بنى شارع
انجلترا وسط العاصمة المزدحمة في تونس سمعته منذ مطلع القرن العشرين من بيع الكتب
القديمة المتراصة على جانبي الأرصفة. واليوم باتت هذه السمعة مهددة بالاندثار.
يقضي كبير
"البوكينيست" (بائع الكتب القديمة) فوز الهذيلي 70 عاما أكثر من نصف
اليوم في مكتبته العريقة التي تتصدر المكتبات في النهج ذو البنايات الفرنسية، وهو
يقلب دفعات جديدة من الكتب المستعملة قبل ايجاد مكان مناسب لها في الرفوف المزدحمة.
يتلقى الهذيلي منذ
أن بدأ العمل الى جوار والده في المكتبة عام 1969، الكتب المستخدمة من الأصدقاء
ومن المكتبات التجارية ومن الجمعيات كما يتلقى كتبا من الخارج. واستطاع خلال سنوات
أن يجعل من مكتبته مقصدا رئيسيا للباحثين عن المراجع والكتب النادرة.
تضم المكتبة اليوم
قرابة 300 ألف كتاب من بينها مراجع وكتب تعود الى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر
وبلغات متعددة. وقد اضطرت عائلة الهذيلي عند استلامها المكتبة من مستوطن فرنسي عام
1953 إلى إعادة تأثيثها بالكامل.
على إحدى الرفوف وسط
الأروقة الضيقة في جوف المكتبة يمكن ملاحظة كتب تعلم اللغة اللاتينية الى جانب
باقي اللغات الأجنبية، الألمانية والايطالية والاسبانية والصينية، والمعاجم
المتخصصة وكتب التاريخ والجغرافيا والأدب.
وعلى رف آخر تظهر
سلسلة متخصصة لتاريخ الكنيسة الكاثوليكية للمؤرخ الفرنسي روني روهرباشار صدرت في
منتصف القرن التاسع عشر، وإلى جانبها مراجع فقه القضاء العام الصادرة عن دار النشر
الفرنسية دالوز في نفس الفترة.
وهناك روايات
"شيري" البوليسية لجلين شيز ومجلات للترفيه والموضه تعود الى عقود ماضية
يلفها الغبار وروائح الورق بفعل التخزين والرطوبة.
ولا تبدو على
الهذيلي علامات الشيخوخة رغم سنه المتقدم ويرجع ذلك في تقديره الى شغفه بالكتب منذ
فترة صباه وإقلاعه عن التدخين وشرب الكحول، غير أنه لا يخفي قلقا يعتريه بشأن مصير
مكتبته ذات الشهرة الواسعة في صفوف الطبقة المثقفة في العاصمة، بسبب الكساد
الاقتصادي وركود المبيعات بشكل حاد.
ولكن بشكل مؤقت
يمكنه أن يلقي خلف ظهره هذا الشعور بعد أن تلقى دفعة معنوية من متصفحي مواقع
التواصل الاجتماعي تلبية لنداء استغاثة كان أطلقه من أجل إنقاذ مكتبته من خطر
الإفلاس والإغلاق.
أخرج فوزي تنهيدة
عميقة من صدره قبل أن يكشف في حديثه مع وكالة الأنباء الالمانية (د. ب. أ) عن ما
يشغله حيث قال"أطلقت صيحة فزع من أجل الناشئة، من أجل أن يعودوا إلى القراءة.
ما يحصل اليوم من هجرات جماعية للشباب سببه الابتعاد عن الكتب. إلى أين نحن ذاهبون".
ويضيف فوزي في حديثه
"في السابق كان يأتي إلى هنا العائلات والشباب والطبقة المثقفة وحتى
الوزراء... كان يأتي الجميع. لكن منذ اندلاع الثورة في عام 2011 تغيرت الأوضاع
بشكل جذري كما تغيرت القيم".
يشكو فوزي الهذيلي
كباقي المكتبات القديمة بنهج انجلترا الممتد على نحو 200 متر، من تداعيات الأزمة
الاقتصادية المستمرة في تونس منذ 2011 بموازاة الانتقال السياسي في أعقاب الثورة
التي اطاحت بحكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.
وزادت الأزمة الصحية
المرتبطة بوباء كورونا من محنة باعة الكتب وبعضهم بات على شفا الإفلاس. وعلى الرغم
من الحركية الكبيرة التي تميز الشارع الذي يتقاطع مع نهج الجزيرة التجاري وهو أيضا
على مقربة من محطة المترو الرئيسية ومحطة القطارات بساحة برشلونة، إلا أن الكتب
المعروضة على الرصيف لا تجلب انتباه المارة.
ويأتي أغلب الزائرين
للسؤال عن كتب ومراجع محددة من أجل بحوث متخصصة وليس للتقليب والانتقاء. وتشير
نتائج سبر آراء نشرتها مؤسسة "امرود" للإحصاء في تونس أن 82 بالمئة من
التونسيين لم يقرأوا كتابا واحدا في عام 2019.
ولدعم مكتبة الهذيلي
بدأ نشطاء متصفحون على الفيسبوك بجمع تبرعات لمساعدته على سداد ديونه في حملة
أطلقوا عليها "الحصالة الالكترونية" وانتشر هاشتاج "أنا اشتريت كتابا.
وأنت متى"؟ في مسعى للتشجيع على قراءة الكتب.
يقول الهذلي
"طلب مني كثيرون العدول عن قرار الإغلاق والتريث لحين. حصلت هبة من الشغوفين
بالكتب بعد ندائي على الفيسبوك. آمل أن يستمر هذا الحماس".
وتابع الهذيلي
"لدينا التزامات لخلاص أجور الصناع والكهرباء والأداءات ومعاليم التغطيات
الاجتماعية. لقد تغيرت الأوليات اليوم لدى العائلات وتأخر الكتاب في سلم الأولويات
اليومية".
لكن وضع مكتبة
الهذيلي الأكبر والأقدم في شارع انجلترا يعد أقل تعقيدا من بين نحو خمس أو ست
مكتبات في الشارع تواجه جميعها مصيرا مجهولا.
يقول محسن عمري إنه
قد يضطر بعد نحو أربعة عقود من العمل في مجال بيع الكتب القديمة، وفي خلال أشهر
قليلة الى التوجه للعمل في قطاع آخر لتلبية احتياجات أسرته.
يقول العمري الذي
يعمل في "مكتبة المزوغي" الناشطة في بيع الكتب القديمة منذ عام 1965
" تطلبت الحركة الثقافية بعد الاستقلال في بداية عقد الستينيات مثل هذا النوع
من بيع الكتب "البوكينيست" للتشجيع على القراءة والمساعدة في نشر
التعليم. لعب الكتاب دور محوري في الحد من نسبة الجهل والأمية".
ويتابع قائلا
"عرف البوكينيست عصره الذهبي في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي لكن
الأزمة بدأت تظهر منذ التسعينات".
يرفض عمري الرأي
القائل بأن تطور أجهزة الاتصال مثل التلفاز والانترنت أثرا بشكل أساسي على تدني
مبيعات الكتب الورقية وتراجع القراءة، بدليل أن الاقبال على الكتب في الدول
الغربية لا يزال كبيرا حتى في ذروة الازمة الصحية المرتبطة بالوباء.
وفي تقديره فإن
المشكل مرتبط بالتكلفة العالية لنشر الكتب في مقابل إحجام الدولة عن تقديم الدعم
لهذا القطاع وللثقافة عموما بجانب الصعوبات الطارئة على أزمة التسويق.
ويلوح النشطاء في
حملاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي إلى مخاطر اتلاف جزء من الذاكرة الوطنية في
حال أدارت الدولة ظهرها للبوكينيست في شارع انجلترا ودفعتهم الى هجر محلاتهم
نهائيا.
ويقول عمري
"نحن الحصن الأخير للثقافة وهذا الحصن يستعد للانهيار. لن يمكننا الصمود
أكثر. سيتعين علينا البحث عن نشاط آخر في القريب لأن الكتاب تحول إلى عنصر رفاهة
في تونس ولم يعد عنصرا حيويا".