يعد جورجي زيدان علامة بارزة في الصحافة المصرية، وهو أحد رواد الصحافة في الوطن العربي، ولد زيدان لأسرة مسيحية فقيرة، في عين عنب في جبل لبنان، عام 1861، كان له 5 اخوة، هم متري، واجيا، إلياس، يوسف وإبراهيم، عانت أسرته من الفقر وظروف صعبة، ربما مكنته لان يكون صامدا أمام عثرات الحياة في مستقبله، واستطاع أن يكون جورجي زيدان الذي لا يجهله أحد اليوم.
تنشر "الهلال اليوم" مقال الدكتورة عزة أحمد هيكل:
بقلم الدكتورة عزة أحمد هيكللأنه عصر من عصور التنوير والنهضة التى شهدتها مصر كمنارة للأمة العربية فإن قضية المرأة كانت ومازالت هى الشغل الشاغل والهم الممتد للعديد من الكتاب والمفكرين الذين ربطوا بين قضية المرأة وقضية الوطن حيث صارت هوية الأوطان وتحررها وتقدمها معادلاً موضوعياً لتقدم المرأة العربية وتحررها من قيود العهد العثمانى الذى أعاد النساء إلى الحرملك وفصل بين المرأة وبين الحياة والمجتمع وحصر دورها فى الدور الأنثوى البيولوجى وتكون مجرد أنثى يتزوجها الرجل ويستمتع بها أن وتنجب له الصغار وتعيش عمرها حبيسة الحرملك المخصص لكل من تحمل تاء التأنيث عنواناً لوجودها وبياناً لجنسها الذى يراه الرجل أدنى مكانة ومنزلة من مقامه العالى المتميز فكراً وعلماً وقدرة بشرية مما يعنى نفى عظمة الخالق وإبداع المولى الذى ساوى فى خطابه الإلهى بين النساء والرجال فى الحقوق والواجبات والفروض والعقوبات فكان تقدير الخالق للمرأة أن جعلها مساوية للرجل فى كل ما يتعلق بالأوامر والنواهى ولم يرفع عنها التكليف أو الجزاء أو الحساب لأنها مخلوقة لها ما للرجال وعليها ما عليهم.. وإن كانت مختلفة فى التكوين النفسى والجسدى فما هذا إلا للتكامل بين الذكر والأنثى كما هو بين الليل والنهار والشمس والقمر والصيف والشتاء حتى تكتمل دورة الحياة البشرية فى لوحة الإبداع الإلهى التى خلقت الرجل والمرأة ميزان الوجود.
ولقد اهتم العديد من الكتاب والباحثين فى قضايا المرأة بكتاب قاسم أمين تحرير المرأة 1889 والمرأة الجديدة 1906 وأغفلوا ما كتبه الكاتب والمؤرخ اللبنانى المولد المصرى الهوى جرجى زيدان مؤسس مجلة الهلال عام 1892.
لقد كان لجرجى زيدان إسهامات عدة فى مجال قضية المرأة بداية من رواياته التاريخية التى لعبت فيها النساء أدوار البطولة ودارت الأحداث والصراعات حول المرأة فى عصور متعددة من التاريخ الإسلامى الذى أرخ له جرجى زيدان من خلال قصص النساء اللاتى تعرضن فى فترات زمنية لصراع عقائدى أو سياسى بين رجال وقادة حول أرض أو عرش أو ولاية أو خلافة فكانت النساء فى روايات الكاتب مصدراً للإلهام معبرة عن الاغتراب الفكرى الذى عاشته المرأة وهى مجرد بطلة من حدث جلل وكبير مثل «غادة غسان» أو أرمانوسة المصرية أو «عذراء قريش» أو «العباسة أخت الرشيد» أو «غادة كربلاء» أو «عروس مزغانة» أو «غادة القيروان» أو «شجرة الدر» فهذه الروايات التاريخية اتخذت من المرأة عنواناً ومكاناً وزماناً للحدث وللصراع ولتأصيل الصراعات التى جرت فى دفتر أحوال الأمة الإسلامية وهى تدق ركائز قوتها وتغزو أشرعة خلافتها فى ربوع الكرة الأرضية منذ عهد الخلفاء الراشدين إلى الدولة الأموية وفتح الأندلس والدولة العباسية وفتح مصر والمغرب العربى نهاية بالحملات الصليبية والدولة الأيوبية وعصور المماليك حتى الدولة العثمانية.
ومن هذا المدخل النسوى نجد أن جرجى زيدان اتخذ من المرأة ستاراً أدبياً ليكتب رؤيته السياسية عن تاريخ الدولة الإسلامية من منظور القهر ومن مقام بطولة المظلومية وهو المسيحى الديانة اللبنانى النشأة الليبرالى الفكر فإذا بالمرأة هى الهوية التى يبحث عنها فى ظل مجتمع غالبيته من الرجال وأيضاً من المسلمين فإذا بالمسيحى والمرأة يأتيان فى مرتبة أدنى وأقل من الرجال والمسلمين، لهذا فإن دعوة جرجى زيدان للنساء بالتقدم والتحرر الفكرى والمجتمعى ما هى إلا صرخة الذات نحو مجتمع يعترف بالفرد دون النظر إلى جنسه أو ديانته وإن كان لم يصرح بهذا بلاغة لأنه لم يشأ أن يعترف بالغربة الإنسانية وهو الكاتب الحر الليبرالى الذى يدعو إلى إعادة قراءة تاريخ أمته الإسلامية من منظور النقد وليس فقط من مدخل المدح والفخار.
وفى أحد مقالته بمجلة الهلال عام 1894 رداً على أحد القراء الذين تسآلوا عن أحقية المرأة فى الدراسة والعمل والمساواة مع الرجال فى مجتمع بدأ أولى درجات التطور مع مدرسة السنية للبنات والتى أسسها على مبارك باشا فى عهد الخديو إسماعيل عام 1873، حيث كانت البنات يدرسن ويحصلن على التعليم والمأكل والملبس دون أى مصروفات تشجيعاً وتمهيداً لنهضة نسائية حقيقية على يد العديد من النساء اللاتى تعلمن من تلك المدرسة وهذه الحقبة الزمنية الفاصلة فى تاريخ مصر الحديث أمثال هدى شعراوى وأمينة السعيد وسيزا نبراوى ونبوية موسي.. فى ذلك المقال الذى رد فيه جرجى زيدان على القارئ منصفاً للمرأة ومؤيداً لتعليمها ولعملها وإن كان مؤمناً بخصوصية المرأة الشرقية العربية والتى عليها أن تجمع بين أصالة الشرق وعاداته وتقاليده ولا تتخلى عنها مع التطور وتعليم الفكر الغربى الذى يدعم المرأة ككائن له الحق فى التعليم وفى العمل وإن كانت المرأة الغربية فى تلك الفترة لم تحظ بأى حقوق مادية أو سياسية أو اجتماعية وإنما كانت نساء الغرب مازلن يبحثن هن الأخريات عن حريتهن وعن مكانتهن كما فى مسرحية «هنريك أبسن» الشهيرة بـ «بيت الدمية» 1879 والتى رفضت بطلتها «نورا» أن تظل مجرد دمية فى بيت زوج لا يعترف بقدرتها الإنسانية ولا يقدر ما فعلته من أجله ومن أجل أسرتها وأبنائها وكيف أنقذته من الإفلاس وضحت بأموالها من والدها وزورت تاريخ الوفاة لتحصل على ثروة الوالد وتعطيها لزوج يرى فيها مجرد «دمية» ويقلل من شأنها ومن فكرها بل ويرفض أن تكون هى من أنقذته من السجن والإفلاس والفضيحة.. فتقرر تلك المرأة النرويجية أن تترك المنزل والزوج والأولاد وتصفق الباب من خلفها وتخرج إلى الشارع لتبدأ حياتها من جديد مستقلة متمكنة من مشاعرها متحكمة فى مصيرها حتى وإن كانت بلا زوج إذا فإن ما كان يدعو إليه جرجى زيدان وقاسم أمين من بعده لم يكن سوى رغبة فى أن تحاكى المرأة العربية أو الشرقية ما تطمح إليه نساء الغرب ومع أن مقالة جرجى زيدان قد سبقت كتاب قاسم أمين ودعوته لتحرير المرأة إلا أن الباحثين قد أغفلوا ذكرها ودراستها لأن قاسم أمين قد قدم لكتابة الزعيم السياسى سعد باشا زغلول وكانت دعوته معاصرة لحركة التحرر الوطنى على يد مصطفى كامل وتزامن اسم قاسم أمين ودعوته مع بطولة سعد زغلول وثورة 1919 ولأن مقالة جرجى زيدان نشرت فى إحدى إصدارات مجلة الهلال ولم تنشر فى كتاب مستقل لذا لم تنل ذات الشهرة والمكانة والاهتمام الذى أصاب أعمال قاسم أمين بالرغم من أن جرجى زيدان يعد أكثر جرأة وشجاعة من قاسم أمين فى تناوله لقضية المرأة لأنه لم يتناول قضايا تعدد الزوجات أو الزواج والطلاق والميراث وإنما تطرق مباشرة إلى موضوع عمل المرأة وتعليمها وهو هنا يشير إلى أهمية أن تشارك النساء الرجال فى بناء المجتمع الجديد بالعلم والعمل وليس مجرد تناول المرأة من منظور الأنثى كما فعل قاسم أمين والذى كان ينتمى إلى الطبقة الأرستقراطية ذات الأصول التركية بينما جرجى زيدان ينتمى إلى الطبقة الوسطى الكادحة كما يعانى اغتراباً فكرياً وعقائدياً وكذلك اغتراباً فعلياً لأنه ذو أصول لبنانية مسيحية.
إن مقال جرجى زيدان وكتاباته الروائية عن المرأة فى قالب تاريخى كلها تمهد السبل إلى ما تبعه من أعمال وكتابات عن المرأة فهو لا يقبل أن تحبس الفتاة الشرفية نفسها بين جدران غرفتها ولا أن تنظر إلى الطريق إلا من خلال قضبان النوافذ والمشربية والحرملك وإنما قد أخرج المرأة من سجنها ومنحها البطولة فى رواياته العديدة ودعى إلى أن تكسر قيود أسرها الذى فرضه عليها رجال لا يدركون قيمة ومعنى المرأة وخصوصية تكوينها وأن الحياة لن تكتمل والمجتمع يحيا بنصف إنسان ولكنه كائن يرى بعين واحدة ويسمع بأذن واحدة ويسير على قدم واحدة ويمسك بيد واحدة ويتنفس برئة واحدة... لن تكتمل الحياة إلا برجل وامرأة يعملان سوياً من أجل مجتمع أفضل وبشرية أرقي.. ورحم الله جرجى زيدان محرر المرأة من عبودية الزمن وقهر المكان وظلم رجل ناقص البنيان لا يدرك معنى البيان فى خلق البنين والبنات.