التاريخ.. أحد أهم الدروس والعظات، التى ينبغى أن يستفيد بها كل إنسان عاقل.. فمهما اختلفت الأزمان، وتباينت جغرافية المكان، يبقى الإنسان هو الإنسان.. نزعاته وطموحاته.. حبه وعشقه … غضبه وكراهيته.. نجاحاته وأخطاؤه.. كل شئ يبقى على حاله، من أيام آدم عليه السلام، وحتى لحظة كتابة هذه السطور، ولكننا نسير فيه أشبه بالعميان، فلا نستفيد منه، ولا نتعظ من عبره..
قابيل قتل هابيل، بدافع الحقد والغيرة، للاستيلاء على ما ليس له؛ ليضع بهذا أساس الفكر الاستعمارى، الطامع دوماً فى كل ما يمتلك الغير.. التاريخ نقل لنا كيف اتسعت هذه الظاهرة، مع نمو البشر و تكاثرهم، وظهور المجتمعات والقبائل، ثم المدن والدول والأمم والحضارات.. وعبر التاريخ، كان الطامع والمستعمر يوجد دوماً لنفسه سبباً وتبريراً؛ لممارسة أطماعه، وتبرير نزعاته الاستعمارية، ليس ليقنع الشعوب المستعمرة،ولكن لإقناع رجاله أنفسهم، الذين يحاربون خلفه، ويقاتلون من أجله، وربما لا يدرك معظمهم حتى هدفه الحقيقى، الذى يبذلون أرواحهم فى سبيله..
التتار مثلاً، عندما هاجموا الأمة الإسلامية، وأسقطوا الخلافة فى بغداد، ادعوا أنهم أتوا لإنقاذ الإسلام والمسلمين، حتى تصدى لهم سيف الدين قطز، وهزمهم فى عين جالوت، فى الخامس والعشرين من رمضان 658هـ - الثالث من سبتمبر 1260م؛ ليكسر شوكتهم، ويثبت زيف حجتهم، وخديعة ادعاءاتهم.. التتار المغوليون لجأوا إلى الوحشية المفرطة؛ للسيطرة على أعدائهم، وبث الرعب فى قلوبهم، فقتلوا واغتصبوا وعذبوا وأحرقوا، فى كل قرية أو بلدة دخلوها، ولكن وحشيتهم هذه جعلت أعداءهم يرون أنه لا سبيل إلا مواجهتهم، بكل القوة والبأس؛ باعتبار أن ما دون ذلك هو الموت المهين والتعذيب والدمار والعار.. ولم يتعَّلم أحد من هذا الدرس،
ففى أعقاب الحرب العالمية الأولى، وهزيمة ألمانيا، وتوقيع معاهدة فرساى المذلّة، التى أسدلت الستار على الحرب فى 28 يونيو 1919م، انتشر الكساد الاقتصادى، وسادت البطالة فى ألمانيا، فتأسست الحركة النازية أو الحزب القومى الاشتراكى العمالى الألمانى، على يد أنتونى دريكسلر، والصحفى كارل هاريرا، وعلى رأسهم أدولف هتلر، الذى زعم فيما بعد، أنه المؤسس الوحيد للحزب، وسرعان ما صعد نجمه، وعلا شأنه، حتى تولّى منصب مستشار الدولة، عام 1933م، ثم لم يلبث أن حمل لقب الفوهرر، أو الزعيم العظيم، عام 1934م، ولم يكد هتلر، الذى شارك فى الحرب العالمية الأولى، كعريف مراسلة بسيط، يملك زمام الأمور فى ألمانيا، حتى أبدى عداءه المعلن للشيوعية، التى رأى أنها أُس البلاء، ولليهود، الذين نسب إليهم الكساد الاقتصادى والبطالة، والسيطرة على موارد البلاد، وأنشأ قوات العاصفة، من شباب الحزب النازى، وجعل منهم كياناً موازياً للجيش، فى تنظيمه وتسليحه، وراح يستخدمهم فى قمع كل معارضة، وكسر أنف كل انتقاد، حتى أن سيرهم فى شوارع ألمانيا، بزيهم الأسود وصليبهم المعقوف، المعَّلق على أذرعتهم، كان كفيلاً بإثارة الرعب، فى قلب كل من يراه، من سكان ألمانيا..
وعلى الرغم من كل من حذروا مما يفعله، صعد نجم هتلر أكثر، واستطاع، عبر برنامج قاس شديد التعقيد، أن يخفض معدَّلات البطالة، وينعش الاقتصاد، ثم ألغى كل سمة ديمقراطية فى ألمانيا، ولفَّق الاتهام بمحاولة قلب نظام الحكم للشيوعيين، وأحرق الرايختشاد، الموازى لمجلس الأمة عندنا، وألغى الانتخابات، وفرض هيمنته على ألمانيا، التى هوت فى سرعة، فى مستنقع دكتاتورية وحشية جديدة، قبل أن يعلن هو التمَّرد على بنود معاهدة فرساى، ويجتاح بولندا، ويبدأ فى إعداد جيشه الاستعمارى الانتقامى، غير مبال بالقوتين العظميين فى ذلك الوقت، إنجلترا وفرنسا..
ومع تنكيل النازية باليهود، والاستيلاء على ممتلكاتهم، وتسخيرهم فى معسكرات اعتقال رهيبة، بدأت نزعة النازيين الاستعمارية تظهر فى وضوح، وهم يزحفون فى أوروبا وأفريقيا، ويحتلون البلد تلو الآخر، مع ممارسات وحشية عنيفة قاسية، تصوَّروا أنها سترهب أعداءهم، وتدمَّر معنوياتهم، وتدمَّر مقاومتهم.. هذا لأنهم لم يتعلموَّا من التاريخ.. ففى كل البلدات الأوروبية المحتلة، وبسبب الوحشية المبالغة، ظهرت حركات مقاومة عنيفة، ظلت تنخر فى الجسد النازى، وتمد يد المساعدة الداخلية للحلفاء، وتؤازر الكل ضد ألمانيا الهتلرية النازية، التى انهزمت فى الجليد الروسى، وبدأت زحف انسحابها عام 1943م، وانكسرت بغزو نورماندى عام 1944م، وراحت تتراجع حتى برلين، حيث انتهى الأمر باستسلامها، وبانتحار أدولف هتلر كما يزعمون..
والعجيب أنه لم يتعلَّم أحد، من هذا الدرس التاريخى، أن الوحشية تقود دوماً إلى الهزيمة، وستجد هذا واضحاً فى تنظيم داعش، الذى يفتقر إلى أية خلفية ثقافية أو تاريخية، فمنذ بدء ظهوره، عام 2011م، وحتى بدأ انحداره فى 2017م، اعتمد التنظيم على سياسة الوحشية المفرطة، والقسوة اللامتناهية، ظناً منه أنها الوسيلة الأمثل، للسيطرة على من وقعوا فى أيديه، وإرهاب أعدائه وخصومه، فى الوقت ذاته، وتحت قيادة إبراهيم عواد إبراهيم على محمد البدرى السامرائى، الشهير بأبى بكر البغدادى، راح مقاتلو التنظيم ينشرون صور قطع الرءوس وإحراق الأسرى، والتنكيل والسبى للنساء، من أية ديانات أو مذاهب أخرى، فصاروا صورة وحشية للنازية، مما أدى إلى النتيجة ذاتها، فبدلاً من أن يرهب هذا الخصوم والأعداء، كان السبب فى تجمَّعهم وتآزرهم وتحالفهم، والانقضاض على التنظيم، فى تحالف واحد مشترك..
ولأن داعش والبغدادى لم يتعلما شيئاً من التاريخ، فقد كانت الهزيمة من نصيبهم، وحتى لحظة كتابة هذه السطور وهم يفشلون، ويتراجعون، وينسحبون، ويخسرون كل ما ربحوه، فى الأعوام القليلة، التى سيطروا فيها، هذا ببساطة، لأنهم لم يتعلموا شيئاً من التاريخ، ولم يتبعوا قواعد الفن الأساسية.. فن الحرب.