الثلاثاء 26 نوفمبر 2024

أخرى

يَعْنِي إيه كَلِمَةَ وَطَنٍ ؟

  • 6-12-2020 | 08:44
طباعة

كلمات رائعة صاغها المبدع د . مدحت العدل في أغنيته المشهورة بفيلم (أمريكا شيكا بيكا 1993)، وهو فيلم يدور حول حكاية عدد من الأشخاص من خلفيات وثقافات وطبقات مختلفة جمعهم موقف واحد، وهو حلم السفر إلى أمريكا، لاعتقادهم بأنها أرض الفرص الذهبية للثراء السريع، وتحقيق الأحلام التي عجزوا عن تحقيقها في بلدهم الأم مصر، إلا أنهم يقعون فريسة للنصاب الشيك الواثق من نفسه (جابر) والذي جسد دوره الراحل الرائع سامي العدل، رحمة الله عليه، والذي تركهم فريسه للجوع والملاحقات الأمنية والمرض بإحدى غابات رومانيا.

 وبعد محاولات مستميتة، وعشرات المواقف المؤسفة يكتشف الجميع بأنهم كانوا يسعون وراء سراب كبير، ووهم لا وجود له إلا في خيالهم، وبأن أرض الفرص الموعودة أبعد مما يتخيلون، ولا أدري لماذا عقلي ما زال يتذكر من هذا الفيلم الذي أحبه، ولا أمل من مشاهدته، واحدة من الأغاني ذات الصبغة الوطنية والتي تدغـدغ مشاعرنا، وتذكرنا بتفاصيل تسكن أرواحنا، وترتبط كلها متى ذُكرت باسم الوطن وارتباطنا به ارتباط لا يقبل التجزئة أو الانفصال مهما أبعدتنا عنه الظروف، وباعدت بيننا وبين ترابه المسافات، ترتبط ببلدنا وتفاصيلها التي لن تجد مثيل لها في أي مكان آخر.

 وحتى لو وجدت مثلها في بلد آخر، فلن تجد الروح المصرية الحلوة الفهلوية، والذكاء الفطري، والضحكة الصافية، والنكتة الحلوة، والشهامة والجدعنة الفطرية، تركيبة عجيبة وغريبة صعب تشوفها في أبناء أي بلد آخر، لدرجة إنك كمصري في أي بلد آخر يسهل تمييزك من جانب أهلها، حتى لو كنت بين مجموعة كبيرة من الجنسيات الأخرى، وتجدهم يستقبلوك بضحكة حلوة وترحاب حقيقي غير مزيف، وتلاقي قيمة بلدك وقدرها بتاريخها الفرعوني، والفاطمي والحديث، يفكروك بيها أهل البلد المضيف لك، تلاقيهم يفكروك ويعاكسوك بـ"قفشه" حلوة لعادل إمام أو سعيد صالح أو لأبو ضحكة جنان إسماعيل ياسين، أو يمكن تقرع آذانك نغمات ساحرة تنساب من مذياع في مكان ما، تصدح بنغماتها الست ام كلثوم أو حليم أو حتى الكنج منير أو الهضبة عمرو دياب، أو تسمع حكيم بيرقص مشاعرك وانتا بتسمعه بيضحك الأنغام ويرقصها، ويرقص قلبك معها وهو بيقول (نار نار نار أنا قلبي قايد نار).

حاجة غريبة أو حالة عجيبة هي مصر، ولا أقصد هنا تاريخ وحضارة وثقافة وعلوم وفنون عجز العلم الحديث عن تفسيرها، أو مضاهاتها فيما توصلت إليه من أسرار عمارة وعلوم وفلك وطب، ولكنى أتحدث هنا عن قيمتها وسحرها المتمثل في قوتها الناعمة التي حمل مشاعلها عدد غير قليل من قراء القرآن الكريم، وأحاديث الشيخ الشعراوي، ومعه مفسرون عظماء، ولاعبي كرة قدم ومطربين وممثلين، وأدباء وشعراء، وعلماء، ومهندسين، ومحامون وقضاه، وضباط جيش وشرطة أبطال خلد التاريخ ذكرهم في سجلات الوطنية، وأشخاص في تخصصات مختلفة لا يتسع المقام لذكرهم، أو حتى ذكر القدر القليل منهم، قيمة كبيرة لهذا البلد، قوة كبيرة ليست عسكرية، ولكنها قيمة إنسانية أو كما يطلقون عليها قوة مصر الناعمة، كل تلك التفاصيل هي مكونات لعناصر الشخصية المصرية العجيبة الغريبة، والتي مازالت تبهر الجميع، ومازالت تخلق نوع من الألفة والود والرصيد لك في الغربة لدى كل من يعرف انتماءك لبلد عظيم ذو تاريخ مشرف وحاضر رائع ومستقبل واعد اسمه مصر .

وبالعودة مرة أخرى إلى الكلمات الرائعة للأغنية التي كانت الدافع وراء كتابة هذه السطور، وما حملته من تفاصيل مصرية جدا، وهو ما يمكن أن يحدث مع الكثير ممن أتيحت لهم فرص السفر ببلاد أخرى، ربما تكون أكثر تقدم منا وفقاً لمعايير علمية واقتصادية حالية، إلا أنها في تاريخها لا تعادل تاريخ بوابة في منزل قديم بمنطقة بولاق أبو العلا الشهيرة أو الجمالية الرائعة، وما بهما من بوابات ربما يكون عمرها أقدم من دولة كبيرة مثل أمريكا، تلك البوابات التي تحمل ذكريات للنضال الوطني حينما خرج من خلفها وطنيون شرفاء واجهوا العدوان الفرنسي بأيديهم وعصيهم، حقاً إننا تتملكنا حالة من الانبهار بالنظام والحضارة والالتزام بقواعد المرور والنظافة والتكنولوجيا، وفرص البحث العلمي للنابغين والنجباء ممن تلقفتهم تلك الدول، ورصدت لهم ميزانيات عملاقة لأبحاثهم العلمية، ربما ما كانت تتوافر لهم بوطنهم الأم مصر.

 ولكن يبقي بداخل كل منا حنين خفي أو حتى ظاهر لتلك التفاصيل التي صاغها الشاعر د . مدحت العدل في كلمات أغنيته (يعنى إيه كلمة وطن)، وهم ما يهيج بنفسك مشاعر الحنين لهذا الوطن ، وبخاصة لو كنت واحد من الطيور المهاجرة بالخارج، ستجد نفسك تجتر ذكرياتك الجميلة مع الأهل والأصدقاء والضحكات البريئة الجميلة في زمن الطفولة، وشقاوة وعفرتة وانطلاق الشباب والأصدقاء، الذين باعدت بينك وبينهم الأيام، إلا أن ذكرياتكم الجميلة مازالت تمثل الحبل السري بينك وبينهم، والذي رغم انقطاعه إلا أن أثره مازال بداخلك تستمد منه القوة لاستكمال رحلتك بالخارج، والاستقواء بها على عذابات الغربة .

وستجد نفسك بعد زوال حالة الانبهار بالتكنولوجيا والأضواء والإيقاع السريع للحياة، تزول عنك تلك الصدمة الحضارية والتكنولوجية، ويقرع جدران قلبك بقوة  حنين إلى مصر بتفاصيلها التي يصعب أن تجدها في أي بلد اخر، وتجد نفسك ربما تردد معي كلمات الغنوة التي تقلب عليك مشاعر الحنين للوطن مردداً... يعنى إيه كلمة وطن، شاي بالحليب على قهوة في الظاهر هناك، نسمة عصاري السيدة ودير الملاك، يعنى إيه كلمة وطن، نشع الرطوبة في الجدار ولا شمس مغرقه برد النهار، ولا أمك ولا أختك ولا عساكر دفعتك والرملة نار... يعنى إيه كلمة وطن ؟.

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة