الإثنين 20 مايو 2024

في ذكرى ميلاد مؤسس «دار الهلال»..العقاد يكتب: هؤلاء عرفوا جرجى زيدان

فن14-12-2020 | 18:12

يعد جورجي زيدان علامة بارزة في الصحافة المصرية، وهو أحد رواد الصحافة في الوطن العربي، ولد زيدان لأسرة مسيحية فقيرة، في عين عنب في جبل لبنان، عام 1861، كان له 5 اخوة، هم متري، واجيا، إلياس، يوسف وإبراهيم، عانت أسرته من الفقر وظروف صعبة، ربما مكنته لان يكون صامدا أمام عثرات الحياة في مستقبله، واستطاع أن يكون جورجي زيدان الذي لا يجهله أحد اليوم.

تنشر "الهلال اليوم" مقال عباس محمود العقاد

بقلم عباس محمود العقاد

كنت حوالى سنة 1905م أعمل فى دواوين الأقاليم: قنا ثم الزقازيق.. وكنت أزور القاهرة مرة كل أسبوعين، أو كل شهر، عندما كنت أعمل فى الزقازيق..أزورها لغرضين فى وقت واحد: أن أشهد التمثيل بفرقة سلامة حجازي، وأن أبحث عن الكتب التى لا تصل مع الباعة المتجولين إلى الأقاليم.. وفى مرة من هذه المرات، قصدت إلى حى الفجالة لأسأل عن كتاب ما-أى كتاب- فى فلسفة الجمال..

ولم أكن أعرف اسم الكتاب الذى ابحث عنه لأنه، كما ظهر لى بعد ذلك، لم يوجد من قبل باللغة العربية، ولم يوجد إلى اليوم. وإنما كنت أتصفح فصول الأديب الخطيب الإنجليزى إدمون بيرك عن الجليل والجميل، فخطر لى أن مثل هذا المبحث لابد أن يكون مطروقا باللغة العربية، وكان اعتقادى فى كتابنا المحدثين منذ أواسط القرن التاسع عشر كاعتقاد أجدادنا فى الأوائل إذ يقولون: ما ترك الأول شيئا للآخر.. فإذا كانت اللغة الإنجليزية قد اشتملت على بحث فى فلسفة الجليل والجميل، فأكبر الظن أن كتابنا المترجمين لم تفتهم ترجمة بحث من هذه البحوث..

ودخلت المكتبة فوجدت على شمال المنضدة المعدة لعرض الكتب رجلين يجلسان على كرسيين متجاورين:

أحدهما مطربش والآخر معمم، وطرق مسمعى اسم السيد توفيق وصهاريج اللؤلؤ، فسمعت الرجل المطربش يقول لمحادثه المعمم: إن السيد توفيق قد عاد بالنثر العربى خمسمائة سنة إلى الوراء.

وسألت البائع: هل يوجد عندكم كتاب فى فلسفة الجمال ؟

قال مستغربا: فلسفة ماذا ؟

فأعدت قولى بلهجة التوكيد: فلسفة الجمال !

والتفت الرجل المطربش إلى هذا الحوار، فنظر نظرة استفهام إلى البائع، فأجابه هذا :

- إن الأفندى يسأل عن كتاب فى فلسفة الجمال !

فتمهل الرجل المطربش، ثم قال: ما أظن كتابا فى هذا الموضوع قد ألف باللغة العربية، ثم سألنى هل رأيت الكتاب المطلوب وعرفت اسمه، أو اسم مؤلفه.

قلت: كلا.. ولكنى رأيت شيئا فى بحث الجليل والجميل بالإنجليزية فخطر لى أن البحث مطروق بلغتنا..

قال فى تؤدة وهو يبتسم: ينبغى حقا، ولكنه لم يطرق فى كتب مستقلة، ولا يزيد ما كتب عنه على بعض الإشارات المتفرقة فى المجلات.

علمت من البائع أن الرجلين المتحادثين هما: جرجى زيدان صاحب الهلال، وأبوبكر لطفى المنفلوطى أخو مصطفى لطفى المنفلوطى الكاتب المعروف.. وأبوبكر نفسه كاتب لم يشتهر شهرة أخيه، وهو الذى كان يكتب بعد ذلك بسنوات فى جمعية «مصر الفتاة» مقالات يحكى بها مقالات أخيه فى المؤيد بأسلوب كأسلوب «صهاريج اللؤلؤ» فى التفخيم والاغراب.

ولا أزال أذكر صورة جرجى زيدان كما رأيته فى ذلك اليوم: رجلا بسيط المظهر بعيدا من كل تكلف فى زيه وجلسته وحديثه: يتكلم فى الأدب والبلاغة والأحاديث العامة بأناة العالم المحقق، ولكن بسهولة المتحدث المفيد .. كأنه يقول ما يقوله للتعليم دون أن يبدو عليه مظهر المدرس فى حصة التدريس، ولا أذكر أننى رأيت من أبناء عصره كاتبا بمثل شهرته ومكانته وبمثل هذه البساطة فى المظهر والحركة والحديث، وقد رأيته بعد سنوات فى داره وفى ساعات فراغه فلم أجد بين مظهره وهو بعيد من الناس ومظهره وهو فى المكتبة العامة أقل خلاف.

وقد طبعت أول ما طبعت من كتبى بمطبعة الهلال، وهما كتاب خلاصة اليومية، ثم رسالة الإنسان الثانى عن المرأة وتاريخ طبعهما كما هو مكتوب عليهما (سنة 1912م) .

ولهذه المناسبة كنت أرى «جرجى زيدان» أحيانا فى مكتبة الهلال وأحيانا أخرى فى مطبعة الهلال، فإن لم يكن فى المطبعة ووجب سؤاله عن شأن من شئون الطبع فالدار التى كان يسكنها غير بعيدة من دار المطبعة، والاستئذان بالتليفون قبل الزيارة لم يكن من مألوفات ذلك الزمن، ولم يكن شيوع التليفون بين المكاتب والمنازل كشيوعه فى هذه الأيام، وإنما كان طالب الزيارة يطرق الباب ويسأل عن صاحب الدار: أهو حاضر ؟ وهل يمكن لقاؤه ؟.. وغالبا ما يجاب بغير حاجة إلى موعد آخر محدود .

وكان العمل مقسما بين الإخوة الثلاثة: جرجى للمجلة ومترى للمطبعة، وإبراهيم للمكتبة، وليس بين المطبعة ومسكن صاحب الهلال غير خطوات قلائل.. أما المكتبة فقد كانت بينها وبين المطبعة مسيرة دقائق معدودات..

وأحسب أن الأمر لم يدع إلى مقابلتى إياه بداره أكثر من مرة واحدة سألته فيها عن رأيه فى فلسفة التفاؤل والتشاؤم، وعلمت فيما عدا هذه المقابلة -عرضا- مبلغ عناية الرجل بالاطلاع على موضوعات العلوم من شتى المباحث والمطالب، وإن لم تكن لزاما من موضوعات النشر بمجلة الهلال.

سألته: أيهما أصح وأصوب، نظرة المتفائل أو نظرة المتشائم ؟

وربما كان السؤال: أى الفلسفتين أصدق، فلسفة التشاؤم أو فلسفة التفاؤل؟

لست أذكر نص السؤال بكلماته، ولكننى أذكر موضوعه العام لأننى كنت مشغولا به فى كل مطالعة وكل نظرة إلى مسائل الأدب والحياة، وفى كلا الكتابين اللذين طبعتهما بمطبعة الهلال إشارة إلى الامامين المتشائمين: أبى العلاء، وشوبنهور، وهما متلازمان فى ذهن كل قارئ عربى يسمع بالتشاؤم فى الثقافة الأوروبية..

ففى خلاصة اليومية أقول بعنوان القول والقائل:

«انظر إلى ما قيل لا إلى من قال- قاعدة لا يصح إطلاقها فى كل حالة- فالكلمة تختلف معانيها باختلاف قائليها، فإن كلمة مثل قول المعري:

تعب كلها الحياة فما أعـ

جب إلا من راغب فى ازدياد

يؤخذ منها مالا يؤخذ مما تسمعه فى كل حين بين عامة الناس من التذمر من الحياة وتمنى الخلاص منها.. فإننا نثق بأن المعرى مارس الأمور الجوهرية فى الحياة ودرس الشئون التى تكون منها عذبة أو مرة، نكدا أو رغدا، ولم يسبر منها أولئك العامة إلا ما يقع لهم من الأمور التى لا تكفى للحكم على ماهية الحياة».

وفى رسالة الإنسان الثانى بعنوان «عصر المرأة» أقول:

«وقفت على آراء فى المرأة للفيلسوف الألمانى ارثر شوبنهور، فأعجبنى حذق الرجل وجرأته على المجاهرة بأقوال يعد قائلها فى أوروبا خلوا من التهذيب وسلامة الذوق وإن كنت أراه قد غلا فى مذهبه إلى حد ربما كان الدافع به إليه غلو المدنية العصرية فى نظرها إلى المرأة ورعايتها إياها.

وقد سألت صاحب الهلال فى هذا الموضوع لأننى انتظرت أن أعرف الرأى الراجح من تجاربه كما أعرفه من اطلاعه ودرسه.. فسمعت منه الجواب المفيد عن الأمرين.

قال لى فى بساطة الرجل الذى يتحدث عن الجو أو أحاديث السمر العارض:

«إننا نعرف من التشاؤم مزاج صاحبه كما نعرف ذلك من التفاؤل، وقد يكون رأيهما واحدا فى حقيقة من الحقائق العملية، أو الفكرية، ولكن هذا يجعله سببا للرضا والآخر يجعله سببا للسخط على حسب مزاجه.. فليست المسألة معهما مسألة صحة أو بطلان، ولكنها مسألة التأثر على حسب المزاج.

وأحسب أنه قال أيضا: إننا نترك البحث عن الاصح ونبحث عن الأصلح، فنرى أن التفاؤل أصلح للعمل فى الحياة والنجاح فيها.. لأنه أصلح لاحتمال الشدة واصلح للأمل فى النتيجة.

وأحسن ما حسن عندى من سمت الرجل، ومن بساطته فى حديثه، وبساطته فى كتابته- أنه لم يتخذ من قواعد العلم كتافا لعقله يحجر عليه ويحرجه إحراج الموسوس الذى يكرر الواقعة مرة بعد مرة ليستوثق من صحتها وضبطها من جميع نواحيها وأطرافها، ثم يرى أنها هى العلم وكل ما عداها فليس من العلم فى شيء.

وكذلك لم يتخذ من قواعد العلم كساء مزركشا يخشى عليه اللابس أن تنكسر قصبة فيه إذا طاوع عقله فى الحركة بعض المطاوعة، ولم يتخشب مع الكساء المزركش، على سنة الوقار أو على سنة الجمود..

فقد كان على اطلاع واسع فى العلوم التجريبية كاطلاعه على بحوث التاريخ والاجتماع، ولكنه كان فى سماحة الفكر وسهولة النظر بحيث يحس كما يفهم أن العقل قد يكون «علميا» وهو يخوض فى كلام لم يقرره العلم ولم يقرر نقيضه كذاك.

ولهذا كان جرجى زيدان يبيح لفكره أن ينظر فى «علم الفراسة الحديث» وليس هو من العلوم التى فرغت التجربة من قوانينها كما فرغت -مثلا- من قوانين الحركة.

وكان يبيح لفكره أن ينظر فى أصول اللغات وأصول الكلمات وأصول القواعد اللغوية دون أن يكون للعلم حكم قاطع فى كل أصل من تلك الأصول.

فإن لم يكن ما يقوله علما مصبوبا فى قالبه الأخير، فهو - بلا شك- مادة علمية يجب أن تتهيأ لقالبها على شكل من الأشكال، ويمتنع علما أن تترك بغير التفات إليها فإن عمل العلم فى تشكيل المادة قبل ثباتها على شكل من الأشكال أوجب من صب القوالب على الشكل الأخير.. وأوجب من ذلك ألا يكون «الشكل الأخير» هذا هو كلمة الختام، وهو الحكم الذى لا يقبل النقض والتنقيح.

وقد كتب جرجى زيدان فى كل مسألة من مسائل عصره الاجتماعية والفلسفية والأدبية، فكان فى كل منها بسيطا تلك البساطة التى عهدناها منه وهو يتكلم عن أسلوب البكرى أو عن كتاب فلسفة الجمال، أو عن فلسفة التفاؤل والتشاؤم، ولكنه قال فيها جميعا رأيه الذى لم يناقضه العلم ولم يأت بما هو أثبت منه على اختلاف النظر فى الأمور.

ولسنا نحسب أن تناول الدراسات المختلفة بمثل هذه البساطة مسموح به لكل صاحب قلم مشتغل بالبحث والتفكير..

إنما يسمح به- فى غير حاجة إلى الرخصة من أحد- للعقل الذى يستمد بساطته من مصدر واحد: وهو مصدر القوة التى هى أكبر من قيود البحث ومراسم الدراسة، وهى فى طمأنينتها إلى قدرتها على سبك القوالب وصهر المادة التى تملؤها تعالج المادة فى دور التشكيل كما تعالجها فى قالبها الأخير.