الإثنين 1 يوليو 2024

فى ذكرى ميلاد مؤسس «دار الهلال»..حلمى النمنم يكتب: جرجي زيدان فى فلسطين

فن14-12-2020 | 18:33

يعد جورجي زيدان علامة بارزة في الصحافة المصرية، وهو أحد رواد الصحافة في الوطن العربي، ولد زيدان لأسرة مسيحية فقيرة، في عين عنب في جبل لبنان، عام 1861، كان له 5 اخوة، هم متري، واجيا، إلياس، يوسف وإبراهيم، عانت أسرته من الفقر وظروف صعبة، ربما مكنته لان يكون صامدا أمام عثرات الحياة في مستقبله، واستطاع أن يكون جورجي زيدان الذي لا يجهله أحد اليوم.


تنشر "الهلال اليوم" مقال حلمي النمنم


بقلم حلمي النمنم

فى صيف سنة 1913م قام جرجى زيدان برحلة إلى فلسطين ، وعاد لينشر فى «الهلال» مشاهداته وملاحظاته خلال تلك الرحلة ، بدأ النشر فى عدد أكتوبر من نفس السنة وتواصل بانتظام حتى آخر عدد أصدره من «الهلال» ، قبل رحيله المفاجئ ، تسعة أعداد متتالية من «الهلال» لتشكل هذه الرحلة بالنسبة له استثناء فى مجال النشر ، زار أوروبا من قبل أكثر من مرة وأصدر عنها كتابا ، لكنه لم ينشر بالهلال على هذا النحو ، الذى قام به فى رحلته إلى فلسطين ، وزار تركيا سنة 1908 م، بعد خلع السلطان عبد الحميد ، ولم يمنح تلك الرحلة نفس المساحة التى منحها لرحلته إلى فلسطين.

والواضح مما نشره أن دافعه إلى هذه الرحلة كان التعرف بشكل مباشر على حجم ما يجرى على أرض فلسطين من الهجرات اليهودية المتزايدة وما تقوم به الجمعيات الصهيونية هناك من شراء مكثف للأراضى وبناء المستعمرات ، لم يكن أمر هذه الهجرات سراً من الأسرار، كان الأمر معروفاً ومعلناً للجميع ، كان أهالى فلسطين يشكون للقاصى وللدانى ، فى 24 يونيه 1891م بعث أعيان القدس ببرقية إلى الصدر الأعظم يشكون مما يجرى ، ولم تحقق لهم الدولة ما طالبوا به من وقف هذه الهجرات أو الحد منها ، وراح أفراد من الأهالى يشكون للصحف ، زيدان نفسه تلقى رسالة، نشرها فى عدد مايو 1894م من الهلال ، حول نفس الأمر ، وثار نقاش موسع حول هذه القضية شارك فيه كتاب من وزن السيد محمد رشيد رضا والأمير شكيب أرسلان وغيرهما ، لم يقف الأمر عند الكتاب العرب، وجدنا المستشرق ، الأب هنرى لامنسى يقوم برحلة إلى فلسطين، وينشر فى مجلة «المشرق» عدد نوفمبر 1898م دراسة بعنوان «اليهود فى فلسطين ومستعمراتهم» رصد فيها عدد المستعمرات ، وحجم كل مستعمرة ومن يقف خلفها دعماً ومساندة ، ونوعية العاملين بها وفى بعض هذه المستعمرات كانوا يستعينون بعرب فلسطين فى بعض الأعمال.

بدأ زيدان تدوين رحلته بمقال مطول حول تاريخ فلسطين وآثارها من أقدم العصور ، حتى اللحظة الراهنة والتى كتب فيها ، وفى هذا الجزء قدم للقارئ وصفاً جغرافيا لفلسطين ، وقال عنها «هى من أقدم ممالك التمدن الشرقى القديم ، وقد تقلبت على أطوار تاريخية مختلفة واشتركت فى كثير من الأحوال السياسية التى انتابت مصر وفينيقية

كان زيدان يلاحظ ازدهار أحوال اليهود فى فلسطين وتراجع أحوال العرب «فحيثما رأيت بيتا جميلا مبنيا على الطراز الحديث ترجح لك أنه ليهودي، وإذا رأيت حديقة منظمة أو حقلا نظيفا فهو ليهودي، بخلاف ما اشتهر عن اليهود قديما فقد كانوا إلى أواسط القرن الماضى يقيمون فى أقذر الأحياء ،ويضرب المثل بقذارة حارة اليهود ، وتحدث فى هذا الأمر مع وجيه منهم التقاه فى يافا ، فسمع منه «ظل اليهود أدهارا مضطهدين معتزلين لا يؤذن لهم بالإقامة مع سائر الطوائف فى حى واحد وأحياؤهم مضرب الأمثال بالقذارة ، ونحن الآن معتزلون عن سوانا ولكن منازلنا نظيفة ومنازل جيراننا قذرة فلا نرضى أن يساكننا أحد منهم».

زار زيدان المدن الفلسطينية الكبرى والتقى اليهود وتحدث معهم، كما تحدث مع أبناء فلسطين، وفى كل ما كتب سوف نلاحظ أنه كان يقارن بين أحوال اليهود وأحوال العرب، فى مجالات الاقتصاد والاجتماع والتعليم. فى التعليم يكتب «التعليم على الإجمال ضعيف فى فلسطين مثله فى معظم المملكة العثمانية بل هو فى فلسطين أضعف مما فى سواها ، ويصدق ذلك على المدارس الوطنية الأميرية وغير الأميرية ».

ثم يخص القدس بالحديث لأنها عنده «أرقى سائر مدائن فلسطين فى التعليم ، وليس فيها من المدارس الكبرى الوطنية إلا المدرسة الدستورية لخليل أفندى سكاكينى ومدرسة روضة المدارس للشيخ محمد صالح الحسينى ومدرسة إعدادية للحكومة ، وكلها تشبه المدارس الابتدائية عندنا».

المقصود هنا هو أنها فى مستوى المدارس الابتدائية فى مصر ، ثم يقول : «قس على ذلك سائر مدارس فلسطين الوطنية وليس فى فلسطين مدرسة كلية وطنية ، طبعا هو لا يغفل وجود مدارس للأجانب يطلق عليها «مدارس كبرى لتعليم أهل تلك البلاد وتثقيف عقولهم».

ينتقل زيدان للحديث حول التعليم بين اليهود فى فلسطين ، يبدأ هكذا «لليهود شأن خاص فى فلسطين من حيث التعليم مثل شأنهم فى الاقتصاد وأسباب المعاش ، واليهود فى هذا العصر ينافسون الأمم الأخرى بأقوى عوامل المدنية وأهم أسباب النجاح . نعنى المال والعلم والاتحاد» .

ويتحدث عن قدرتهم المشهورة على جمع المال «وهم يبذلونه الآن فى سبيل مطامعهم الاقتصادية والاجتماعية فى فلسطين ويبذلونه أيضاً فى سبيل التعليم ».

ويتحدث بالتفصيل عن مدارس اليهود ويضع بعض الأرقام أمامنا «لليهود مدارس كثيرة فى فلسطين ليست لسواهم ، بعضها على النسق القديم تعلم التوراة والتلمود والبعض الآخر يعلم العلوم الحديثة» أى ما نطلق عليه ، نحن الآن بالمدارس والتعليم الدينى ثم التعليم المدني.

المدارس الدينية أو القديمة ، كما يطلق عليها ، تعد بالعشرات فى القدس وحدها، ويبلغ عدد تلاميذها ، نحو 4000 تلميذ، ولهم 200 معلم ، وجميعهم من اليهود ، أما خارج القدس فهناك حوالى عشرين مدرسة يتركز معظمها فى مدينة يافا وعدد تلاميذها نحو 1400 تلميذ ، ولهم 51 معلماً .

لم يتوقف زيدان مطولاً أمام المدارس الدينية ، والواضح أنه حتى لم يزرها ، اكتفى فقط بالمعلومات العامة عنها والإحصائيات التى ذكرها ، لكنه توقف بالتفصيل أمام المدارس العصرية ، واختار من بينها «المدرسة الكلية» فى «محلة تل أبيب فى يافا».

يقصد زيدان بالمدرسة الكلية ، الجامعة ، ويعرف قراء الهلال وقراء زيدان ، فضلا عن الدارسين لتاريخ الجامعة المصرية وقصة إنشائها أن زيدان كان أول من دعا إلى إقامتها ، فى مقال شهير له سنة 1900م ، وتأسست الجامعة بعد لأى وجهد جهيد سنة 1908 م، لكنه حين ذهب إلى محلة تل أبيب وجد مثل هذه المدرسة، لا يخفى الرجل حجم المفاجأة التى تعرض لها ، وهى تكشف مبلغ تقدم اليهود وفى فلسطين عن سائر أهلها من حيث التعليم.

يتحدث بالتفصيل عن هذه المدرسة «زرنا هذه الكلية فى محلة تل أبيب فى يافا ، فأدهشنا منها أمور لم نكن نتصورها ولا خطرت ببالنا من قبل ، أدهشنا أولاً لأنها مدرسة كلية كبرى ويسمونها لذلك «جمناز» تعلم العلوم العالمية والطبيعية والرياضية فضلا عن التاريخ والجغرافيا والآداب، وتعلم اللغات العبرانية والفرنساوية والتركية والعربية وفيها المعارض والمعامل للطبيعيات والكيمياء والتاريخ الطبيعى والتصوير .

مفاجأته الأخرى فى هذه المدرسة أنها تعمل على إحياء اللغة العبرية بعد أن أوشكت على أن تكون من اللغات الميتة ، هذه المدرسة تعمل على إحيائها ، ليس فقط كلغة لكتاب مقدس أو يمارسون بها طقسا دينيا ، بل إنها «تعلم الطبيعيات والكيمياء والرياضيات وسائر العلوم العالمية باللغة العبرانية فقط ..» هم بذلك أعادوا لغتهم إلى الحياة المعاصرة وجعلوها بقوله «أقرب إلى الحياة العلمية من اللغة العربية» إذ ليس فى العالم العربى اليوم مدرسة كلية عالية تعلم العلوم والفنون باللغة العربية فقط، إلا الجامعة المصرية وهى لا تزال فى أول إنشائها ، وهناك كليات فى بيروت ولبنان تعلم أكثر علومها بالعربية لكنها أقل درجة من هذه الكلية.

كان زيدان متابعا جيداً لعملية التعليم فى مصر وفى لبنان، وكان يعرف أن الجامعة المصرية لم تتأسس بها بعد كلية العلوم ، استعمل هو التعبير الرقيق والدقيق إنها لا تزال فى أول إنشائها.

زار مدرسة تل أبيب وتفقد كل شيء فيها والتقى رئيسها الذى أطلعه على كل شيء ، ومن يقف وراء تأسيسها ، فى البداية أنشأها «رجل إسرائيلى غيور على أمته» ثم تولتها الجمعية الصهيونية ، لتنفق عليها ، ودار بين زيدان ورئيس المدرسة الحوار التالي:

سأله زيدان حول طريقة التعليم وهل هى خاصة باليهود فقط..؟

أجاب الرئيس بالحرف : إنها عمومية ، لا ترد طالبا مهما يكن دينه أو جنسه ، لكنها تشترط عليه أن يكون متمكنا من اللغة العبرانية وآدابها لتعلم العلوم بها.

رد عليه زيدان : إن هذا الشرط أدنى إلى مصلحتكم من الرفض ، لأن من يدخل مدرستكم على هذا الشرط من غير اليهود ، لا يلبث أن يكون قريبا منكم ، لأن من يتعلم آداب قوم يحسن الظن بهم.

فى نهاية حديثه عن هذه المدرسة الكلية وعن التعليم يقول زيدان «كلية تل أبيب مثال لحياة الأمة اليهودية ونهضتها العلمية وهو درس نوجه إليه أنظار طلاب الإصلاح من العرب وغيرهم ، أن الأمة لا تحيا إلا بحياة لغتها ولا تحيا اللغة إلا بكثرة ما فيها من المؤلفات العلمية الراقية ، وأكبر الوسائل المؤدية إلى ذلك أن تكون هى لغة التعليم فى المدارس الكبري».

لم يكن جرجى زيدان ، أول من كتب، حول هذه القضية ، بل سبقه، كما ذكرت فى بداية هذه الورقة

رشيد رضا وشكيب أرسلان وشبلى شميل؛ لكن زيدان تميز عنهم، هم كانوا يتناولون ظاهرة الهجرة اليهودية المتزايدة إلى فلسطين، حتى أن شكيب أرسلان اعتبرها ظاهرة إيجابية لصالح الدولة العلية، إذ تعنى أنها دولة متسامحة، تفتح أبوابها للجميع، ويجد المظلوم والمضطهد الأمن فى حماها، حين كتب هؤلاء كانت الظاهرة لاتزال فى بداياتها، وكان الأمر مجرد هجرات يهود مضطهدين وسكان أصلاء قلقين.. لكن زيدان برحلته وضع يده على أن ما يتم فى فلسطين أكبر من ذلك، أنه يضعون أسس دولة متكاملة، لاحظ هو أنهم لا يتعاملون مع بريد فلسطين، ولكن لديهم شركة خاصة تقوم بذلك، لاحظ أيضاً أن اليهود لا يتعاملون مع القضاء الفلسطينى ولا يذهبون إلى المحاكم ولا إلى البوليس، بل لديهم قضاؤهم الخاص، وكل مواطن يهودى ملزم أن يلجأ إليه بالشكوى أو التقاضي؛ ولديهم أمنهم وحراستهم الخاصة، وقس على ذلك فى سائر حياتهم.

بعد التجوال فى أنحاء فلسطين ومتابعة ما يجرى هناك انتهى إلى القول «إن تغلب اليهود فى فلسطين ظاهر ظهوراً واضحاً، فهم أصحاب الثروة ولهم أخصب المغارس وأنظف الشوارع وأفخم المنازل» ويضيف زيدان قائلاً: «والوطنيون يرون ذلك ويشتكون والحكومة لا تحرك ساكنا لاشتغالها بنفسها أو بحروبها عن النظر فى هذه الشئون» ويضع زيدان يده على نقطة مهمة تتعلق بموقف الحكومة، وهى هنا الدولة العلية العثمانية «فلو أن الحكومة أرادت أن تتصدى لتغلغل اليهود فى فلسطين، لما أمكنها ذلك».. لماذا؟

يجيب هو «لأن اليهود يبتاعون الأراضين بطرق قانونية شرعية لا جناح عليهم فيها حسب الظاهر، والحكومة فى هذه الأيام لا تستطيع مصادرتهم أو منعهم من استثمار الأرض بأموالهم وعرق جبينهم. نعم إن المرابين من اليهود يغتنمون ضعف الفلاح المدين لهم ويقبضون عقاره إذا قصر عن الدفع، وهكذا يفعل سائر المرابين بمصر وغيرها من اليهود وغيرهم».

هنا اقترب زيدان حثيثا من ملف يبدو شائكاً أمامنا وهو موقف ودور الدولة العثمانية مما جرى فى فلسطين، خاصة أن فلسطين كانت تحت الحكم العثمانى منذ سنة 1517م ، حين أسقط سليم الأول الدولة المملوكية، وظهرت نغمة فى السنوات الأخيرة، يزعم أصحابها أن السلطان عبدالحميد عزلى من منصبه لأنه تصدى للمشروع الصهيونى فى فلسطين، والواقع أن ذلك القول ينطوى على مبالغة كبيرة، ما نعرفه أن عبدالحميد رفض أن يقيم اليهود فى القدس وحول المسجد الأقصى تحديدا، لكن فلسطين كلها كانت ساحة مفتوحة أمامهم فى عهده، صحيح أن المشروع الصهيونى بدأ قبل فترة حكم عبدالحميد وصحيح أيضاً أنه استمر بعده وسار بوتيرة أسرع، ولكن كان بإمكان السلطان عبدالحميد أن يفعل الكثير لو أراد، ولا ننسى أن ركائز الدولة العبرية وضعت فى فلسطين على عهده.

وبرغم كل ما رآه ورصده، كان زيدان يرى أن إنقاذ فلسطين مازال بالإمكان، ورفض الاستغراق فى الشكوى مما يحدث هناك، رغم أن الشكوى عن حق، ولكن المواجهة لا تكون بالشكوى ولا بالأنين والبكائيات، بل بالعمل الجاد، أو كما يسميه هو «النسج على منوال أولئك المستعمرين من حيث تعمير الأرض بالطرق العلمية وإنقاذ الفلاح من المرابى بالطرق المعقولة بإنشاء النقابات الزراعية أو نحو ذلك؛ هذا الدور هو دور الحكومة والدولة، لكن كان لديه شك فى أن تتحرك الدولة، كان هو يتابع جيدا ما يدور فى العاصمة العثمانية، ويعرف شواغل حكامها وهمومهم.. وفى العموم لم يكن يجرى فى فلسطين ضمن أولوياتهم، كما أنه لم يكن من ضمن أولويات الدولة من قبل، سبق لبريطانيا أن احتلت مصر سنة 1882 م ولم تتحرك الدولة العثمانية، بل فى لحظة حرب الجيش المصرى مع الإنجليز أصدر السلطان عبدالحميد فرمانا بعصيان عرابى باشا قائد الجيش المصري، مما أدى إلى انفضاض الكثيرين عنه وانقلاب آخرين عليه، مما عجل بهزيمته، وقبل مصر احتلت فرنسا الجزائر فى سنة 1830م ، ولم تهتم الدولة كثيراً، فهل تهتم بالمستعمرات الصهيونية فى فلسطين، خاصة وأن الضعف كان تغلغل فى أوصالها، يقول زيدان «لو أرادت الحكومة النظر فى هذا الأمر لكانت أقدر من سواها على ملاقاته، ولكنها مشغولة مضطربة».

هو لم يكن يعول على الحكومة فقط، وإن شئنا الدقة لا يعول عليها، رغم أنه دورها، كان ينظر إلى «أغنياء الوطنيين والطبقة الراقية منهم»، هو أيضاً لا يتوقع منهم الكثير، إذ يرى «أكثرهم منصرفون إلى المسائل السياسية والتنازع على الوظائف الاقتصادية بملاقاة صيرورة بلادهم ملكا لسواهم لكان ذلك أقرب إلى الوطنية وأدى إلى الاستقلال الحقيقي».

لم يكن زيدان غافلا عن سؤال المستقبل ولم يكن بعيدا عن التوقعات السائدة حول مستقبل «سوريا فلسطين» باعتبارها وحدة سياسية واحدة، واستعرض كل الآراد فى ذلك، مثلا هل تظل فلسطين فى حوزة الدولة العلية أم تخضع للاحتلال الفرنسى أو الإنجليزي، ولم يكن ذلك الجانب يعنيه، كان يعنيه من يمتلك الأرض ويزرعها ومن يبنى البيوت ويمتلك الدور، يقول فى ذلك «مما شك فيه أن مستقبل تلك البلاد أن الحال إذا ظلت على ذلك واليهود عاملون على ابتياع الأراضين واستعمارها وأهلها غافلون أو متجاهلون وحكومتها ساكتة أو مشغولة، فلن يمضى زمن طويل حتى تصير كلها لليهود، ولا عبرة فيمن يتولى شئونها السياسية».

مضى جرجى زيدان إلى ربه منتصف العام 1914م، وكان بمعيار أيامنا شابا، فى ذروة عطائه الأدبى والعلمي، وبعد وفاته اندلعت الحرب العالمية الأولى وفى أثنائها، احتلت بريطانيا فلسطين وفرضت الانتداب عليها وصدر وعد بلفور - نوفمبر 1917م- الذى تعهدت فيه بريطانيا بإقامة وطن قومى لليهود على أرض فلسطين، وبينما كانت بريطانيا تحكم فلسطين سياسيا كان اليهود يتوسعون فى شراء الأراضى وإحكام السيطرة على البلدات والمدن الفلسطينية، وتحقق ما تنبأ به زيدان، وإن شئنا الدقة حدث ما حذر منه، سقطت الحكومة العثمانية التى لم تفعل شيئاً لردع الصهاينة وجاءت الحكومة البريطانية التى ساعدتهم كثيراً أو مكنتهم من مضاعفة أعداد المهاجرين ومضاعفة المبانى والإنشاءات، وكما قال أحد الزعماء الصهاينة : إنهم كانوا جاهزين فى العام 1942 م لإعلان قيام الدولة العبرية على أرض فلسطين، لكن ظروف الحرب العالمية الثانية أجلت ذلك الإعلان إلى سنة 1948.