تنشر بوابة «الهلال اليوم» جزءًا من الفصل الثالث من كتاب "أحجار على رقعة الأوراسيا"، للكاتب عمرو عمار، والصادر عن دار سما للنشر، وجاء فيه:
هروب ساكاشيفيلي
بنهاية الفترة الرئاسية عام 2013، هرب ساكاشيفيلي إلى أوكرانيا، خوفًا
من الاعتقال، على خلفية تهم بالفساد وجهتها له السلطات الجورجية، التي أسقطت
الجنسية عنه، إلى أن تم تعيينه من قبل حليفه المقرب الرئيس الأوكراني (بترو
بوروشينكو) كحاكم على إقليم أوديسا عام 2015، بعد منحه الجنسية الأوكرانية.
انقلب ساكاشفيلي على بوروشينكو، وقاد مظاهرات
عديدة ضده، تتهمه بالفساد، إلى أن تم القبض عليه في ديسمبر من عام 2017، بعدما
نشرت النيابة تسجيلات صوتية ومصورة، تثبت تلقي ساكاشفيلي مئات الآلاف من الدولارات
من منظمات إجرامية، وعلى هذا تم إسقاط الجنسية الأوكرانية أيضًا عن ساكاشفيلي، وتم
ترحيلة خارج أوكرانيا في فبراير من عام 2018، ويعيش الرجل الآن في هولندا بدون
جنسيةٍ تذكر، مستندًا على جنسية زوجته الهولندية وأبنائه منها.
برتقالية أوكرانيا
من وجهة نظر (برجينسكي) في كتابه (لوحة الشطرنج الكبرى) استقلال
أوكرانيا، وروسيا البيضاء، ودول البلطيق، عن روسيا بعد تحلل الاتحاد السوفيتي،
يعني انتهاء الرواية الروسية التي كثيرًا ما أعلنت عن نفسها كحاملةٍ شعلة الشعوب
السلافية الشرقية، وقت أن كانت في روسيا وعاصمتها كييف، إبان العصور الوسطى،
والمسماة بروسيا الكييفية.
وبالمنظور الجيوسياسي الروسي، انفصال أوكرانيا، يعنى حرمان موسكو من
السيطرة الكاملة على البحر الأسود، وخسارة الروس لاقتصادٍ زراعي وصناعي غني وضخم،
بالإضافة إلى 52 مليون) مواطن من السلافيين، يرتبطون إثنيًّا، ودينيًّا بروسيا،
شكلوا معًا ذات يومٍ قوة للإمبراطورية الروسية.
وبالتالي فأي محاولة من قبل موسكو للسيطرة على رقعة الأوراسيا دون
أوكرانيا، سيجعلها تدخل وحيدة في صراعاتٍ مع غير السلافيين المستثارين بالنزعات
القومية والدينية، على حدودها الجنوبية، كما أن أكثر من (20 مليون) شخص يتحدثون
اللغة الروسية، أصبحوا مواطنين في بلادٍ أجنبية محكومة من قبل حكوماتٍ قومية، بعد
تحلل الاتحاد السوفيتي.
هذا ما عملت عليه الولايات المتحدة الأمريكية بنهاية الحرب الباردة؛
إذ تُعد أوكرانيا بالنسبة إلى واشنطن محورًا جيوسياسي هام، إذا ما أرادت السيطرة
على رقعة الأوراسيا، وإضعاف النفوذ الروسي عليها؛ لكل هذا كانت كييف وما زالت
هدفًا للثورات الملونة، والخيط الذي يشد ويجمع الصراعات الدائمة بين روسيا والغرب
حتى الآن.
بوبوفيتشي في ميدان الاستقلال
انتهت الفترة الرئاسية الأخيرة للرئيس الشيوعي الأوكراني (كوتشما)
وجاءت نتيجة الانتخابات الرئاسية التي بدأت في أكتوبر من عام 2004، بإعلان فوز
رئيس الوزراء (فيكتور يانوكوفيتش) الموالي لموسكو، على زعيم قوى المعارضة
الأوكرانية (فيكتور يوشينكو) الموالي لواشنطن.
يوشينكو كان مصرفي غير معروف في البلاد، إلى أن تم تعيينه رئيسًا
للوزراء عام 1999، بضغطٍ على الرئيس الأوكراني كوتشما، من قبل الدول المانحة في
أوروبا الغربية، بالرغم من ذلك أصدر كوتشما قراره بإقالة يوشينكو بعد (18 شهر) من
توليه السلطة، بعدها انضم يوشينكو إلى قوى المعارضة، حتى أصبح زعيم المعارضة
الأوكرانية الموالية للغرب، والرافضة لانفراد أعضاء الحزب الشيوعي الأوكراني
بمقاليد السلطة منذ الاستقلال عام1991.
وكعادة شرارة الثورات الملونة، ادعى أتباع يوشينكو تزوير الانتخابات، وقاموا باحتجاجاتٍ
جماعية عرفت باسم (الثورة البرتقالية) في 22 نوفمبر 2004، حينما أعلنوا العصيان
المدني، وارتدوا الألوان البرتقالية، ورفعوا شعار حركة أوتبور الصربية (القبضة
المغلقة) واحتلوا المباني الحكومية والسيادية.
آنذاك ظهرت أدبيات حرب اللاعنف على سلوكيات الثوار، متمثلة في أغانٍ،
وفرقٍ موسيقية، وألعابٍ نارية، ومسابقاتٍ ترفيهية، وندواتٍ تثقيفية، ومحاضراتٍ
تعليمية في ميدان الاستقلال، كما هو منصوص عليه في كتاب جين شارب السابق، ومن جهةٍ
أخرى كانت القناصة المجهولة الخاصة بحروب اللاعنف، تتخذ مواقعها فوق سطح معهد
الموسيقى، تقنص بنادقها الحديثة أشخاصًا تم اختيارهم بعنايةٍ لتأجيج مشاعر الثوار،
وتأليب الرأي العام الأوكراني.
بينما كان زعيم الثورة الصربية (سيرجي بوبوفيتش) حاضرًا طوال الوقت،
يطل من شرفة مكتبه في بلجراد على ميدان الاستقلال في كييف، ويتابع كيف يقوم ثوار
كييف باتباع إرشادات وتعاليم منظمة كانفاس، وكيف يثوروا وفق أدبيات شارب!
أحداث الثورة البرتقالية قسمت البلاد إلى معسكرين مناهضين: الأول،
يمثله قطاع السكان الشرقيين الموالين للرئيس يانوكوفيتش، وهم من صوتوا لصالح
الجذور الروسية، أما المعسكر الثاني، وهم قطاع السكان في غرب البلاد، من الموالين
لزعيم المعارضة يوشينكو، وهؤلاء صوتوا مناهضةً لروسيا، ولاعتقادهم في أوكرانيا
الغربية القديمة.
آنذاك أصبحت البلاد على شفا حربٍ أهلية، حتى صدر
حكم المحكمة العليا في 3 ديسمبر، والمفضي ببطلان الانتخابات، وإجراء جولة جديدة
منها في 26 ديسمبر، حصل فيها يوشينكو على (52%) من الأصوات الصحيحة، وتولى حكم
البلاد في 23 يناير 2005.
وحول دور منظمات المجتمع المدني، وهيئة (نيد) وأموال جورج سوروس، في
الثورة البرتقالية؛ كتب كبير الباحثين في منظمة فريدوم هاوس (أدريان كارتاتكيسيكي)
في صحيفة نيويورك تايمز عدد12 أبريل 2005تحت عنوان (الثورة البرتقالية في أوكرانيا)
يقول عن ثورة كييف:
"وقد استفادت
أوكرانيا منذ أكثر من عقدٍ من تنمية المجتمع المدني، قدر كبير منه تم تعزيزه بدعمٍ
من المانحين من الولايات المتحدة الأمريكية، والحكومات الأوروبية، والصندوق الوطني
للديمقراطية (نيد) ومنظمات خيرية مثل جورج سوروس، على الرغم من أن هذه الرعاية
كانت غير حزبية، إلا أنها عززت القيم الديمقراطية، وعمقت فهم الجمهور للإجراءات
الانتخابية الحرة والنزيهة" (6).
كما نشرت (فورين آفيرز) التابعة إلى مجلس العلاقات الخارجية، تقريرًا
عن الثورة عام 2005، لنفس الباحث، تقرأ في فقرةٍ منه:
"وضعت الثورة
البرتقالية علامة بارزة جديدة في تاريخ ما بعد الشيوعية في أوروبا الشرقية، وهو
تحول زلزالي تجاه الغرب في الجغرافيا السياسية للمنطقة، كانت الثورة الأوكرانية هي
الأحدث في سلسلة انتصارات قوى الشعب في بولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا، بأواخر
الثمانينات، ومؤخرًا في صربيا وجورجيا" (7).
أي تفاخرت المجلة بنجاح خطوات الهيمنة الأمريكية
على رقعة الأوراسيا، بتوسيع الأرض المركزية، وإخضاع دولةٍ جديدة في أوروبا الشرقية
إلى سلطة بروكسل.
ثورة مضادة تعيد يانوكوفيتش من بعيد
17 يناير 2010، مع إجراء أول انتخاباتٍ
رئاسية تالية، وفي ضربةٍ مؤلمة لواشنطن، حصل الرئيس (فيكتور يوشينكو) على (%5) فقط
من الأصوات، وحصل المرشحان الأعليان، (فيكتور يانوكوفيتش) ورئيسة الوزراء السابقة
(يوليا تيموشينكو) إحدى قيادات الثورة البرتقالية عام 2004، على (35%) و(25%) من
الأصوات على التوالي، فتم إجراء استفتاءٍ على الانتخابات بين الطرفين، عاد معها
يانوكوفيتش المخلوع بثورةٍ برتقالية عام 2004، إلى حكم البلاد مرة أخرى.
آنذاك سعى الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين) خلال فترتي رئاسته الثانية،
إلى تكوين تحالفات إقليمية، وتوقيع معاهداتٍ دولية عابرة للقارات؛ حيث تحالفت
مجموعة بريكس، مع منظمة شنغهاي للتعاون تحت قيادة روسيا والصين، وأعلنت روسيا عن
تأسيس الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ككيانٍ اقتصاديٍّ حديث يضم كل من: (روسيا -
روسيا البيضاء – آرمينيا – كازاخستان – قيرغيزستان) وقد أعلن هذا الكيان اندماجه
في الفضاء الاقتصادي للمبادرة الصينية (الحزام الاقتصادي وطريق الحرير).
وفي خطوةٍ مفاجئةٍ، قرر الرئيس الأوكراني المنتخب ديمقراطيًّا (فيكتور
يانوكوفيتش) ابتعاده عن الاتحاد الأوروبي، بعد فشل المفاوضات الاقتصادية بين
الطرفين، وأعلن انضمام بلاده إلى الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، فدق المسمار الأخير
في نعش حكمه.
برتقالية جديدة تنكأ الجرح الأوكراني
ردًّا على قرار يانوكوفيتش، عادت أمريكا لتستدعي من المكتبة
التاريخية، لعبة الثورات البرتقالية في أوكرانيا، في يناير من عام 2014، حيث بدأت
الحشود من قبل منظمات المجتمع المدني الممولة من الغرب، تتقاطر على ساحة الاستقلال
بالعاصمة كييف.
كانت تظاهرات سلمية تعبر عن معارضة السكان، ابتعاد البلاد عن الاتحاد
الأوروبي، استمرت عدة أسابيع، بإدارةٍ مباشرة من مقر السفارة الأمريكية في كييف،
التي كانت تستقبل النشطاء السياسيين وقيادات المعارضة، بصورةٍ شبه يومية، إلى أن
تطورت الأحداث سريعًا بعد مقتل بطل الملاكمة الأوكراني خلال أحد التظاهرات،
بطريقةٍ غامضةٍ كالعادة، من أجل صناعة الحدث وإشعال ثورةٍ ملونة جديدة.
كانت ثورة دموية بأدبيات حرب اللاعنف؛ فالمعارضة اليمينية حملت السلاح
الناري منذ اليوم الأول للثورة، والمعارضة المعتدلة حملت الزجاجات الحارقة
والأسلحة البيضاء، في مواجهة الشرطة والقوات الخاصة التي سقط منها العشرات بين
قتلى وجرحى بخلاف المفقودين، ولم تنسَ فرق الموت من القناصة المجهولة اتخاذ
أوكارها المعروفة في ميادين الثورات، ليسقط عشرات القتلى من الجانبين.
ورغم توصل يانوكوفيتش إلى صيغة اتفاق مع قوى المعارضة الأوكرانية، في
حضور ثلاثة وزراء خارجية أجنبية، جاءوا خصوصًا إلى كييف من أجل التهدئة، وصياغة
تفاهم يرضي جميع الأطراف، ورغم تعهد يانوكوفيتش بإجراء انتخاباتٍ رئاسية مبكرة،
إلا أن المعارضة اليمينية وبأوامرٍ صادرة عن مركز عمليات الثورة (السفارة
الأمريكية) رفضت مخرجات هذا الاتفاق.
آنذاك هبط المتحدث الرسمي السابق باسم الدولة الأمريكية العميقة (جون
ماكين) إلى ميدان الثورة (ساحة الاستقلال) في سابقةٍ هي الأولى في التاريخ، ووقف
على منصةٍ عالية، وألقى خطبة عصماء أمام الثوار، في إشارةٍ لهم، أن الولايات
المتحدة تقف بجانبهم، هذا الحدث يستدعي من ذاكرة التاريخ مشهد هبوط برجينسكي
بطائرته في ساحة القتال الأفغاني، وإلقاء خطبته العصماء أمام جمعٍ من المجاهدين
الأفغان، من أجل حثهم على القتال ضد السوفيت.
وعلى هذا ظلت المعارضة على موقفها الرافض لأي حلٍّ سلمي قبل رحيل
يانوكوفيتش، وقامت باحتلال مقر إقامة الرئيس أثناء غيابه بقوة السلاح، وبعد محاولة
اغتيالٍ فاشلة، قدم يانوكوفيتش استقالته، وغادر إلى موسكو، تجنبًا لدخول البلاد في
فوضى عارمة.
وعلى هذا تم إسقاط يانوكوفيتش للمرة الثانية، بثورةٍ برتقالية جديدة،
من قبل موالِ الثورة البرتقالية التي اندلعت عام 2004، من قبل أنصار الانضمام
للاتحاد الأوروبي، بزعامة رجل الأعمال، وملك الشوكولا (بيترو بوروشينكو) وقد تباهى
(جورج سوروس) أمام شاشات الفضائيات بـ (صندوف رينسانس –أوكرانيا) التابع له،
والممول الرئيسي للتلفزيون الوطني في أوكرانيا، حينما قال: "كنا هناك في
أوكرانيا.. لعب صندوقنا دورًا بارزًا في هذه الأحداث."