الثلاثاء 18 يونيو 2024

إنصافُ الشعرِ والشاعر وأنشودة الوطن في "مدد يا صاحب المدد" لـ"خيري حسن"

فن1-12-2020 | 22:47

أن يكون الكاتب مهمومًا بقضية، تتعلقُ بقيمٍ عدة، على رأسها الأمانة الفنية والأدبية، ورد الحق لأصحابه، وإلقاء الضوء على فنان راحل ترك منجزًا شعريًا بديعًا يمكن الاقتراب منه بالحواس؛ حيث تتنسم رائحة الوطن وتسمع صوت النضال، وترى الفلاحين والكادحين يتحركون في سطور الإيقاع بجمالٍ مصري أصيل وخالص، فنحن إذًا أمام كتابٍ مُهم يستأهل الوقت والانقطاع له، وكاتب جاد يتحرى الحقائق والسرد اللائق بالقيمة والقامة والقارئ.. ففي كتابه الصادر عن المكتبة العربية للنشر والتوزيع،  بالقطع المتوسط وعبر مئةٍ وستينَ صفحةٍ، الذي جاء بعنوان "يا صاحب المدد.. سيرة شاعر ومسيرة وطن"، للكاتب خيري حسن، يُنصفُ المؤلف شاعرًا غنائيا مصريًا لا يقل في مكانته الإبداعية بميزان النقد عن رموزٍ اصطفت في المشهد العام متصدرةً لهذا الفن أمثال الأبنودي وسيد حجاب ونجم، وهو الشاعر زكي عمرالذي وُلد  في الثالث والعشرين من نوفمبر لعام 1938 بمدينة المنصورة، وتُوفي في 1987، تاركًا إرثًا بهيًا من القصائد والدواوين والمسرحيات الشعرية، وكان من أشهر الزجالين المعاصرين في مصر، له دواوين زجلية عديدة، وساهم بأشعاره في عروض مسارح الثقافة الجماهيرية، واشتُهر بلقب ابن الريف، وكان قد لقي مصرعه غرقا في مياه خليج عدن، حين ألقى بنفسه إلى البحر لينقذ ابنته التي أمسكت بها دوامة عنيفة، وكافح حتى أنقذ ابنته، وغرق هو في الدوامة نفسها. 

ليأتي خيري حسن في كتابه الذي يمثل مستندًا مشمولا بالوثائق والصور ويلقي ضوءًا ساطعًا على مسيرةِ شاعرٍ وطني نبيل عبر سطورٍ تتناول الحياة السياسية والاجتماعية لمصر منذ عام ١٩٤٨ مرورًا بالنكبة والنكسة وحرب أكتوبر ومفاوضات السلام من خلال تتبع حياة زكي عمر نفسه وبداياته وعمله في الترحيلة وموت أبيه بالكوليرا عام ١٩٤٨.

ومن القضايا الخطرة التي يبرزها كتاب خيري حسن "يا صاحب المدد".. هذا الإنصاف الذي تجاوز منطقة الإضاءة حول شاعر كبير، إلى السطوع فوق إرث غنائي شهير عرفته الأجيال المختلفة في أنشودة "مدد مدد.. شدي حيلك يا بلد"، الأُغنية الشهيرة التي كتبها زكي عمر، وطُرحت كمسرحية غنائية في الستينيات، ونُسبت كذباً لآخر، ليصر حسن على التنقيب والوصول إلى جلاء الحقيقة وأصلها، ومن هنا ربما نتفهم هذا العنوان الموحي الذي أمدنا بالمدد المسترسل، في متنٍ متماسك، فيشير خيري حسن، عبر كتابه إلى الأدلة التاريخية على هذا السطو، مستشهدا بأخبار ومنشورات ووثائق وكتب، تثبت نسب الكلمات لكاتبها الحقيقي زكي عمر، كما يستشهد بشهادات من عاصروا الشاعر وتلك الأزمة، يقول: "وبعدما انطلقت (مدد.. الأغنية ـ والمسرحية) في سماء القاهرة لمدة 4 شهور متتالية، أصبح زكي عمر من النجوم الساطعة في سماء المسرح والشعر معًا حيث لُقب وقتها بشاعر نصر أكتوبر، وهو الذي كان يعرف قبل ذلك بـ "ابن الريف"، عن تلك الأيام يقول فى مذكراته: "فجأة استيقظت ذات صباح، لأجد نفسي وقد أصبحت نجمًا.. رجال أعمال القطاع الخاص يطلبونني، والمطربات من الدرجة الثالثة وأدناها يطاردوننى.. (مش معقول، مش ممكن..) بصراحة خفت، وتصورت أن هناك مؤامرة ضدي، وأن هناك من يعمل على أن أنسي عنوانى، مثلما فعلوا مع آخرين قبلي"!... 


(المنصورة ـ 1968)

مدد.. مدد.. مدد

شيدي حيلك يا بلد

بكرة الوليد جاي من بعيد

راكب خيول فجره الجديد

يا بلدنا قومي احضنيه

دا معاه بشاير ألف عيد

لكن متى كُتبت هذه الكلمات التي اشتهر بها زكي عمر قبل أن يغنيها الفنان محمد نوح؟ كُتبت بعد الهزيمة...فى منزل زميله الشاعر محمد يوسف، أو ظهرت حروفها الأولى وهو جالس معه! وعن ذلك اليوم يحدثتا الدكتور مصطفي يوسف، شقيق الشاعر الراحل محمد يوسف قائلًا: "كلمات مدد.. مدد.. صاحبها الحقيقي هو الشاعر زكي عمر، وليس أي شاعر آخر. ولقد كتبها في بيتنا القديم 6 حارة سلطان، من شارع سندوب، مدينة المنصورة. وكان وقتها جالسًا مع أخي الشاعر محمد يوسف. وبيتنا يقع بجوار مولد الشيخ حسانين. يومها تفاءل أبي بهذه الصحبة. وقال ـ بعفوية شديدة ـ ( والمولد عمران) مدد يا شيخ حسانين؛ فالتقطها زكي بحسه الإبداعى، وهتف وهو جالس بيننا" مدد.. مدد". ثم استكمال كتابة الكلمات التى خرجت من هذا المكان في ذلك الزمان لتهتف بها الجماهير. وبعدها انطلقت في أجواء، وهواء، وسماء محافظة الدقهلية وعلى المصاطب وفي المنادر والعزب والكفور والبنادر.. وانضمت بصدقها وثوريتها إلى أشعاره النضالية التي كانت تُغنى على مسرح المنصورة القومي.

ويقول خيري حسن: "سرقة كلمات (مدد.. شدي حيلك يا بلد) من شاعرها الأصلي زكي عمر، جريمة لم تنته عند هذا الحد، بل إنها امتدت إلى اختفاء أو -إن شئت الدقة - سرقة المسرحية كلها (النص نفسه) من المركز القومي للمسرح، والمنوط به - بالأساس- حفظ تراثنا المسرحي عبر تاريخه القديم والحديث، ويقول كذلك: من المؤكد أن هذا الاختفاء، أو هذه السرقة.. قد تمت ـ بمنطق الأشياء ـ ليتم التغطية على الجريمة الأصلية التي وقعت بحق كلمات "مدد .. شدي حيلك يا بلد"، وشاعرها زكي عمر، بعدما تم تحجيمه، وتهميشه، واستبعاده، واعتقاله، وقهره، وطرده، خارج الوطن.

شهادات موثقة وأخبار صحفية وإشادات بالشاعر الفذ زكي عمر كلها تثبت بما لا يدع مجالا لأي شك، أنه صاحب المدد وشدي حيلك يا بلد، ومجهودٌ كبير بذله الكاتب الصحفي خيري حسن الذي تناول مسيرة الشاعر منذ الميلاد وارتباطه بوالده  الذي أحب المغناواتي في القرية فمنح ابنه اسم المغناواتي زكي في غير رضوخٍ للأم التي كانت تنادي ابنها بـ"محمود"، الذي صار زكي ونشأ يتكئ على ساعدِ والده الذي غرس فيه حب الحياة والوطن والفن والشعر، وحبه لكفر كفر الأعجر وطنه الصغير/ الكبير الذي جعله مُفعمًا بالإنسانية في معناها الأشمل وارتباطه بالأرض والإنسان، مرورًا بفترات النضال والعمل والكتابة، يقول صاحب كاتب "يا صاحب المدد": عاشت مدينة المنصورة وقراها أجواء حرب الاستنزاف منذ انطلاقها بكل عزم، وبطولة، ومقاومة. وكان الأهالي في الشوارع وعلى أسطح البيوت وتحت ظلال الشجر في الحقول، يتابعون معارك الطيران في السماء لحظة بلحظة،لأن قاعدة المنصورة الجوية كانت هدفًا مستمرًا لهجمات العدو.. وكانت هذه المتابعة تتم وتُرى بالعين المجردة. ووسط هذه الأجواء تفاعل زكي عمر وبدأ يواصل كتابة أشعاره التي تدعو للمقاومة، والمواجهة، والتصدي، والصمود والكفاح. وتحركت معه فرقة مسرح المنصورة لتشارك في دعم المعركة. هذا التفاعل والتجاوب السريع جعل زكي يسهر الليل في المنصورة تحت أضواء المسرح يقاوم، ويدعو للمقاومة. وبالنهار يعود لقريته وسط الناس، حيث لا ينام؛ إلا بين أحضان بيوتها، ولا يسمع إلا أصوت عصافيرها، ولا يرى إلا مزارعها وفلاحيها. وعن هذه المرحلة قال لصحيفة المساء فى ( 7 نوفمبرـ 1973): "أنا زي السمك أموت لو خرجت من كفر الأعجر. لست طبعًا أقصد كفر الأعجر بمكانها الجغرافي، لكن أعني كفر الأعجر بمحيطها الإنساني.. الفلاحين.. والعمال.. وبالتحديد عمال التراحيل.. والذكريات معهم. لقد رفضت كل إغراءات الذهاب والبقاء في القاهرة. لماذا رفضت؟ لأن المدينة ضدي.. وأنا ضد المدينة، فهي في اعتقادي تقتل فى الإنسان إنسانيته".

(الزنزانة ـ الليلة الأولى)

جلس زكي عمر مع نفسه يسترجع طفولته وحياته وأحلامه وأمه وزوجته، وبناته، ومسرح أوبرا المنصورة والجماهير الحاشدة التى كانت تهتف خلفه. وظل كذلك حتى نام في زنزانته ليلته الأولى قبل ترحيله إلى سجن القناطر.عن هذه الفترة يقول محمد الهادي من قيادات الصف الثاني بالحركة الطلابية:"سجن القلعة لم يكن سجنًا كباقي السجون، فهو مكان للتعذيب، وانتزاع الاعترافات. ولقد تم ترحيلنا منه على دفعات إلى سجن القناطر. وكان معنا في عربة الترحيلات الشاعر زكي عمر، الذي لم أكن أعرفه حتى تم التسكين في سجن القناطر، الذي قضى فيه معنا 5 شهور قبل الإفراج عنه"!

(جامعة القاهرة ـ 1972)

مرت الأيام وهو يتحرك في كل قرية ومدينة وشارع وحارة يهتف: مدد.. مدد.. شدي حيلك يا بلد، وتهتف خلفه الجماهير الحاشدة. وبجانب ذلك كان يلبي الدعوات التي توجه له للسفر للقاهرة خاصة في الجامعة للوقوف بين طلابها ومعه الفنان محمد نوح ـ أحيانًا ـ يهتفان "مدد.. مدد" كما حدث بمدرجات كلية آداب جامعة القاهرة في هذه الفترة الحرجة والملتهبة، والثورية، والتي نشطت فيها الحركة الطلابية بهدف شحن الجماهير، للضغط على القيادة السياسية، من أجل بدء القتال. وبسبب هذا الضغط الجماهيري النخبوي، قررت القيادة السياسية إلقاء القبض على معظم زعماء ذلك الحراك الضاغط بهتافاته، ومؤتمراته، وندواته، وأشعاره، والزج بهم في المعتقلات. وكان من بين هؤلاء زكي عمر الذي أُعتقل في أواخر عام 72 وهو يهتف باسم البلد، والأمل، ومن أجل تحرير الأرض، والوطن.. حيث كان يدرك أن النصر محتاج للجلد.

وقد تنتهي رحلة الجسد كما نعم، لكن رحلة الروح باقية وأثر الحب ممتدًا كما يقول خيري حسن في كتابه: فى نهاية الرحلة.. مات زكي عمر (الإنسان).. مات كما ماتت أمه "ناقص" عُمر

أما زكي عمر (الشاعر) فهو يعيش وسوف ـ يعيش ـ في ذاكرة الوطن "ألف" عُمر.