلغاري، في انتخابات شهد لها مراقبو المجتمع الأوروبي بالانتخابات النزيهة الديمقراطية، وفي ضربةٍ مؤلمة لوزير الخارجية الأمريكي (جيمس بيكر) الذي طار إلى بلغاريا إبان الانتخابات، لدعم الحزب البلغاري الموالي لواشنطن.


وكان الصندوق الوطني للديمقراطية (نيد) حاضرًا آنذاك في بلغاريا لدعم وتمويل ثورة ملونة قادتها المعارضة البلغارية الخاسرة في الانتخابات، والتي نجحت في فرض الفوضى المنظمة، وفق تكتيكات العصيان المدني لشارب، طيلة ستة شهور كاملة، إلى أن تم انتخاب (جيليو ميتيف جيليف) الموالي لواشنطن، من قبل البرلمان البلغاري، كرئيسٍ جديد للبلاد، وقد توفي جيليو في العام 2014، وتم تأبينه من قبل وسائل الإعلام الغربية، بصفته أول رئيس ديمقراطي منتخب في بلغاريا، وكأحد أبرز المعارضين إبان الحكم الشيوعي للاتحاد السوفيتي. 


وفي هذا التوقيت كانت هيئة (نيد) تعتمد في أنشطتها داخل أوروبا الشرقية بشكلٍ أساسي على الدعم المالي والتقني، المقدم من مؤسسة (الكونجرس الحر) التي أسسها مهندس الانقلابات في أمريكا اللاتينية (بول وايريتش) من الجناح اليميني المحافظ، وهي مؤسسة تابعة للكونجرس الأمريكي، وتعمل تحت غطاء تقديم الأبحاث والتعليم الحر، ظلت تحت إدارة الجمهوريين، حتى حل محلها مؤسسة المجتمع المفتوح لصاحبها (جورج سوروس) تحت إدارة الديمقراطيين فيما بعد.