تنشر «الهلال اليوم» القصة القصيرة «عابرات»، من المجموعة القصصية «من مقام راحة الأرواح»، الصادرة عن دار «روافد» للنشر والتوزيع للكاتبة مريم عبد العزيز.
عابرات
كنت مفلسًا؛ فقد تأخَّر صرف الراتب الشهرى، ما استدعى التخلِّي عن أحد
طقوس المنصب الجديد في ركوب سيارة أجرة، وعدت أدراجى كمواطن ينتمي للطبقات الكادحة
أقف موازيًا للرصيف أنتظر مكانًا في الميكروباص، الركوبة الشعبية الأكثر انتشارًا
في شوارع العاصمة.
وقفت السيارة أمامي وهتف السائق: «تحرير تحرير», قفزت برشاقة
اقتنص الفرصة قبل أن تولِّي، وخلفي مباشرة مسنَّة تحاول الصعود ويخذلها ارتفاع
الدرجة الأولى، فأخذت بيدها وجلست بجانبي.
وحين بدأ الركاب في تجميع الأجرة،
فَتَحت الكيس القماش المعلق في رقبتها المدسوس بين طيات صدرها فوَجَدته خاويًا
فالتفتت لي وقالت: ادفع لي معك.. «يا بني كلنا عابرين سبيل», جلبابها الأسود
الباهت وبشرتها السمراء والوشم الأزرق المدقوق على ذقنها أشعروني بألفة نحوها, لم
أمتعض، وأخرجت من جيبي بعض العملات المعدنية ودفعت، وصرت طول الطريق أتذكر عابرات
السبيل اللواتي مررن عليَّ بأكياسهن القماش المعلقة في رقابهن, إذ كنا نسكن في بيت
في منتصف الطريق.
ويدق بابه فيدخل من أتى محملًا بأعباء الطريق وحكاياته ثم يرحل
دون ميعاد بزيارة جديدة، هكذا كانت الزيارات فيه لا تتبع نظامًا للمواعيد أو
للمناسبات, أضفى ذلك على حياتنا فيه نوعًا من الشغف، لا بما يحمله العابرون من
حكايات فحسب، ولكن بالحضور والغياب والغموض الذي يحيط ببعضهم.
هانم: تمر صباح الجمعة عادة قبل أن نستيقظ, هي لا ترن الجرس، ولكنها
تستخدم يديها الواهنتين في طرقٍ شديدٍ تعجب أنه ناتج من هذه الأياد المرتعشة
المتكئة على عكاز خشبي, هي على الأرجح جارة قديمة لا نعرف لها أقرباء أو عائلة،
فقط نعرفها, تجلس قليلا وتطلب فنجانًا من الشاي، تسأل عن أحوال أفراد العائلة
جميعهم، حتى هؤلاء الذين غادروا، وهم على الأرجح هؤلاء الذين عاصرتهم، فلا تدري إن
كانت تزور سكان البيت أم أنها تقصد البيت نفسه في طقس كالبكاء الأسبوعي على أطلال
عمرها.
وتنهي جلستها وتمضي في الشارع المواجه للمنزل حتى تختفي لا نعلم أين ذهبت
تمامًا كما لا نعلم من أين تأتي, كانت طريقة التواصل الوحيدة هي تلك الزيارة التي
تقوم بها نهار الجمعة، لذلك حين تركنا المنزل كان من أحد أسباب أعتراضي أنها لن
تستطيع الوصول إلينا ثانية.
رتيبة: قريبة من درجة بعيدة تأتي لزيارتنا بين الحين والحين في أيام
الجمعة، وكما كان يحمل هذا اليوم من مفاجآت، كانت هي الأخرى تحمل المفاجآت في صورة
هدايا ونوادر نظل نرددها إلى أن نراها مرة ثانية, أذكر أنها ذات مرة تحمَّلت المشي
من الدرَّاسة إلى بيتنا وهي تتأبَّط ديكًا حيًّا؛ لأن كومسري الأوتوبيس رفض أن
تركب بصحبة الديك، ولم يثنها فعله عن استكمال رحلتها ولو مشيًا على الأقدام، كنوعٍ
من إثبات الجدعنة التي ورثتها عن أبيها صاحب القهوة سابقًا، والتي دائما ما تتباهى
بها فتقول «شوفت أنا جدعة إزاي!», مرة أخرى تحمل لنا أرنبًا، وتحكي عن سواح أجانب
استوقفوها في شارع الأزهر لالتقاط صور معها.. سيدة تمشي في شوارع العاصمة تحمل
أرنبًا.. ومرة أخرى تصحب معها صهرتها التي انهار بيتها فقامت هي باستضافة أسرتها
في شقتها التي تضيق بها هي وأبناءها، وتبحث لها عن عمل في أحد البيوت، ثم تنهي
قصتها بقول "حاكم أنا جدعة قوي وأعجبك".
إحسان: هي أيضا سيدة مسنَّة، ربما تمتُّ بصلة قرابة لجدي, تمرُّ علينا
لتستأنس بنا، ثم لا نعرف إلى أين تذهب، لكن لدينا رقم هاتف يخص جيرانًا لها أو ما
شابه.
ولم تكن هذه العابرة تتقيَّد بزيارتنا أيام الجمعة، كما لم تتقيَّد بموعد
محدد، فربما أتت من أول النهار وقضت معنا اليوم تغني لنا من المواويل الصعيدية حتى
نرددها معها حين تزورنا في المرات المقبلة, في آخر زيارة كانت تصطحب معها أحد
أحفادها لأن نظرها كما قالت «راح» كأثر جانبي لمرض السكري، وبعد هذه الزيارة غابت
كثيرًا، ما استدعى استخدام رقم الهاتف الذي يخص جيرانها للتحقق من السبب، فقال
المجيب إنها غادرت, لم نعرف أهي غادرت المنزل أم غادرت الحياة بأكملها.