الخميس 27 يونيو 2024

سعيد يقطين عن جرجى زيدان: أدب أم آداب.. صراع المفهوم والآلية

فن14-12-2020 | 18:21

يعد جورجي زيدان علامة بارزة في الصحافة المصرية، وهو أحد رواد الصحافة في الوطن العربي، ولد زيدان لأسرة مسيحية فقيرة، في عين عنب في جبل لبنان، عام 1861، كان له 5 اخوة، هم متري، واجيا، إلياس، يوسف وإبراهيم، عانت أسرته من الفقر وظروف صعبة، ربما مكنته لان يكون صامدا أمام عثرات الحياة في مستقبله، واستطاع أن يكون جورجي زيدان الذي لا يجهله أحد اليوم.

تنشر "الهلال اليوم" مقال سعيد يقطين

بقلم سعيد يقطين

أدب أم آداب .. صراع المفهوم والآلية 

فى الثقافة العربية الحديثة نشط التأليف مع النهضة العربية الثانية التى عرف فيها المجتمع العربية تطورا على المستويات كافة، وبرز ذلك من خلال انتشار الطباعة. نجمت عنها عمليات جديدة ساهمت فى تطوير التفكير فى الإبداع وتوليد المفاهيم المتصلة به. ويمكننا التمثيل لذلك مما يلي:

أ - نقل المخطوط إلى المطبوع.

ب - بروز علم تحقيق النصوص (المقارنة بين المخطوطات، وتقديم النص تقريبا كما كتبه صاحبه).

ج - بروز الصحافة والمجلة الثقافية (مجلة الهلال التى أسسها جرجى زيدان سنة 1893 مثلا) ودور النشر التى تعمل على ترويج الإبداع.

إننا وفق هذه الصيرورة الوسائطية أمام تحولات كبرى لا تتصل فقط بظهور أشكال إبداعية جديدة، ولكن أيضا بظهور طرائق جديدة فى التفكير فيها. وإذا أردنا تجسيد هذه التحولات، أخذا بعين الاعتبار الأجناس التعبيرية الكبري، فإننا سنجد أنفسنا ننتقل من الشعر (مع الشفاهة)، إلى الكتابة النثرية (مع الكتابة) إلى الأدب (مع الطباعة). أما إذا أردنا اعتبار أشكال التفكير فيها، فإننا سنجد أنفسنا ننتقل، بصورة مجملة، من النقد بمعناه الشفاهى (الاستحسان أو الاستهجان)، (الحقبة الشفاهية) إلى العلوم اللغوية والبلاغية (الحقبة الكتابية)، إلى تحقيق النصوص وتاريخ الأدب والنقد الأدبى (الحقبة الطباعية).

نسجل بدءا، دفعا لأى التباس، وكنقطة انطلاق لعملية التحليل، أن مفهوم الأدب سيتخذ معنيين مختلفين: المعنى العام: وهو الذى تكرس، فى بداية الحقبة الطباعية، مع «تاريخ الآداب العربية»، ومعنى خاص، وهو الذى سيتصل بــ«تاريخ الأدب العربي»، من جهة، وبـ«النقد الأدبي»، من جهة أخري، فى الصيرورة إلى الآن. وتبعا لذلك سنجد مؤلفات «تاريخ الأدب العربي» ستوظف المعنيين فى صيرورتها. وكانت الريادة مع جرجى زيدان أول من وظف تاريخ الأدب بالمعنى العام.

بدايات كتابة تاريخ الآداب العربية:

- 1- النموذج الاستشراقي: جرجى زيدان:

يفتتح زيدان كتابه بقوله: «لم يكن تاريخ آداب اللغة معروفا عند الإفرنج قبل نهضتهم الأخيرة فى التمدن الحديث، وما لبثوا حين تنبهوا له أن ألفوا فيه، وأصبحوا وما من لغة من لغاتهم إلا وفيها كتاب أو غير كتاب فى تاريخ آدابها. ولما استشرقوا أخذوا فى درس اللغة العربية، وكتبوا تاريخ آدابها فى غير كتاب» .

وبعد إشارته إلى مؤلفات عربية صنفت خلال كل التاريخ الكتابى العربى ترصد المؤلفات وتراجم الرجال من فهرست ابن النديم (377هـ) إلى أبجد العلوم للقنوجي، يعلق بقوله: «هذه الكتب وأمثالها تعد من المآخذ (يقصد المراجع) الأساسية لدرس آداب اللغة، ولكنها لا يصح أن تسمى تاريخا لها بالمعنى المراد من التاريخ اليوم، ولم يتصد أحد لتأليف فى تاريخها على النمط الحديث قبل الإفرنج من المستشرقين. فهم أول من كتب فيه من أواسط القرن الماضي. أما فى العربية فلعلنا أول من فعل ذلك. ونحن أول من سمى هذا العلم بهذا الاسم «تاريخ آداب اللغة العربية».

نستخلص من هذا التقديم أن:

ـ تاريخ الآداب حديث حتى فى الغرب.

ـ ما صنفه العرب، قديما، من مؤلفات لا علاقة لها بتاريخ الأدب.

ـ المستشرقين أولُ من فتح باب الدراسة فى تاريخ آداب العربية.

ـ جرجى زيدان أول من صنف «فصولا صدر أولها سنة 1894 فى عدد الهلال التاسع من السنة الثانية، وآخرها فى أواخر السنة الثالثة» ، وأن الكتاب لم يصدر فى صيغته النهائية إلا فى سنة 1911 .

كان كل من زيدان ومصطفى صادق الرافعى أسبق إلى إخراج كتاب فى تاريخ الآداب. ومن عجيب الاتفاق أن نجد كلا منهما يمثل اتجاها مختلفا. فإذا كان زيدان، أميل إلى احتذاء نموذج المستشرقين فى كتابة التاريخ، كان الرافعى أكثر محافظة فى الميل إلى الاتجاه التقليدى فما المقصود بتاريخ آداب اللغة العربية؟ وما الفرق بينه وبين آداب العرب؟

تصور الأدب عند جرجى زيدان:

يبين زيدان أن الغرض من تأليف كتابه «تاريخ آداب اللغة العربية» قابل لأن يلخص فيما يلي: «وبالجملة فإن غرضنا الرئيسى أن يكون لهذا الكتاب فائدة عملية فضلا عن الفائدة النظرية، بحيث يسهل على طلاب المطالعة معرفة الكتب الموجودة ومحل وجودها وموضوع كل منها وقيمته بالنسبة إلى سواه من نوعه. فهو أشبه بدائرة معارف تشتمل تاريخ قرائح الأمة العربية وعقول وتراجم علمائها وأدبائها وشعرائها ومن عاصرهم من كبار الرجال، ووصف المؤلفات العربية على اختلاف موضوعاتها».

لقد استعرض ستة أغراض يمكن اختزالها وترتيبها على النحو التالي:

أ - الهوية العربية: وتتمثل حسب قوله في: «بيان منزلة العرب بين الأمم الراقية من حيث الرقى الاجتماعى والعقلي».

ب - المادة: وتتمثل فى مختلف المنجزات التى تحققت فى التاريخ العربى من خلال قرائح الرجالات فى مجالات العلوم والأدب، وفى ما خلفوه من مصنفات، طبع بعضها، وبعضها الآخر ما يزال مخطوطا وموزعا فى المكتبات العالمية.

ت - المتلقي: إن الغرض الأساسى من الاهتمام بالهوية العربية من خلال رصد مادتها التاريخية يقصد به تعريف الطلاب بتاريخ ثقافة أمتهم.

ولما كان الأمر يتصل بـ«تاريخ آداب اللغة العربية» كان كل ما كتب بها من مصنفات فى مختلف العلوم والاختصاصات وضمنها الأدب ـ وبغض النظر عن البعد الإثنى للرجالات الذين كتبوا بها ـ جزءا من مادة هذا التاريخ العربي. وبذلك يمكننا أن نستخلص أن المقصود بـ«العربية» هنا لا علاقة له بـ«الهوية الإثنية» العربية، ولكن بـ«الهوية الثقافية» العربية. ويبدو ذلك بجلاء فى حديث زيدان عن «الأمة» وتاريخها إذا كان مفهوم «الآداب» عاما فكيف يتمثله زيدان ويحدده من خلال عملية التأريخ؟

يكتب زيدان معرفا تاريخ الآداب: «نعنى بتاريخ آداب اللغة العربية تاريخ ما تحويه من العلوم والآداب، وما تقلبت عليه فى العصور المختلفة، أو هو تاريخ ثمار عقول أبنائها ونتائج قرائحهم» . إنه يبنى هذا التعريف على أساس أن التاريخ عام وخاص: «لكل أمة تاريخ عام يشمل النظر فى كل أحوالها، ويتفرع إلى تاريخ سياسى وآخر اقتصادى وآخر أدبى أو علمي». وبعد تحديد مهمة كل من التاريخ السياسى والاجتماعى والاقتصادي، يوضح أن التاريخ الأدبى والعلمى «يبحث فى تاريخ الأمة من حيث الأدب والعلم. فيدخل فى النظر فيما ظهر فيها من الشعراء والأدباء والعلماء والحكماء، وما دونوه من ثمار قرائحهم أو نتاج عقولهم فى الكتب، وكيف نشأ كل علم وارتقى وتفرع عملا بسنة النشوء والارتقاء».

لا يكتفى زيدان بالتقسيم بين العام والخاص، ولكنه يوضح العلاقة الجدلية بينهما، وأنه لا يمكن أن يستقل أحدهما عن الآخر، وإلا عد ناقصا: «والتاريخ العام إن لم يشمل تاريخ آداب اللغة، كان تاريخ حرب وفتح وسفك وتغلب واستبداد». كما أن تاريخ آداب اللغة «لا يكون وافيا إن لم يوضح بالتاريخ السياسي». هذا التلازم بين التاريخين يكشف أن كل واحد منهما يسهم فى إضاءة الآخر وإتاحة إمكانية تعليل الأسباب وتفسيرها.

التشابه والاختلاف:

إلى جانب تقسيم التاريخ إلى عام وخاص، يشدد على الطابع المميز للآداب فى الثقافة الإنسانية، بذهابه إلى أن هناك ما هو كونى مشترك (التشابه)، وما هو خصوصى (الاختلاف) متصل بمميزات الأمم عن بعضها البعض بقوله: «الأمم تتشابه بطبائعها ومداركها من أكثر الوجوه، وإن اختلفت فى مواطنها. ولذلك جاءت آدابها متشابهة فى موضوعاتها ومصادرها ومناحيها وتأثيرها، مع تباين فى كل أمة تمتاز به عن سواها».

يترتب على القول بالتشابه والاختلاف بين الأمم، على صعيد آداب اللغات الإنسانية، بوجه عام تشابه على مستوى أجناس هذه الآداب واختلافها فى آن، وذلك بحسب تفاوت الأمم فى الأخذ بأسباب الرقي:

إذا كان زيدان يرى أن التمييز بين الشعر والنثر إنساني، ينبرى للشعر بهدف الوقوف على الخصوصيات التى تتميز بها أجناس الشعر العربى فى ضوء مقارنتها بما هو عند اليونان.

انطلق زيدان من أقسام عصور الآداب اليونانية، وجعلها تمتد إلى العصر البيزنطى الذى ينتهى بسنة 1453م. وبذلك فعمر هذه الآداب يتسع لعدة قرون تضرب إلى ما قبل التاريخ مع «العصر الخرافي». ولذلك يعمل على رصد الأجناس الشعرية فى هذه الآداب تاريخيا بقوله: «إن أقدم آدابها دائما الشعر الديني، يليه الشعر القصصى والتمثيلى فالغنائي، ثم ينشأ الأدب والخطابة والتاريخ وتضبط اللغة وقواعدها ثم الفلسفة والعلم الطبيعي».

إن ما يهمنا فى هذا التمييز هو رؤيته التعاقبية لظهور الأجناس الشعرية وباقى أجناس النثر فى اتصالها بالمعارف والعلوم. وفى إطار المقارنة بين الآداب اليونانية والسامية، يهمنا تأكيده على الاختلاف بقوله: «فالشعر عند الساميين أقدم آدابهم، لكن أكثره غنائي، وليس فيه من الشعر القصصى إلا نتف قليلة. أما التمثيل فيظهر لأول وهلة أنه بعيد عن آداب العرب، وسنرى أنه موجود فيها».

يسلم زيدان أن الشعر العربي، وهو يحدد أجناسه فى ضوء النظرية الغربية، غنائى بالدرجة الأولي، وأن الشعر القصصى لم يعرف العرب منه سوى نتف قليلة. ورغم نفيه وجود الشعر التمثيلى عند العرب، " إذا أمعنا النظر فيما خلفه العرب ممن أخبارهم وآدابهم وجدناه لا يخلو من التمثيل بأعم معانيه، وإن لم يكن شعرا مجردا بل هو مزيج من الشعر والنثر". وأن هذا الشعر التمثيلى قد وصل إلينا عن طريق القصص والحقائق التاريخية، «وأكثر تلك القصص ترمى إلى تمثيل الفضائل البدوية التى يقدسها العرب، كالوفاء والضيافة والشجاعة والجوار والعفة والفروسية ونحوها تمثيلا يحببها إلى الناس ويرغبهم فيها»، ويضرب لذلك أمثلة من قصص تدور حول كرم حاتم الطائى ووفاء السموأل، وواضح هنا الانزياح من «التمثيل» بالمعنى الدرامى أو المسرحي، إلى التمثيل الدلالي.

لكنه رغم هذا التأكيد على وجود «التمثيل» فى الشعر العربى يقر فى النهاية أن العرب لم يعرفوا الشعر القصصى والتمثيلي، وأن «الشعر العربى أكثره من الشعر الغنائي، وهو أرقى فى العربية منه فى سائر اللغات، وليس فى الدنيا أمة تضاهى العرب فى كثرة الشعر والشعراء».

عصور آداب اللغة العربية:

وكما قسم زيدان عصور آداب اليونان إلى سبعة عصور، رأى أن عصور آداب اللغة العربية سبعة هي: الجاهلية وعصر صدر الإسلام، والعصر الأموي، والعصر العباسي، فالمغولى والعثماني، وأخيرا العصر الحديث. وفى كل عصر كان يرصد الأدب والعلوم، مبرزا بداياتهما، وأعلامهما، وتراجمهما ومقتطفات من أعمالهم. وبذلك جاء كتابه فعلا «دائرة معارف» تقدم معلومات غزيرة فى مختلف المباحث التى تصدى لها.

الخروج على النموذج الاستشراقي:

إن النموذج الذى سار عليه جرجى زيدان، ومن على منواله، لقى معارضة شديدة ونقدا قويا من لدن مصطفى صادق الرافعي؛ ويمكننا تبين ذلك من خلال موقفه من مفهوم «الأدب»، وطريقة كتابة تاريخه وتحديد أجناسه، على النحو التالي:

مفهوم الأدب:

رغم أن الرافعى يسمى كتابه «تاريخ آداب العرب» ، فهو فى الواقع لم يكن يقصد غير «الأدب». ولعل الجمع لم يكن يستعمله إلا مسايرة للسائد، كما نجد مع زيدان، ومع مفهوم «أدبيات» الذى أقرته الجامعة.

يبدأ الرافعى كتابه بالنقد اللاذع للطريقة المتبعة فى كتابة تاريخ الأدب العربي، لأنها تقليد باهت لكتابات المستشرقين، ويبين موقفه بجلاء بقوله فى تصدير كتابه: «أريد أن أصف الطريقة التى انتهجتها، وأبين لم خالفت القوم فى نمط التأليف إلى ما ابتدعته» ، حيث يقول: «بيد أن تلك العصور إذا صلحت أن تكون أجزاء للحضارة العربية، فلا تصلح أن تكون أبوابا لتاريخ آداب اللغة».

إن الرافعى هنا، يبدو مطلعا على ما قدمه زيدان فى مجلة الهلال، ولذلك فهو يخالفه فى تعميم مفهوم الأدب ليتسع لكل الإنتاجات التى خلفها العرب من أدب وعلم. ويتجلى ذلك فى كونه يرى أن تاريخ الأدب يجب أن يكون تاريخا للأدب وفنونه، فقط، ولا دخل للعلوم والفلسفة وسواها فى تاريخ آداب العرب. هذا الاختلاف فى التحديد بين «آداب اللغة العربية»، و«آداب العرب» يجعلنا نرى زيدان منسجما مع نفسه وفق التصور الذى بواسطته يعترض الرافعى عليه: فزيدان يؤرخ لآداب اللغة العربية باعتبارها تتسع لكل ما قدمه العرب من شعر ونثر على الإطلاق. وبذلك يكون لمعنى «الآداب» فى تصور زيدان معنى الحضارة أو الثقافة. لكن الرافعى وهو يدافع عن رؤيته، يضيق معنى «الأدب»، ويقترح لذلك طريقة مختلفة فى التأريخ له.

تاريخ الأدب:

يشير الرافعى أن العرب يسيرون على منوال المستشرقين فى كتابة تاريخ الآداب العربية بقوله: «أول من ابتدع هذا التقسيم المستشرقون، قياسا على أوضاع آدابهم، فهم الذين تنبهوا لهذا الوضع فى العربية».

وبخصوص هذا النمط ، يقول جرجى زيدان: «ترددنا كثيرا فى الخطة التى نتخذها فى تقسيم هذا الكتاب، بين أن نقسمه حسب العلوم أو حسب العصور... ومعنى قسمته حسب العلوم أن نستوفى الكلام فى كل علم على حدة من نشأته إلى الآن،،، أما قسمته حسب العصور فيراد بها الكلام عن أحوال العلوم فى كل عصر على حدة، وهذا الذى اخترناه».

إننا هنا أمام استراتيجيتين مختلفتين فى كتابة تاريخ آداب العربية. ولكل مبررات اختياره لإحداهن دون الأخري، فى انسجام تام مع التصور العام الذى يحكم فهم التاريخ الأدبى وممارسته.

وواضح أننا هنا أمام تصورين متناقضين: حديث يسير فى ركب الدراسات التاريخية للأدب كما ظهرت فى أوروبا، وقديم يعتمد التصور العربى فى معالجة المباحث ـ الموضوعات فى ضوء المشترك بينها، ولنا فى «عيون الأخبار» لابن قتيبة، و«العقد الفريد» لابن عبد ربه نموذجان للمصنفات الجامعة التى تتناول موضوعات مستقلة وتحاول تقديمها من زاوية خاصة تبدأ بالقرآن الكريم، ثم الحديث النبوى فالشعر،،، لم يكشف لنا الرافعى عن هذه الخطة ومرجعيتها، ولعل ما ذهبنا إليه يبين الخلفية العربية التى تتحكم فى توجهه.

فى ضوء هذا التصور التقليدى يبرز الرافعى فى مقدمة كتابه الأبواب التى سيؤسس عليها ممارسته لتاريخ الآداب العربية بقوله: «ولقد جعلنا أبوابه اثنى عشر تنطوى على جملة المأثور، ويدور عليها التاريخ كما عدة الشهور، وهذه سياقتها بعد فصلين من التمهيد فى تاريخ الأدب، وأصل العرب ، فكان الباب الأول فى تاريخ اللغة ونشأتها وتفرعها، والثانى فى تاريخ الرواية والرواة، والثالث فى منزلة القرآن الكريم من اللغة وإعجازه وتاريخه، وفى البلاغة النبوية. أما الباب الرابع فكان حول تاريخ الخطابة والأمثال، والباب الخامس فى تاريخ الشعر العربى ومذاهبه والفنون المستحدثة منه.

تنوع الشعر العربى وفنونه:

يبدو لنا الاتجاه التقليدى واضحا فى معالجته للأنواع الشعرية العربية، حيث نجده لا يعتمد التصور الذى صار عليه زيدان، ويوثر الانطلاق من كتاب الحماسة وابن أبى الإصبع، مبينا أن أبا تمام قصر الشعر العربى الذى اختاره على عشرة أبواب، بينما ابن أبى الإصبع جعلها ثمانية عشرة. وسيرا على طريقة القدماء انتهى إلى تحديد اثنى عشر فنا أو نوعا شعريا هي: الهجاء، المديح، الحماسة، الرثاء، التشبيب، الوصف، السياسة، الحكمة، الهزل، شعر الحكاية، شعر الترقيص، الشعر العلمى .

سلك الرافعى طريقا آخر فى تاريخ آداب العرب، مختلفا عن طريقة زيدان، سواء على مستوى تحديد "الأدب" الذى جعله مقتصرا على الإبداع الشعرى والنثري، وليس بحسب العصور السياسية.

على سبيل التركيب:

نستخلص من هذا التحليل أننا أمام تصورين برزا تقريبا فى وقت واحد، (بدايات القرن العشرين) وإن كانت الريادة لجرجى زيدان. أحد هذين التصورين حديث ينطلق من أن تاريخ الأدب حديث، ويؤكد ضرورة ممارسته فى ضوء الكتابات الأجنبية التى سبقت العرب فى الدعوة إليه وإنجازه، وهو تصور زيدان. أما الثاني، فيؤكد بدوره أن هذا العلم سبق إليه المستشرقون، لكنه ينتقد طريقتهم، وسبيل من اتبع منهجهم، مفضلا سلوك طريق آخر مختلف.

يبرز الاختلاف بين الطريقتين الحديثة والتقليدية من خلال ما يمكن تسميته الجامعى ـ الأكاديمي، والجامعى ـ الأديب. إن ما يجمع بين التصورين نجده كامنا فى البعد الجامعي.

قد لا يكون كل من زيدان والرافعى متحمسين، بشكل مباشر، للتدريس بالجامعة أو الحصول على الجائزة التى رصدتها لهذا الغرض ، أخذا بعين الاعتبار أن زيدان كان قد انبرى لهذه المهمة قبل إعلان الجائزة، وأن الرافعى ليست له مؤهلات جامعية محفزة للانخراط فى المسابقة. ولعل المناخ الفكرى الذى أشاعته الجامعة المصرية وأدوار المستشرقين فى المجال الثقافى العام مع ظهور الطباعة وانتشارها (الجامعة ـ الصحافة...) جعله مهيأ للتفكير فى مثل هذه القضايا أما الاختلاف بين البعدين الجامعيين على أساس أن أحدهما أكاديمى والثانى أدبي، فيمكننا أن نجعله مؤسسا على الضرورة الوطنية ـ القومية إلى جانب الضرورة الجامعية، حيث نجد أنفسنا أمام تصورين، أحدهما ينافح عن الطريقة الأكاديمية التى ابتدعها المستشرقون فى الفضاء العربي، والآخر يعارضها على أساس الدفاع عن «الخصوصية» العربية. وسنحاول تجسيد هذا الاختلاف وذاك الائتلاف بين التصورين مما يلي:

الجامعى أم الأكاديمي:

يبدو لنا البعد الأكاديمى فى اتباع جرجى زيدان منهجا محددا يقوم على أساس التصنيف والترتيب والتدرج، فى تقديم العصور، ومعالجة كل جنس وأنواعه على حدة. كما يبرز ذلك أيضا فى اعتماد المصادر والمراجع واستقصائها بشكل شامل، سواء كانت مطبوعة أو مخطوطة، وفى تحديد خلفيته المرجعية باعتماده مصنفات فى تاريخ الأدب أو ما يتصل به سواء عند العرب أو الإفرنج. ويظهر لنا ذلك أيضا فى لغته الوصفية التى لا تعتمد التنميق والتزويق، ولا السجال الفكري، وإن لم تكن تخلو أحيانا من أحكام مطلقة وعامة.

هذا البعد الأكاديمى يتجلى أيضا فى فهم "آداب اللغة العربية" فهما شموليا، بحيث ينطلق من تلازم التاريخ السياسى والأدبى والفكري، والانتهاء إلى أنه لا يمكن فهم أحدهما دون اعتماد الآخر. كما أنه أيضا ينطلق من التشابه والاختلاف بين الأمم، وإن أعطى الأفضلية لليونان على من سواهم، فقد كان فى الوقت نفسه يعلى من شأن العرب فى جوانب كثيرة. . ومعنى ذلك أنه لا يؤكد إلا بطريقة نسبية على «الخصوصية» الثقافية.

الجامعى أم الأديب:

إن كل ما سجلناه بالنسبة إلى الجامعى ـ الأكاديمى نجد نقيضه مع الجامعى ـ الأديب. فالرافعى يتبنى مذهب "الضم لا التفريق". وليس الضم غير تتبع الموضوعات، بحيث لا يبدو الترابط بينها، وكأن لكل منها تاريخه الخاص. ويتأكد هذا المذهب الذى لا يتأسس على منهج محدد فى استهانته بالمصادر والمراجع وذكر الأمثلة والمختارات لأنه يعتبرها من باب الحشو الذى لا طائل وراءه. وكأنى بالرافعى هنا، وهو يتوجه إلى القارئ (الطالب الجامعي) يهمه بالدرجة الأولى تكوين "الأديب ـ المثقف" الذى يعول على ذاتيته وانطباعاته ومواقفه الشخصية الخاصة. وفى موقف الرافعى من المواد المعروضة نجده يصر على اعتماد "الرواية الصحيحة"، مع عدم الاعتراف بما سواها. وهذا الانتقاء، دليل على التحيز إلى نصوص على حساب أخريات. ونلمس ذلك أخيرا فى عنايته بلغته التى يعمل على تجميلها وإعطائها مسحة بلاغية، إلى جانب ممارسته السجال بقوة وعنف.

إذا كان زيدان يؤسس فهمه لتاريخ آداب اللغة العربية، ومن ثمة لمعنى "الآداب"، و"تاريخها"، و"أجناسها"، على الشمولية والكلية والترابط والقول بالتشابه والاختلاف، نجد الرافعى يشدد على الخصوصية والانفصال فى معانى كل تلك المفاهيم.

الاستمرار:

نشطت حركة التأليف فى تاريخ الأدب العربى بعد عملى زيدان والرافعي. ويبدو أن الأعمال اللاحقة، انحازت إلى المعنى الخاص للأدب، ولم يبق هناك استعمال لـ«الآداب» فى مختلف الكتب التى جاءت بعد هذين العملين. كما بدأت تظهر كتب تعنى بنوع معين، مثل الشعر (فى الشعر الجاهلى لطه حسين مثلا).

محاولات القطيعة:

منذ بدايات الخمسينيات من القرن الماضى بدأت تظهر محاولات للقطيعة مع التصور الذى تبلور فى بداياته، وخاصة على مستوى التأريخ حسب العصور، إذ تم التوجه إلى اعتماد خصوصية تطور الشعر أو الأدب بصفة عامة. ويمكن التمثيل لذلك بكتاب نجيب البهبيتي: تاريخ الشعر العربى حتى القرن الثالث الهجري، وكتابى شوقى ضيف: «الفن ومذاهبه فى الشعر العربي» ، و«الفن ومذاهبه فى النثر العربي» .

كان الانتقال من الآداب بمعناها الثقافى والموسوعى العام إلى الأدب يتحقق بالتدريج مع ظهور محاولات للتأريخ للفكر العربى فى جوانب خاصة، يتصل بعضها بالفلسفة أو الفكر الإسلامي.

غير أن تلك المحاولات التى جاءت للقطيعة وإحداث نظرة جديدة لتطور الأدب العربى لم تتعامل معها المؤسسة الجامعية والمنظومة التربوية لأنها ظلت تعتمد الدراسات التقليدية التى عملت على تطوير المشروع الزيداني.

خاتمة

بقيت محاولة تعريف الأدب وتحديد أجناسه والتأريخ له (رغم محاولات القطيعة) فى الثقافة العربية محدودة فيما تبلور مع مجهودات جرجى زيدان.

رغم التطور الذى عرفته الرواية العربية منذ أواسط القرن العشرين ظلت نظرية الأجناس تدور فى فلك التصورات القديمة. وكما طرح زيدان سؤال: هل عرف العرب التمثيل؟، طرح سؤال: هل عرف العرب القصة، والرواية؟ ورغم ما عرفه الشعر العربى من تطور منذ أواخر الأربعينيات ظل يتعامل معه على أنه غنائي.

لقد انخرط جرجى زيدان فى الريادة الثقافية والمعرفية بإنشاء مجلة الهلال ودار الهلال للطباعة، وبتأليف كتب عديدة فى الإبداع والتاريخ والثقافة ساهمت فى إقامة الجسور، عبر التفاعل، مع الثقافة العربية القديمة، ومع الثقافة الأجنبية الحديثة، ومع العصر. وكان من بين همومه المركزية توفير «المعلومات» والبحث فى مظانها، سواء كانت مخطوطة أو مطبوعة. فهل يمكننا الحديث الآن عن جرجى زيدان آخر .