في كتابه "معجم شخصيات نجيب محفوظ" الصادر قبل سنوات، تناول الكاتب والباحث الكبير مصطفي بيومي سيرة وتحليل موجزين لكل من ضمهم عالم الروائي العظيم الراحل؛ والذي قدّم الصحفيين في أكثر من عشرة أعمال، تنوعت بين القصة والرواية.
جاء أغلب الصحفيين في عالم محفوظ شخصيات غير سوية، يحمل كل منهم نوعًا من الفساد، سواء كان شخصيًا أم عامًا، تنوعت خصاله بين النفاق والتحايل، والابتزاز والانتهازية، والرقص فوق جثث الآخرين واللا مُبالاة سوى بالمصالح الشخصية. كذلك اتسمت سلوكياتهم بالانحراف، بداية من السهر والمجون والانحلال الأخلاقي، وصولًا إلى الإفراط في تعاطي الخمور والمخدرات.
تبقى شخصية الصحفي "رؤوف علوان" في رواية "اللص والكلاب"، الصادرة عام 1961، والتي تحولت بعدها بعام إلى فيلم أخرجه كمال الشيخ، وأدى دوره الفنان الراحل كمال الشناوي، مثالًا واضحًا ضربه نجيب محفوظ للانتهازية والمُتاجرة بكل شيء في سبيل الوصول إلى المنصب والثراء. فقد كان رغم بدايته الثورية محررًا بمجلة النذير، وهي مجلة منزوية في شارع محمد علي. لكن في حقيقته كان ينتظر الفرصة التي يتحرر فيها من كل قيمه التي طالما أملاها على عقله.
تدرج علوان في انحطاطه سريعًا، تنقل في بضع سنوات من تلك الجريدة شبه معدومة الموارد إلى مركز صحفي مرموق في جريدة كبرى، ولم يكن يُبالي بتصديق أحد لكذبه المفضوح حول العمل الشريف الذي لم يكن سوى انتهازية ووصولية من أجل الوصول إلى قمة المجتمع الذي كان ناقمًا عليه منذ طفولته، والذي ساهم في بؤسه عبّر عنه يومًا بقوله "إني أتعلم بعيدًا عن أهلي وأكابد كل يوم جوعًا وحرمانًا"؛ ما جعله ينتهز الظروف السياسية الجديدة، ويتحول إلى قلم برجوازي مأجور، وتنكر سريعًا لأصوله الكادحة، ولطبقته التي تظاهر في البداية بالدفاع عنها، بينما كانت عيناه طيلة الوقت نصب حياة الارستقراطية.
وفي روايته "ثرثرة فوق النيل" الصادرة عام 1966، التي تحولت إلى فيلم عام 1971، أخرجه الراحل حسين كمال، ظهرت شخصيتان من عالم الصحافة، أحدهما فسد بعد انتماؤه إلى المؤسسة الدينية، بينما الأخرى تفشل في اختبارها الأخلاقي بين عاطفتها ومبادئها.
الأول هو الصحفي والناقد الفني "على السيد"، الذي ابتعد عن نشأته الأزهرية واتجه إلى المخدرات التي انتهت به إلى العوامة التي تدور فيها الأحداث، ووصفته زميلته بأنه "وغد كبير، يقيم أسسه الجمالية على المنفعة المادية، فلا يضطر إلى قول الحق إلا إذا خانه الحظ، وعند ذاك ينقلب هجاء سافرًا بلا رحمة". كان متزوجًا من امرأة قروية يُبقي عليها بلا طلاق، وأخرى قاهرية من ربات البيوت لاتختلف عن ضرتها، ليُرضي بهما نوازعه المحافظة للسيادة، أما في العوامة فهو الزوج الاحتياطي لإحدى نساءها وهي سنية كامل التي تهجر زوجها مرارًا إلى العوامة.
الثانية "سمارة بهجت"، الفتاة الجادة والصحفية المجتهدة، التي -بشكل ما- استحقت أن تكون من شخصيات العوامة، لكنها "بمثابة الاستثناء وسط أغلبية طاغية من اللاهين العابثين اللامبالين والمخاصمين للجدية والالتزام"، وفق بيومي، لكنها لم تستطع مواجهة ساكني العوامة عندما رفضوا جميعًا التوقف بعد أن دهس رجب القاضي رجلا بسيارته ولاذ بالفرار.
في روايته "المرايا"، الصادرة عام 1972، والتي تحولت إلى فيلم سينمائي بطولة الراحل نور الشريف مع نجلاء فتحي، استعرض نجيب محفوظ خمسين من شخصياته المتنوعة بين صفحاتها، في فترة ما بين ثورة 1919 حتى ما بعد نكسة يونيو. ضمن هؤلاء يأتي "سالم جبر" كـ"شخص غريب خُلق ليكون مُعارضًا، حُبًا في المُعارضة قبل كل شيء، فإذا كانت الدولة إقطاعية فهو شيوعي، وإن تكن يسارية فهو مُحافظ"؛ وقد انعكس تطرف جبر الفكري على كل شيء، فوصف حزب الوفد الذي ينتمي إليه بأنه "أفيون الشعوب"، وأن ما يُبرمه من اتفاقات ومُعاهدات فقط لاستمرار الصمت الشعبي؛ كما على عكس العديد من المصريين الذين كانوا يريدون من روميل الاستمرار وطرد الإنجليز، هاجم النازية وحليفتها الفاشية، ومالت علاقاته نحو السفارة البريطانية ورجالها؛ أمّا بعد قيام ثورة يوليو فقد برزت حالته المُتناقضة أكثر رغم انتماؤه للنظام الجديد، فعمل في خدمته، لكنه رغم عمله وتأييده كان يُعارض الكثير من أفعالها، فقط من أجل المُعارضة التي لم يعد يستغني عنها.
وعلى النقيض، يأتي الانحلال الأخلاقي واضحًا مع "يوسف بدران" الصحفي الفني، والذي لا يُمانع في التورط في علاقة مع الفنانة التشكيلية المتزوجة عزيزة عبده، والتي يزداد تورطه معها بعد أن تم اعتقال زوجها في حملة ضد الشيوعيين، وتُنجب منه طفلة تحمل تحمل ملامحه تُصر عزيزة على إبقاءها، إلا أنه يتجنب رؤيتها.
وتتفق الصحفية الشابة "مجيدة عبد الرازق"، مع جبر في مُعارضة ثورة يوليو، رغم اختلاف الأسباب، ورغم أنها ذكية وجذّابة، إلا أن مجيدة حظت بحياة مليئة بالتقشف العاطفي، فعقب طلاقها تفرغت لتربية طفليها لتحيا في وحدة اختيارية مليئة بالكآبة والبرود.
على عكسها جاءت الشابة "نعمات عارف" ابنة العشرين، والتي كانت لا تزال تحت التمرين، والتي اتخذت أسرع الطرق بالزواج من الأستاذ زهير ذي الستين عامًا، الذي ركن بعدها إلى الراحة "فلم يمسك بالقلم إلا لكتابة يومياته الأسبوعية في الموضوعات اليومية العامة"، ولم يقو على حيوية الفتاة التي سُرعان ما انخرطت في الخيانة مع صديق زوجها؛ أما الزوج نفسه، فقد جاء ترهله بعد حياة مُثقلة بالتناقضات والنفور، فكان مع كتاباته السياسية في الوفد، بعد حصوله على عضوية مجلس النواب، مع الإتجار بكل شئ؛ وحتى يستمر بعد ثورة يوليو قامت بُمهاجمة الوفد بشراسة رغم إيمانه داخليًا بمبادئه "وتعين صحفيًا في إحدى الجرائد الكبرى، وسُرعان ما اعتُبر قلمه من أقلام الثورة، كما عُهد إليه بتحرير صفحتها الأدبية، فقاد نُقّاد الأدب المُعاصر"، وكان حسب الهدية أو المبلغ الممنوح له يقوم بتقييم الأعمال الفنية.
ويأتي "محمد بهجت" الصحفي في قصة "زينة" التي نُشرت ضمن المجموعة القصصية "دنيا الله"، التي صدرت طبعتها الأولى عام 1962 عن مكتبة مصر، نموذجًا للصحفي الذي يستغل قلمه في أعمال الدعاية من أجل الوصول إلى أحلام الثراء وتدرج السلم الطبقي سريعًا وتمثلت أحلامه في "شقة جديدة في حي راق بعيد عن روض الفرج طبعًا، أثاث فاخر، مطبخ أمريكاني، بار أمريكاني أيضًا، سخان، فريجدير كبير، سيارة، شقة دائمة بالإسكندرية للتصييف في الصيف ولعطلات المواسم في بقية الفصول"؛ ما يجعله يكتب مقالات عن العقاقير الطبية لصالح الشركات التي تدفع، بل ويترك صاحب الشركة يُذيله باسمه! ولم يكن يُعلق على التدخل السافرفي عمله ولم يعد لديه ضمير يُقلقه من ضرر تناول هذه العقاقير التي لا تُجدي نفعًا لدى المرضى، طالما يتناول هو مع كل موضوع ظرفًا مُناسبًا.