الجمعة 17 مايو 2024

جبرتي الصحافة!

أخرى23-12-2020 | 11:41

سليمان عبدالعظيم

بعد خمسة أشهر فقط من هزيمة 1967 وافقت كوكب الشرق "أم كلثوم" أن تغني في باريس، فاتصل بها " برونو كاكوتركس" مدير أكبر وأهم مسرح في العاصمة الفرنسية ليتفق معها على المقابل المادي الذي ستحصل عليه. فسألته : كم أجر "أديث بياف" ؟ (أكبر مطربة فرنسية في ذلك التوقيت، وواحدة من أهم علامات الغناء في العالم)، فأجابها: "تحصل على عشرة ملايين جنيه في الحفلة" . فقالت له:" إذن أحصل أنا على 20 مليوناً في الحفلة، وهأغني اغنيتين فقط.. وربما ثلاثًا"!  



فذهل الرجل من هول المبلغ، وذهل أكثر حين علم أنها ستغني أغنيتين فقط، فهو لم يسمع عن أغنية زادت مدتها على 10 دقائق، فظن أن الحفل سينتهي في 20 دقيقة!  



وهنا تدخل الأديب" محمد سلماوي" الذي لعب دور المترجم بينه وبين سيدة الغناء العربي، وشرح له أن مدة الأغنية الواحدة تصل إلى ساعة ونصف الساعة، فهدأ الرجل ، ووافق على شروط كوكب الشرق. 



لكنه ظل قلقاً أن لا يأتي الحفل بالعائد المنتظر منه، خصوصأ أنه لم يكن يعرف عن أم كلثوم سوى أنها مطربة كبيرة في بلدها، واقترب موعد الحفل، ونصف التذاكر مازال متبقيا ، لم يشتره أحد. 


 


وفجأة تغير كل شئ بمجرد أن وطئت قدم أم كلثوم مطار شارل ديجول، وقالت كلمتين فقط : "أيوه هأغني". 



هنا.. تأكد الجميع أن سيدة الغناء ستغني لأول مرة فى أوروبا بعد النكسة، فنفذت التذاكر قبل أن تصل أم كلثوم إلى غرفتها في الفندق، وجاء الجمهور من كل حدب وصوب، والطائرات حملت الجماهير من كل أنحاء العالم، ليسمعوا أم كلثوم فى عاصمة النور. 


 


وأجرت أم كلثوم بروفاتها الأولى داخل مسرح الأوليمبيا الشهير، وسمعها مدير المسرح للمرة الأولى، ولم يصدق ما سمع، فذهب إليها، وطبع قبلة على يدها! 



وجاء يوم الحفل، واحتشد الجمهور داخل المسرح، وأبدع "جلال معوض" فى تقديمها كعادته، لكن الحماس سيطر على صوته وكلماته من فرط الأجواء الملتهبة داخل مسرح أوليمبيا فقال :" اليوم أم كلثوم تغني فى باريس.. وقريباً تغنى فى القدس المحتلة". 

 


وصفقت الجماهير ، واشتعل المسرح، وانزعج مدير المسرح ومنظم الحفل، وذهب إلى محمد سلماوى، واصطحبه إلى غرفة أم كلثوم ليخبرها بانزعاجه مما فعله جلال معوض وأنه ليس فى مناسبة سياسية ليتحدث عن القدس!  




وقبل أن يبدأ سلماوى فى الترجمة فهمت أم كلثوم ما يريده الرجل وردت عليه محتدة :" لا يا أستاذ..إحنا فى مناسبة وطنية.. وأنا جاية أغنى هنا عشان بلدي.. ودخل الحفلة دى سيذهب للمجهود الحربي..وعموما عشان أرفع عنك الحرج أنا متنازله عن اتفاقنا.. وممكن ماغنيش النهارده لو هنزعجك.. ولو صممت على رأيك". 



فصمت الرجل ولم ينطق، واستدارت كوكب الشرق موجهة كلامها إلى فريق العازفين المصاحب لها:" لموا الأﻻت يا ولاد..مش هأغنى النهارده!" 



وكأن سهماً أصاب الرجل فى قلبه، لم ينطق إلا بكلمة واحدة، وانصرف بعدها.. فقد قال لها:"موافق". 

 


وخرجت سيدة الغناء، و صعدت إلى المسرح، وغنت كما لم تغن من قبل، وقدم  جلال معوض الوصلة الثانية بنفس الحماس، وذات الطريقة، كأن مصر حققت انتصاراً فنياً وثقافياً على عدوان 67 فى قلب باريس. 



وطال الحفل حتى الثانية من صباح اليوم التالي، وكانت هذه أول مرة تتأخر فيها حفلة فى باريس إلى هذا الموعد!  

 


كل الكلام اللي فوق ليس كلامي.. ده بالحرف نص ما كتبه الكاتب الصحفي الواعد محمد توفيق في موسوعته الثرية "الملك والكتابة .. قصة الصحافة والسلطة في مصر" .. الجزء الثالث من 1950 الى 1999 . 



ولست أبالغ حين أقول إن محمد توفيق بذل جهداً كبيراً يذكرنا بسيد المؤرخين عبدالرحمن الجبرتي ، حيث عكف توفيق على تأريخ العلاقة بين السلطة والصحافة منذ نشأة الطباعة.. فكان الجزء الأول:" الملك والكتابة" ..جورنال الباشا(من1798 إلى 1899).. ثم كان الجزء الثانى:"الملك والكتابة .. حب وحرب وحبر" ( من 1900 إلى 1949).. وصولا إلى الجزء الثالث.


 

والأمر المؤكد أن هذا الباحث المدقق يعكف الآن علي مواصلة دراسته العلمية والإحصائية تلك غير المسبوقة بحيث تكتمل حتى 2020 هذه السلسلة القيمة التي فاجأتنا بها دار ريشة للنشر والتوزيع .. الدار الشابة التي أسسها صديقي الصدوق المثقف الشاب حسين عثمان منذ أقل من عام.. 


 


وللحق.. فاننى احترت وأنا اقرأ الجزء الثالث .. وتوقفت  طويلاً عند عام 1967.. ورأيت أن حفلة غناء أم كلثوم على مسرح أوليمبيا كان أكثر ما ميز أحداث هذا العام الكئيب..  



إن سلسلة "الملك والكتابة"  استحق مؤلفها محمد توفيق أن يكتب المبدع واسع الانتشار عمر طاهر بالحرف الواحد :" ليس في الأمر شبهة مجاملة حينما أقول أن محمد توفيق يمكن اعتباره جبرتى مهنة الصحافة فى جيلها الأحدث"!