نعوم تشومسكي فى مواجهة ميشيل فوكو من أجل «الطبيعة الإنسانية»
كان للمفكر الهولندي، فونس إلدرز، برنامجا عبارة عن سلسة من المناظرات، ضمن مشروع الفلاسفة الدوليين يستضيف فيها إثنين من الفلاسفة، من تيارين مختلفين وأحيانا متضادين من بين مفكري القرن العشرين، ليتواجها على شاشة التلفزيون، وفي نوفمبر عام 1971 ، كان حريصا على إستضافة كل من نعوم تشومسكي وميشيل فوكو، على شاشة التلفزيون، إلا أن كل واحد منهما لا يمكن إطلاق لقب "فيلسوف" عليه بالمعنى الأكاديمى الضيق، فكلاهما طور مقاربة أصيلة جدا فى دراسة اللغة، كما أنهما أسهما فى تحديد دور المثقف السياسى العام.
أتاح هذا الحوار مساحة للنقاش عبر الجغرافيات الفكرية والسياسية، وبدا أن الخلاف على "الطبيعة الإنسانية" يقوم ببلورة الإختلافات فى المقاربة اللغوية، الفلسفية والسياسية في الوقت نفسه، في أعمال تشومسكي وفوكو، وفى بلديهما، فحاولت الإحاطة بماهية العلاقة بين اللغويات والسياسة أى رصد دور السلطة ف تحليل الخطاب.
يطرح إلدرز، سؤاله حول مفهوم الطبيعة الإنسانية، فأي الحجج يمكننا أن نستخلص من تلك اللغويات لنقدم موقفا مركزيا لمفهوم الطبيعة الإنسانية، فيجيب تشومسكي، فى البداية ويرى أن المعرفة الغريزية هي واحدة من المكونات الأساسية للطبيعة الإنسانية، حيث يعتبرها مكون أساسى بسبب الدور الذى تلعبه اللغة، ليس فقط في التواصل، ولكن أيضا في التعبير عن الفكر والمشاركة بين الأشخاص، حيث يفترض تشومسكي، أن هناك مساحات أخرى للذكاء الإنساني، أي مساحات أخرى من الإدراك والسلوك، فهناك شيء من النوع نفسه يجب أن يكون حقيقيا.
على الجانب الآخر، فإن فوكو، لا يثق بفكرة الطبيعة الإنسانية، حيث لايؤمن بأن المبادئ والأفكار التى يمكن أن يستخدمها العلم، يمكنها أن تمتلك كلها المستوى نفسه من الوضوح، كما أنها بشكل عام لا تملك الوظيفة نفسها ولا النمط نفسه من الاستخدام الممكن للخطاب العلمي، وفكرة الطبيعة الإنسانية لها نفس النمط، فاللغويون لم يكتشفوا قوانين الإبدال الصرفي، ولا فرويد اكتشف مبادئ الأحلام، ولا الأنثربولوجين اكتشفوا بنية الأساطير، وذلك بسبب دراسة الطبيعة الإنسانية، ففي تاريخ المعرفة لعبت فكرة الطبيعة الإنسانية دور المؤشر الإبستمولوجي -التحليل الفلسفي لطبيعة المعرفة- لتحديد أنماط بعينها من الخطاب في علاقتها، أو في مواجهتها مع اللاهوت أو علم البيولوجيا، ومن الصعب عليه أن يجد في هذا مفهومًا علميًا.
ويرى تشومسكي هنا، أن العنصر الأساسي للطبيعة الإنسانية هو الحاجة إلى العمل المبدع والبحث المبدع، وإلى الإبداع الحر دون تأثير متعسف وضيق من قبل المؤسسات، وينتج عن ذلك بالطبع مجتمع سليم يضاعف الإمكانيات لهذه الصفة الإنسانية الأساسية المؤكدة.
وهذا يعنى محاولة تجاوز عناصر الكبت والقمع والهدم والتسلط الموجودة في أي مجتمع موجود، فأي شكل من أشكال التسلط أو القمع، وأي شكل من السيطرة الأوتوقراطية، على أي نطاق كان من الوجود، مثل الملكية الخاصة لرأس المال أو تحكم الدولة فى بعض جوانب الحياة الإنسانية، وأي نوع من أنواع القيد الأوتوقراطي على جانب ما من المحاولة الإنسانية، يتم تبريره بمصطلحات الحاجة إلى الدعم والحاجة إلى العيش، أو الحاجة إلى الدفاع فى مواجهة قدر رهيب من هذا النوع، ولا يمكن تبريره بشكل موروث.
ويتوافق تشومسكي مع فوكو، ويضيف على كلامه فى هذا الصدد أنه لابد من محاولة خلق رؤية لمجتمع مستقبلي عادل، أى خلق نظرية اجتماعية إنسانية مبنية على أساس، إذا كان هذا ممكنًا على مبدأ ثابت وإنساني لماهية الإنسان وطبيعته، كما تفعل المؤسسات المركزية على سبيل المثال لأي مجتمع صناعي، كالمؤسسات الإقتصادية والتجارية والمالية، مثل الشركات العظيمة العابرة للقارات شركة "فيليبس" من إيندهوفن بهولندا.
ويؤكد تشومسكي، أنه ليس صحيحًا أن نضع جانبًا وكليًا المهمة الفلسفية المجردة إلى حد ما، والمتعلقة بتحديد الروابط بين مبدأ الطبيعة الإنسانية التي تضفي منظورًا كاملاً من الحرية والكرامة والإبداع والصفات الإنسانية الأخرى، ويجب أن ترتبط بفكرة البنية الإجتماعية التي تدرك فيها هذه الصفات والتي تجرى فيها الحياة الإنسانية ذات المعنى.
ويعقب فوكو، على أفكار تشومسكي، الذى يوافقه رأيه فى أنه من الخطر، أن توجد طبيعة إنسانية محددة، فهذه الطبيعة الإنسانية لا تعطي المجتمع الواقعي الحقوق والإمكانيات التي تسمح بإدراك نفسها، ويستحضر مثالا باعتراف الاشتراكية في فترة محددة نهاية القرن التاسع عشر، أن إنسان المجتمعات الرأسمالية فى النهاية لم يدرك الجوهر الكامل لتطوره وإدراكه الذاتيين، فهذه الطبيعة الإنسانية اغتربت فى النسق الرأسمالي، وحلمت بطبيعة إنسانية محررة مطلقة.
ويعتقد تشومسكي، أنه فى المجال الفكري، أي مجال لمحاولة بناء رؤية لمجتمع حر وعادل على أساس فكرة ما تأتي من فهم الطبيعة البشرية ذاتها، وعلمنا بأن أي شيء نفعله إنما هو قائم على فهم جزئى تمامًا للواقع الاجتماعي، والواقع الإنساني في هذه الحالة.