السبت 29 يونيو 2024

صورة المرأة في أدب نجيب محفوظ كما تعكسها رواية "زقاق المدق"

فن11-12-2020 | 12:57

تأثر نجيب محفوظ بحي الجمالية، فقد ظهرت في شتي أعماله فقد عرف تفاصيل الحياة الشعبية التي انعكست بشكل واضح علي أدبه بجميع مراحله وخاصة المرحلة الواقعية منه، فمنه أخذ أسماء كثيرة من أعماله الروائية مثل خان الخليلي 1946 م وزقاق المدق في 1947 م، وبين القصرين في عام 1956 م، وقصر الشوق في 1957 م والسكرية في عام 1957م وكل هذه الأسماء هي أسماء الحواري المتلاصقة الطويلة الضيقة في حي الحسين.

استلهم "محفوظ" فكرة الحارة من محل مولده ونشأته بالجمالية التي أًبحت عنده رمزاً للمجتمع والعالم والحياة والبشر، فقد كان المجتمع متمثل لديه في الطبقة الشعبية التي تسعي إلي العلم والمعرفة والعدالة، حيث تتشباك فيها شخوصها مع العالم الجديد، حيث الطبقات الارستقراطية بنفوذها وسلطتها والاختلاف الواسع من حيث المأكل والملبس والأحلام والأمنيات، التي تتصارع من أجل بلوغ أمانيها وطموحاتها المؤجلة علي إثر واقعها الاجتماعي والاقتصادي المتواضع، فقد كانت أعماله محملة بخلاصه تجاربه الحياتية فقد عكست واقعه وثقافاته وأفكاره الفلسفية، وتحاول الهلال اليوم رصد صورة المرأة التي تمثلت في صورة حميدة في رواية زقاق المدق التي تعتبر أحد أبرز أعماله التي عبرت عن مرحلة الواقعية.

زقاق المدق هو أحد الأزقة المتفرعة من حارة الصنادقية بمنطقة الحسين بحي الأزهر الشريف بالقاهرة، غير أن هذه المنطقة تتميز بأنها جزء من القاهرة الفاطمية والتي أسسها الحاكم المعز لدين الله الفاطمي منذ ما يزيد من ألف عام، وهو زقاق صغير شعبي يتفرع من شارع الصنادقية الموازي لشارع الأزهر" وقد كان ضيقه سبباً لتشابك الأحداث في الراوية و يعتبره بطل النص الأدبي، فالمكان هنا هو البطل الذي تدور في فلكه الشخصيات التي تسكنه بدءًا من حميدة وحسين كرشة اللذان يبغضان الزقاق والحياة فيه، وبين عباس الحلو الذي يحبه ويعتز به ويقنع بما هو عليه والمعلم كرشة وقهوته وزيطة صانع العاهات و سليم علوان والسيد رضوان الحسيني والدكتور البوشي وغيرهم .

كان الزقاق المرشد والدليل والعلامة والعتبة للدخول إلي عالم ساكنيه الذين يمثلون الطبقة الشعبية فلم يقل ( مدينة أو حارة أو ناصية، شارع، عطفة ) بل كان الزقاق بتركيبته الضيقة الذي يسع عالم صغير ملئ بالشخصيات التي تتنوع في أشكالها وأجناسها وألوانها وأعمارها ومبادئها وقيمها ومعاييرها التي تحكمها، فقد كان الزقاق النافذة التي رصد الكاتب من خلالها العلاقة بين معالم العالم القديم بأعرافه وتقاليده ومرجعيته الدينية وعتبة العالم الحديث الذي يمثل التفكك والانحلال بشتي أنواعه، فميدان الملكة فريدة كان بالنسبة لحميدة نهاية العالم القديم.

حميدة هي الشخصية المحورية لا تري في الزقاق الضيق أمالها، لذا فلا أحد يستحق الزواج منها، برغم أن هناك عباس الحلو يرنو إلي الزواج منها، والسيد علوان لا يكف من اختلاس النظر إليها وتفحصها كلما مرت من أمام وكالته، وكان يروقها ذلك فقد كانت تحب أن تكون مرغوبة من الجميع وتتمنع عن مجاراتهم بكل كبرياء.

تري "حميدة" أن الزقاق هو مساوٍ للعدمية فهو لا شيء في مقابل أحلامها وأمانيها التي تتطلع إليها، حيث تعيش هذه الشخصيات في زقاق موصوف بأنه معزول وجامد، حيث يؤكد النص علي مميزات تجعل منه أفقاً مغلقاً ومكاناً قادراً علي الاكتفاء الذاتي "، فهو يحيا بجميع مظاهر الحياة التي تعيشها الطبقة البسيطة فيحتوي الزقاق علي الفرن والقهوة ودكان بائع البسبوسة ودكان عباس الحلو ( الحلاق ) ووكالة العطارة، إلا أن الأنساق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لم تتوافق مع آمال الشباب وطموحاتهم، فحميدة لا تري لها حياة بدون الخروج من هذا المكان الضيق، والحلو لم يحقق أماله التي ارتبطت بحبه لحميدة دون أن يخرج منه باحثاً عن المال، وكذلك حسين كرشة الذي يري أن الحياة لا تبدأ إلا بعد الخروج من زقاق المدق لذلك فهو العدم كما وصفته حميدة .

إن "حميدة" فتاة جميلة محبة للمادة فهي تري في المال أنه القوي الساحرة التي تجعلها تعيش حياة الأثرياء، ولكن في الواقع الذي تعيشه في الزقاق فهي فتاة فقيرة معدمة وجاهلة لم تتعلم في الحياة شيئاً أقصي ما تقوم به في بيتها أن ترتب شئون المنزل، وتخرج في العصر كل يوم لتجوب الشوارع وتمارس هوايتها المعهودة حيث مشاهدة الثياب الفاخرة، وتحلم وتنسج من خيالها عالمها الخاص الذي يقف زقاق المدق عائقاً أمامها فقد كان عالمها ينتهي عند ميدان الملكة فريدة، لذلك كانت تري في المال وسيلتها الوحيدة إلي أن تجتاز وتتعرف علي العالم الخارجي الذي يتعدى ميدان الملكة فريدة" فتقول "ألا يجوز أن أكون من صلب باشوات، ولو علي سبيل الحرام ".

ويوافقها في تمردها علي حياة الزقاق أخيها بالرضاعة حسين كرشة، فهو يري أن الحياة فيه لا تعني شيئاً وأن الحياة الحقيقية تبدأ من دونه وخاصة بعد أن التحق بجيش الإنجليز" الأورانس"، وعرف طريق المال لذلك قرر أن يترك الزقاق وأهله، وكان له دور كبير في إقناع صديقه "عباس الحل" و بأنه لا يستطيع أن يفوز بقلب "حميدة" دون أن يوفر لها مالاً، والمال لا طريق له دون جيش الإنجليز، فكان يوبخه لحياته المستكينة في الزقاق فنهره قائلاً " أنت ابن ستين ....، السفر خير من زقاق المدق، فكانت الآمال كلها معلقة بالالتحاق بالجيش الإنجليزي، فهذا ما عكسته الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كانت تشهدها مصر في تلك الفترة حيث الحرب العالمية الثانية وما نتج عنها من انسحاق الطبقة المتوسطة

جاء هنا دور فرج إبراهيم(القواد) والذي يحدث أثراُ كبيراً في حياة حميدة، فيراها خلال جمع من الناس فيتفرسها ويتمعن في جمالها، وينظر لها نظرة بتحدي وثقة وغرور ويتبعها، فكانت تحب تلك نظرات التي تشي بالتحدي والعراك والصراع، وقد كانت تعرف منذ أن رآها أنها فتنته وتدرك ما يريده منه فقد خطر علي بالها الزواج، بينما هو يبغي البغاء .

يوهم ضحيته "حميدة" بالحب ويري أن مثلها لا يليق بحياة الزقاق، ويؤكد لها أن سيأخذها إلي العالم الحديث بكل ما فيها من تكلف وخطايا، فرغبتها العارمة في التملص من الزقاق وساكنيه يجعله يتمكن من الإيقاع بها وسقوطها في عالم يبغض الفضيلة.

يصطحب فرج حميدة إلي منزله وقد انفرجت أساريرها بمنزله واعتلتها الدهشة لما شاهدته من معالم المدنية والجاه الذي انعكس علي الحجرة، فأين هي من كل هذا الأساس، وأثاث حجرتها الذي لا يتعدى كنبة قديمة تنام عليها.

عندما رفعت حميدة قدميها ودخلت التاكسي، فكانت علامه فارقة في حياتها، فكانت تمثل عتبه جديدة في حياتها، فمثلما كان الزقاق عتبتها الأولى، العتبة الضيقة التي لاتسع أحلامها الجامحة، فإن التاكسي يمثل عتبتها الجديدة التي تعبر بها من ميدان الملكة فريدة الذي كانت عنده تنتهي كل أحلامها، لتتخطاه إلي شارع شريف باشا حيث العالم الجديد الذي تمنته وسعت إليه، فكانت سقطتها الأخلاقية هي التي سمحت لها بالخروج إلي العالم الجديد لتستقبل حياة جديدة، تحترف فيها الرقص بكل أنواعه و كيف تلاطف الجنود الإنجليز بلغتهم، فتهافت عليها الجنود، وجنت الكثير من النقود، وكانت تستقبل تلك الحياة بفرح وسرور فلم تكن بالطيبة أو الساذجة لتبكي علي ما فقدته في مقابل حياتها الجديدة ولم تكن بالفاضلة، فتذهب نفسها حسرات وراءاها المسلوب، فقط إراداتها وجموحها هي التي آلت بها إلي براثن الخطايا، وإلي مدرسة فرج إبراهيم لتتعلم كل شيء في مدرسته وتصبح نادر المثالة في عالم الوضيع كما أشار من قبل وتتأكد لديه نظرته عندما قال إنها "موهوبة بالفطرة.. عاهرة بالسليقة " .

لم يخطئ فرج إبراهيم في تقييمه لحميدة ولم يبالغ إذا نعتها بأنها عاهرة بالسليقة، فجموحها وطموحها، كانت نقطة الضعف التي لعب عليها وبها قادها إلي عالمه وبالرغم من أنها ذهبت من بيته غاضبة، لمعرفتها حقيقته، إلا أنه كان لا يساوره أدني شك أنها ستعود إليه وتترك حياة الزقاق إلي الأبد .

تتخلص حميدة من كل ما يتعلق بها من حياة الزقاق القديم الضيق، فتتخلص من ثيابها الرثة، ومعها اسمها لتستبدله باسم جديد" تينى" الذي يليق بحياة المدنية، فهو اسم يسهل أن ينطقه الإنجليز، ويواكب نمط حياتها الجديدة.

يعلم عباس بعد عودته من التل الكبير بهروب حميدة ولم يتفاجأ من هروبها، فكان الهروب يليق بأحلامها الكبيرة، وبالبحث عنها يجدها، لتبرر له أن حياتها الجديدة ليست إلا حياة شقاء وعناء ولو عاد بها الاختيار لما اختارت هذا الطريق، وذلك بعد أن تأكدت أن كل محاولاتها لنيل حب فرج إبراهيم باءت بالفشل، وماهي بالنسبة له إلا سلعة يتهافت عليها الجنود من كل حدب وصوب، حتي أن أسكن شهوته وتمكن منها رغم رغبته الجامحة بها، ورأي أن الإنجليزي سيدفع خمسون جنيهاً في مقابل أن يمارس الحب مع عذراء، وهنا تمخض لها العالم الذي سعيت ورائه.

وبالرغم من معاناة أهل الزقاق من غياب العدالة الاجتماعية وارتباك تلك النسق، وكساد الحالة الاقتصادية، إلا أن النسق الأخلاقي وارتباك المعايير كانت القاعدة التي حكمت الجميع، فحسين كرشة عمل مع جيش الإنجليز وترك الزقاق غير آبه بشئ، حيث تنعدم كل فرص الحياة لمن يتطلعون إلي الحياة الحديثة فكان الخروج منه كان نهايته غير موفقة، فحميدة تترك الزقاق وتنازل عن معاييرها الأخلاقية لتسقط في عالم البغاء وعالم السلعة، وكذلك عباس الحلو رغم قناعته وحبه للزقاق وأهله إلا أن يخرج منه ويعود إليه محمولاً علي الأعناق، فحبه لحميدة أودي بحياته، فخرج منه في البداية من أجل أن يحقق أحلامها وعاد إليه ميتاً وهو يدافع عن شرفها المسلوب، الذي فرطت فيه بمحض إرادتها، فكانت سقطتها الأخلاقية لم تكن مصادفة، بل كانت رغبة جامحة اجتاحت كيانها منذ أمد بعيد وجاء فرج القواد ليسلبها حياته من عالمها الضيق إلي براح الرذيلة .

لنختتم نهاية هذه الأحداث، وخاصة بعد أن مات الحلو من أجل الدفاع عنها، إلا أن يُنسي " واستوصي المدق بفضيلته الخالدة في النسيان وعدم الاكتراث "، فالنسيان كان الوسيلة المناسبة لأهل الزقاق ليتعايشوا مع الواقع بكل آلامه وخسائره، فكما قال "محفوظ" في راوية أولاد حاراتنا "آفة حاراتنا النسيان ".