السبت 29 يونيو 2024

أوهام بشرية

أخرى9-12-2020 | 11:57

د. حسين على

تزدحم رأس الإنسان بكثير من الأوهام الزائفة والأفكار الخاطئة والاعتقادات الباطلة، حتى إن المرء قد يقضي عمره كله أسير هذه الأوهام، يسلك وفقاً لها سبلاً شتى، ويتخذ مواقف حازمة وصارمة استناداً إليها، وإذا حاولنا أن نعدد هذه الأوهام ونحصرها، فسنجدها تفوق الحصر، لذلك سوف نتناول في سلسلة من المقالات بعض هذه الأوهام التي تحتل رؤوسنا وتضلل عقولنا. 


على الأرجح أنك عندما تهم بالخروج إلى الشارع تاركاً منزلك، متجهاً إلى عملك أو جامعتك، فإنك لا تنسى أن تقف أمام المرآة لتلقي نظرة على مظهرك العام، وحين تتطلع إلى المرآة تشاهد صورتك منعكسة على سطحها، فتُعَدِّل من هيئتك إذا وجدت اضطراباً أو خللاً في موضع من مواضع جسمك أو ملبسك، المهم في الأمر أنك دوماً تجد صورتك أمام ناظريك، وتتوهم أن هذه الصورة هى ذات الصورة المرتسمة في ذهن كل من يتعامل معك!! وهذا وهم كبير، نقع فيه جميعاً.. كلنا يظن أن ملامح وجهه المرسومة في ذهنه هى ذاتها المرسومة في أذهان الناس الذين يتعامل معهم. وهذا غير صحيح على الإطلاق؛ لأن صورتك، أي صورة ملامح وجهك، تتعدد بتعدد من تختلط بهم من البشر. صورتك ليست واحدة عند كل الناس.


إنني لا أقصد انطباع الناس عن أخلاقك وسلوكياتك فحسب، وإنما أقصد على وجه الدقة تصور الآخرين لملامح وجهك، تصورهم للبروفايل profile الخاص بك، إنه يختلف باختلاف الأشخاص سواء أقارب أو أصدقاء أو زملاء، كلنا نتوهم أن صورتنا التي نراها منعكسة على سطح المرآة هى ذات الصورة التي يرسمها لنا الناس. الواقع يقول شيئاً مختلفاً عن ذلك، لأن هناك من يراك وسيماً، وهناك من يراك قبيحاً، وهناك من يرى ملامحك لا هى وسيمة أو قبيحة، وإنما عادية مألوفة.


تخيل معي أن الله سبحانه وتعالى منح البشر - كل البشر - القدرة على رسم وجوه الآخرين وملامحهم، وطلبت أنت من كل الناس الذين يتعاملون معك صغيرهم وكبيرهم أن يرسم صورة لك، وقمت بتجميع هذه الصور ووضعتها أمامك على منضدة، وبدأت في فحصها، ستلاحظ من خلال فحصك للصور التي رُسِمَت لك أمرين:


الأمر الأول: أنه لا توجد من بين تلك الصور صورتان متماثلتان ومتطابقتان تماماً، رغم أنهما مرسومتان لشخص واحد هو أنت!! 


الأمر الثاني: أنه لا توجد من بين هذه الصور الكثيرة واحدة تتماثل وتتطابق مع الصورة التي ترسمها أنت لنفسك!! 


إن علاقتنا بالآخرين تحدد ملامحنا في أذهانهم، إن من يكرهنا يرسم صورة ذهنية عنا مختلفة عن تلك التي يرسمها من يحبنا، فإذا تصورنا فتاة جميلة من أسرة عريقة (طالبة جامعية أو معيدة في إحدى الكليات مثلاً) تصادف أن رأت شاباً وسيماً وأنيقاً ومهذباً، يعمل معيداً أو مدرساً بالجامعة، أعجبت الفتاة بهذا الشاب وخفق قلبها له، وتمنت الاقتران به، وتصادف أن أبواب السماء كانت مفتوحة وتحققت أمنيتها، وتقدم ذلك الشاب طالباً يدها، وتم الزواج والفرحة تغمر قلب الفتاة التي أصبحت زوجة لذلك الشاب الوسيم الأنيق المهذب، الذي ما أن وقعت عين تلك الفتاة عليه حتى هامت به حباً وعشقاً.. ماذا حدث بعد الزواج.. اكتشفت المسكينة أن زوجها أفّاق وكاذب ومخادع، يُظْهر غير ما يبطن، يعاملها أسوأ معاملة، وإن كل وسامته وأناقته وتهذيبه ما هى إلا مظاهر للإيقاع بالجنس اللطيف، تلك الصفات التي بهرتها ما هى إلا «طُعم» أو «شَرك» لاصطياد بنات الناس.


هنا نجد الفتاة - التي كانت ترى فتاها في بداية تعرفها عليه غاية في الوسامة والأناقة والتهذيب - تردد عبارة واحدة لا تحيد عنها: «إنني لا أطيق رؤية وجهه»، هكذا صار الجمال قبحاً، نتيجة للمواقف المتخاذلة والسلوك الوضيع.


مرة أخرى نقول: «وهمٌ أن تعتقد أن صورتك التي ترسمها لنفسك وتراها منعكسة أمامك في المرآة، هى ذات الصورة التي يرسمها الناس لك».


ومن الوهم أيضاً أن تظن أن الصورة التي ترسمها في ذهنك عن الآخرين تعبر عن واقعهم الحقيقي، فكم خدعتنا صور مشرقة رسمناها لأناس هم في حقيقة الأمر، حقراء مخادعون، وظللنا طويلاً نتوهم أنهم أحبة وأصدقاء مخلصون، وكم ظلمنا أناسًا ارتسمت في أذهاننا عنهم صورة قبيحة شوهاء اعتماداً على قسمات وجوههم غير المتناسقة، ثم أدركنا متأخراً – من خلال تجربتنا معهم التي كشفت عن رقيهم وأصالة معدنهم – إننا ظلمناهم ظلمًا بيّنًا، وأنهم يتحلون بقدر من الوسامة لا يستهان به.