الإثنين 13 مايو 2024

الخوارزمي.. الجبر والمقابلة

أخرى10-12-2020 | 08:56

بداية وقبل الحديث عن واحد من أهم علماء المسلمين في الرياضيات والفلك والترجمة، لا بد من الاعتراف بأن مفهوم «العلم» بمعناه الدقيق المحدد - الذي نستخدمه للدلالة على المعرفة المنظمة الخاضعة لمناهج دقيقة - يُعَد مفهومًا حديثًا نسبيًّا، وأن البشرية ظلت طوال الجزء الأكبر من تاريخها تستخدم لفظ العلم بمعنى آخر لا يمكن القول: إنه مضاد لهذا المعنى الأول، بل هو أوسع منه وأشمل بكثير، وأعني به معنى «المعرفة» والسعي إلى بلوغ الحقيقة، إلى اكتساب معارف عن الإنسان والمجتمع والطبيعة، بل وعما وراء الطبيعة وما يخفى عن طرق إدراكنا المألوفة؛ فالبحث الميتافيزيقي في مثال المثل - عند أفلاطون - أو في المحرك الأول - عند أرسطو - كان عندهما يدخل في صميم العلم، بل ربما كان هو «العلم» على الحقيقة، مع أنه بمقاييس المناهج العلمية الحديثة أبعد ما يكون عن العلم.

 بل إن البحث في الأمور الغيبية هو عند رجال الدين واللاهوت علم بأكمل معاني الكلمة، وإن كان في نظر العلماء المنهجيين مفتقرًا إلى أبسط الشروط التي يمكن أن يسمى بها بحثا علميا.. وهكذا عاشت البشرية أمدًا طويلًا تستخدم لفظ العلم بمعنى موسع لا يكون المعنى الراهن إلا جزءًا ضئيلًا منه.

بهذا المعنى الموسع الذي يكون فيه العلم مرادفًا «للمعرفة» - أيًّا كان نوعها - ظهر ارتباط وثيق بين العلم وبين الحرية منذ أقدم عصور الوعي الإنساني.. فالإنسان بوصفه موجودًا له كيانه الخاص، وله عقله الذي يستقل به عن الطبيعة الجامدة، ويسعى به إلى فهمها والسيطرة عليها في الوقت ذاته، ومن هذا المنطلق كان لعالمنا شأن مهم بين العلماء إذ تميز بالعلم بمفهومة الحديث في بدايات تأسيس المعارف والعلوم، ولأن كل مفكر وعالم ابن لبيئته وسياقه التاريخي والاجتماعي والثقافي، فكان الخوارزمي الذي تجلت عبقريته في الرياضيات والفلك، وكان أول من ألف في علم الجبر، يقول ابن خلدون في ذلك في مقدمته: "... وأول من كتب في هذا الفن أبو عبد الله الخوارزمي، وبعده أبو كامل شجاع."

والخوارزمي هو أبو عبد الله محمد بن موسی الخوارزمي (۱۹۰ - ۲۳۲هـ)، ولد في خوارزم، في بلاد ترکستان، ثم انتقل إلى بغداد حيث ذاع صيته.. أدرك عصر المأمون العباسي، وكان يعرف فضل العلماء، فأغدق عليه وقربه، بل وجعله الخليفة مسئولا على خزانة كتبه، وقد عرفنا شغف المأمون بالكتب اقتناء، وترجمة، وتأليفا.. وكان الخوارزمي مميزا في إدارته، وفي عبقريته العلمية .

والخوارزمي أول من فصل بين علم الحساب: «ARITHMETIQUE»، وعلم الجبر «ALGEBRE»، بل ان لفظة «جبر» من وضعه، استخدمها لحل المعادلات بعد تكوينها.. وقد توصل الخوارزمي إلى حل المعادلات من الدرجة الثانية واستخرج قيمة جذورها الموجبة، كما تعرف إلى المعادلات ذات الجذور التخيلية.. وقد يكون تأثر بما توصل إليه اليونان في هذا العلم، إلا أنه، ومن المؤكد، عالج هذه المادة بأسلوب مختلف، منظم واضح ومتسلسل، ألزم القدماء والمحدثين على ربط هذا العلم به، معترفين بفضله وإسهامه الكبير فيه .

أهم كتاب للخوارزمي في هذا الحقل هو «الجبر والمقابلة»، قال الخوارزمي في مقدمة كتابه: «ولم تزل العلماء في الأزمنة الخالية والأمم الماضية يكتبون الكتب مما يصفون من صنوف العلم ووجوه الحكمة، نظرا لمن بعدهم واحتسابا للأجر، بقدر الطاقة ورجاء أن يلحقهم من أجر ذلك وذخره، ويبقى لهم لسان الصدق ما يصغر في جنبه كثير مما كانوا يتكلفونه من المؤونة، ويحملونه على أنفسهم من المشقة في كشف أسرار العلم وغامضه، إما رجل سبق إلى ما لم يكن مستخرجة قبله فورثه من بعده، وإما رجل شرح مما أبقى الأولون ما كان مستغلقه فأوضح طريقه وسهل مسلکه وقرب مأخذه، وإما رجل وجد في بعض الكتب خللا فلم شعثه وأقام أزره وأحسن الظن بصاحبه غیر راد عليه ولا مفتخر بذلك من فعل نفسه."

وأشار الخوارزمي في مقدمة كتابه إلى أنه أهداه إلى المأمون الذي طلب منه وضع هذا الكتاب، وبين السبب قائلا إنه وضع كتابة: «مختصرة، حاصرة للطيف من الحساب وجليله، لما يلزم الناس من الحاجة إليه في موارثهم، ووصاياهم، وفي مقاسمتهم، وفي أحكامهم وتجاراتهم، وفي جميع ما يتعاملون به بينهم من مساحة الأرضين وكري الأنهار والهندسة».

وفي كتابه «الجبر والمقابلة»، وضع الخوارزمي اصطلاحات لعلم الجبر هي :

الجذر، أو ما نسميه المجهول : س، وكان علماء الجبر يسمونه (الشيء).

المال، وهو الجذر المضروب بنفسه، أي مربع الجذر س

المفرد، وهو العدد الخالي من الجذر، أي الخالي من المجهول : 2، 4، 20.

وقد عمد الخوارزمي إلى حل هذه المعادلات بأسلوبين: أسلوب خالي من الرموز الواردة، وأسلوب استخدمها فيه، ولم يذكر الخوارزمي سوى ستة أنواع من المعادلات. EQUATIONS

وعن مساحة السطوح المستقيمة الأضلاع والأجسام، ومساحة الدائرة، ومساحة قطعة الدائرة.. تحدث الخوارزمي وعين قيمة النسبة التقريبية عينها، وتوصل إلى برهنة نظرية فيثاغورس المتعلقة بالمثلث القائم الزاوية وهو أول من سمى العمود النازل من منتصف القوس بالسهم«CORDE»، وتوصل إلى حساب طول الوتر بواسطة طول القطر والسهم، كما استطاع تقديم حلول عملية لتوزيع أنصبة الإرث حسب الشريعة الاسلامية .

وقد وضع الخوارزمي ما سمي اليوم حساب لوغاريتم LOGARITHIME ، وهو الحساب الذي يحول عمليات الضرب إلى جمع وعمليات القسمة إلى الطرح.

لهذا الكتاب «الجبر والمقابلة» أهمية عالمية، عرفها علماء الغرب والشرق، وكل ما كتب فيما بعد، بني عليه، وبقي فترة طويلة مصدر لكل بحث رياضي. نشر هذا الكتاب وترجم مرات، ووضعت له شروح كثيرة .

تناول الخوارزمي الأرقام في كتبه، وبين فوائدها، وكان له الفضل الأول في نقل الحساب الهندي وتهذيبه لأرقامه، فانتشر بين الناس وعرف عند الأوروبيين بالأرقام العربية.

الخوارزمي العالم قدر قيمته كل من اشتغل بالأرقام «فقد عزز في جبره الصفة الحسابية المحض للأعداد، بوصفها كميات متناهية من طريق اظهار كونها عناصر في التكييف والاستقصاء اللامتناهي للخواص والعلاقات، ففي الرياضيات الإغريقية لا تستطيع الأعداد أن تنبسط إلا بعمليات الجمع والضرب الشاقة، أما رموز الخوارزمي الجبرية التي اصطنعها لتحل محل الأعداد فتحتوي في ذاتها على كونيات اللامتناهي».

- في الفلك :

عمل الخوارزمي في علم الفلك، وقام ببحوت مبتكرة في علم المثلثات: عرف زیجه الذي وضعه بالسندهند الصغير، جمع فيه مذاهب من سبقه في علم الفلك من الفرس والهنود، وخالفهم في التعاديل والميل، اذ جعل الميل على مذهب بطليموس.

أعد الخوارزمي نسختين من السند هند، ولعله أعد له موجزة قبل ذلك وهذا الكتاب شأن كتب الأزياج، لا يشتمل على جداول فلكية فقط، بل يشتمل على مقدمة فلكية طويلة بعض الشيء، وهي أشبه بعلم الفلك النظري

نقح المجريطي كتاب الخوارزمي في جداوله الفلكية وأعاد نشره ابن أبي أصيبعة، ويعتقد (كما تشير دائرة المعارف الاسلامية) أن هذا الكتاب المنشور هو أساس الترجمات اللاتينية لكتاب الخوارزمي، المعتمد على حساب المثلثات في جداوله، وترد فيه كلمة جيب بمعنی SINE.

وتناول الخوارزمي في هذا الكتاب ظهور القمر الجديد، والمهم أن هذا الكتاب في الأزياج كان له أثر كبير في عمل الأزياج الأخرى التي عملها العرب فيما بعد فاستعانوا به ، ويقول في ذلك ابن الآدمی: «فاستحسنه أهل زمانه وطاروا به في الآفاق، وما زال نافعة عند أهل العناية بالتعديل إلى زماننا هذا».

وألف الخوارزمي أيضا كتابين في الاسطرلاب: «كتاب العمل بالاسطرلاب والكتاب عمل الاسطرلاب»، على أنهما لم يصلا إلينا لا بالعربية، ولا باللاتينية .

وتناول الخوارزمي أيضا مسائل التنجيم من الناحية العلمية، تقول دائرة المعارف الاسلامية: مثال ما رواه أبو معشر من أن الخوارزمي بحث إلى أي حد نبأ اقتران الكواكب عند مولد محمد برسالته .

 وأعد الخوارزمي أيضا مجموعة من صور السماوات والعالم نزولا عند إشارة المأمون، والراجح أن علماء غيره اشتركوا معه في ذلك.. ومن هذه الصورة کتاب «صورة الأرض»، وهو مخطوط محفوظ في ستراسبورغ، ويسمى أبو الفداء هذا الكتاب باسم «الكتاب الربع المعمور» وقد سبق أن بين نيللينو أن هذا الكتاب هو النص الذي كان يصاحب الصور.. وقد تم إعداد هذه المجموعة في نسختيها بالاستعانة بجغرافية بطليموس ولكنها نشرت وتوسع فيها من غير استعانة به تقريبا.

نشر نیللينو هذا الكتاب في ترجمته اللاتينية وبحث مادته الجغرافية بحثا مستفيضا بمقارنته بمعلومات بطليموس.. ثم تناول فون مزيك هذا الكتاب بالدرس الشامل ونشره وترجمه وعلق على الجزء الخاص بأفريقيا، وأعد لذلك صورة تعتمد على ما ذكره الخوارزمي.

وهكذا تكون مؤلفاته : • الزيج الأول.

الزيج الثاني المعروف بالسند هند، کتاب الرخامة .

كتاب العمل بالاسطرلاب وکتاب صورة الأرض .

كتاب عمل الاسطرلاب • كتاب الجبر والمقابلة .

وما تركه الخوارزمي هو ثروة علمية كبرى، إن كان في علم الجبر، أو في علم الفلك، وما زال يدرس إلى اليوم، مثبتة في الكتب العلمية، والجامعية، والمدرسية.

يقول قدري طوقان: «حلق في سماء الرياضيات وكان نجما متألقة فيها اهتدى بنوره علماء العرب وعلماء أوروبا، وكلهم مدين له، بل المدنية الحديثة مدينة له بما أضاف من کنوز جديدة إلى كنوز المعرفة الثمينة».

من المصادر والمراجع: دائرة المعارف الاسلامية - معجم العلماء لباقر ورد - تراث العرب العربي القدري طوقان - مقدمة ابن خلدون - الجبر والمقابلة للخوارزمي.