الأحد 24 نوفمبر 2024

فن

د. يمنى طريف الخولي لـ"الهلال اليوم": هل من المفترض أن نتحرر من الموروث لكي نبحث عن موروث آخر؟

  • 26-12-2020 | 18:05

طباعة

تحمل الدكتورة يمنى طريف الخولي أستاذ فلسفة العلوم بقسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة، تاريخا طويلا في نشر الثقافة العلمية وأصول التفكير العلمي والعقلاني، وذلك انطلاقا من أطروحتيها للماجستير والدكتوراة، والتي جاءت حول موضوع فلسفة العلوم عند كارل بوبر: نظرية في تمييز المعرفة العلمية، وموضوع مبدأ اللاحتمية في العلم المعاصر ومشكلة الحرية، ومرورا بكتبها وترجماتها وبحوثها المنشورة في المجلات المتخصصة، مثل "العلم والاغتراب والحرية: مقال في فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية"، و"فلسفة كارل بوبر: منهج العلم، منطق العلم"، و"مشكلة العلوم الإنسانية" و"الحرية الإنسانية والعلم: مشكلة فلسفية، "الوجودية الدينية: دراسة في فلسفة باول تيليش"، و"فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول الحصاد الآفاق المستقبلية"، و"الطبيعيات في علم الكلام: من الماضي إلى الحاضر".

ترى د.الخولي أن الحضارة العربية مثقلة بكثير من المشاكل وكثير من الاحباطات، ومما يؤسف له أنه حتى يوم الناس هذا لم نستطع حل مشكلة الأصالة والمعاصرة التي هي المشكلة الأم، وتقول "ألاحظ أن الفكر العربي المعاصر بشكل عام مازال غارقا في نماذج التنوير والعقلانية والحداثة التي كانت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مازال معظم مفكرينا وفلاسفتنا يرون الحضارة الغربية مثلا أعلى، ونموذج علينا أن نحذو حذوه، في حين أن عصر المركزية الغربية انتهى منذ أواسط القرن العشرين، وفي العقود الأخيرة من القرن العشرين وما تلاها في القرن الحالي بتنا في عصر ما يسمى بالتعددية الثقافية.

نحن لا نريد أن نصدق أن عصر المركزية الغربية، العقلانية والحداثة والتنوير والموضوعية واليقين وغيره انتهى، حتى التجربة اليابانية نفسها بكل روعتها وتألقها أصبحت موضة قديمة إلى حد ما، نحن الآن في عصر التعددية الثقافية تعددية المراكز الحضارية التي تقدم نماذج نهضوية مبهرة في الصين واليابان وأندونيسيا وماليزيا والهند والبرازيل، وللأسف معظم مفكرينا غير قادرين على التحرر من هذا العصر الذي ولى ومازالوا يتحدثون عن تنويرية القرن الـ 18 وعقلانية القرن الـ 19 الواحدية المادية والعلمانية.

 إنهم، أقصد مفكرينا، يبحثون عن حل جاهز، استيراد النموذج الأوروبي، والآن في عصر التعددية الثقافية وانهيار المركزية الغربية لم يعد هذا الحل متاحا، وأصبحت كل ثقافة لابد أن مسئولية تأكيد ذاتها وشخصيتها الحضارية.

وتشير د.الخولي إلى أن التأهيل هدف لابد أن نسعى إلى بلوغه، "لابد أن نعمل ونعيد الطرح بمناهج جديدة ومقاربات جديدة، إذا كنا غير مؤهلين أصبح فرضا علينا أن نعمل كي نصبح مؤهلين، إنني يؤسفني أنني أشعر أننا متخلفين في تخلفنا، عندما أجد أساتذتنا الكبار مثل الدكتور مراد وهبة، مازالوا يبحثون عن النموذج الغربي: العقلانية، الواحدية المادية، اليقين العلمي، الموضوعية، الضرورة، حتى أصبح الأمر فرض عين علينا في مصر أن نرتل ذلك ليلا ونهارا، وكأن النموذج الغربي نص قدسي، هل نتحرر من موروث عن طريق تنويرية "إيمانويل كانت"؟ أليس "كانت" نفسه موروثا؟ "كانت" من العصر الثامن عشر عصر الفيزياء الكلاسيكية وعصر اليقين العلمي والرياضيات التركيبية، كلها مسائل تجاوزها الدهر، نحن متخلفين في تخلفنا، هل من المفترض أن نتحرر من الموروث لكي نبحث عن موروث آخر، إذا كان هذا الموروث الآن ماضوي؟ للخروج من ذلك لابد من الطرح في إطار التعددية الثقافية وكان هذا منطلق دفاعي المستميت عن قضية اللغة العربية وعروبة الظاهرة العلمية، وتوطين الظاهرة العلمية في العربية الإسلامية.

 

هناك ثقافة عربية إسلامية، هناك دائرة حضارية مكتملة تضم 57 دولة تسمها الأمم المتحدة واليونيسكو بالدائرة الإسلامية، لها منظومة قيمية ورؤية للعالم وطقوس حضارية تصنع لها شخصيتها الحضارية، فعملية استيراد النموذج الغربي الذي أثبت نجاحه منذ قرنين أو ثلاثة لم تعد ممكنة، لابد أن نعمل في عصر التعددية الثقافية على إحياء وبعث وتجديد وتأصيل وتطوير ودفع ثقافتنا العربية الإسلامية لتغدو عنصرا مضيفا للتعددية الثقافية، وشخصية حضارية تضاف إلى الشخصيات الحضارية المتعددة التي تبرز في العصر الحالي، وليس مجرد استنساخ للغرب على منوال عصر المركزية الغربية الذي ولى بانتهاء عصر الاستعمار".

وتضيف "إن خلق ذلك لن يكون بالاعتماد على مفكرين عرب، كل مفكر عربي أدلى بدلوه وأعطى أفكاره بعضها جيد وبعضها متوسط، كل أصاب وأخطأ، المطلوب الآن هو التحرر من عصر الحداثة لأنه انتهى ونعيش عصر ما بعد الحداثة، ما بعد الاستعمارية، ما بعد العلمانية، ما بعد المركزية الغربية، الأمر لا يكون بالارتكان إلى هذا المفكر أو ذلك، ولكن عن طريق تفعيل المناهج البحثية التي طرحت في الفكر ما بعد الحداثي، فهذا الفكر في العقود الأخيرة من القرن العشرين طرح مناهج فكرية لمقاربة الظاهرة الإنسانية يمكن أن تفيد، وأخص بالذكر ثلاثة مناهج: الأول منهج التأويل "الهرمنيوطيقا" إعادة قراءة النص في ضوء معطيات جديدة ليكتسب دلالات جديدة، هذا كفيل ببعث الحياة والمعاصرة في نصوصنا.

الثاني المنهج الأركيولوجي الحفري المعرفي الذي يقف على شروط وظروف وأوضاع تخلق الظاهرة أو الواقعة أو النص، نفهم شروط تخلقها وظروف كينونتها ذلك سوف يعطينا طرحا جديدا. أما المنهج الثالث، التفكيكي تفكيك النص والظاهرة أنت نفسك الآن تبحث عن بنية ثابتة، عن مفكر ثابت تركن إليه، لا، إننا نريد القراءة التفكيكية التي تلغي السلطة والمرجعية التي كانت ظاهرة وتبحث عن سلطات ومرجعيات كامنة بين السطور، المختصر المفيد أن عصر ما بعد الحداثة الذي نحياه الآن يطرح مناهج جديدة لمقاربة الإشكاليات الثقافية والإنسانية والحضارية، وهذه المناهج يمكن أن تسفر عن أطروحات تساعد في تحقيق التنمية المستدامة في الفكر وفي الواقع، نحتاج لبحوث جديدة وأجيال شابة وليس للارتكان إلى مفكر أو سلطة أو مرجعية بعينها، لأن مفهوم ما بعد الحداثة يرفض مفهوم السلطوية التقليدي".

 

وتلفت د.الخولي إلى أن جل الأبحاث وأطروحات الماجستير والدكتوراه الآن في أقسام الفلسفة في الجامعات والأكاديميات هي عبارة عن قراءات للماضي وفي نفس الوقت هي عبارة عن قص ولص من كتابات الغربية، وتكشف أن "الانتاج الفكري لباحثي الفلسفة إما ترديد لما هو وارد في النموذج الغربي المعاصر، إما هو ترديد لما هو وارد في النموذج الإسلامي الموروث، فمع جهود مفكرينا وجهودنا لم نستطع أن نحل إشكالية الأصالة والمعاصرة، نحن نواجه موروثا غربيا وآخر عربيا إسلاميا ماضويا، فضلا عن ذلك التعليم عندنا يعاني مشكلات عميقة، التعليم يحتاج إلى تحديث، ونحن نحاول قدر الإمكان، مثلا في كلية الآداب جامعة القاهرة في تجديد المقررات أضفنا مادة -أنا لم أدرسها حين كنت طالبة- الفكر الإنساني القديم، عندما كنت أدرس الفلسفة علمونا أن الفلسفة بدأت مع الإغريق، وأن الفلسفة الإغريقية أول مراحل الفلسفة، لكن الآن ندرك أن الحضارة الإغريقية كلها هي محصلة استيعاب وتجاوز لحضارات الشرق القديم المصرية والفينيقية والبابلية والآشورية والتي كانت اليونان بفضل موقعها الجغرافي الأكثر استفادة منها، لماذا بدأت الحضارة الغربية بالإغريق في اليونان، ولماذا لم تبدأ في فرنسا أو انجلترا أو في الشمال؟ لأن الإغريق اليونانيين هم الأوروبيون القادرون على الاتصال بمراكز هذه الحضارات الشرقية، وبالتالي استوعبوها وقدموا قفزة حضارية مثلت بداية الحضارة الغربية الحديثة. وفي عصر المركزية الغربية كانوا يقولون لنا أن اليونانيون بداية الحضارة الغربية الحديثة بل بداية الحضارة الإنسانية كلها، الفلسفة بدأت مع الإغريق، العلم بدأ مع الإغريق، الرياضيات بدأت مع فيثاغورس، المسرح بدأ مع اسخيلوس، الديمقراطية بدأت مع ابيدوس، واستمر ذلك في العصر الإستعماري أي حتى النصف الثاني من القرن العشرين، كان هناك نوع من التزييف الفكري، الإغريق أول قوم في أوروبا يخرجون من البدائية والهمجية ويصنعون مدنية وثقافة، لا، الآن في عصر التعددية الثقافية وما بعد الحداثة أدركنا أن هناك رؤية حضارية أوسع وأن الفلسفة الإغريقية نفسها محصلة للحضارات الشرقية القديمة، هذه الحضارات ندرسها الآن للطلاب، من قبل لم تكن تدرس، الآن أدخلنا في مقررات كلية الآداب جامعة القاهرة مادة الفلسفة المعاصرة في آسيا وأفريقيا. بالطبع هناك محاولات للتجديد وكذلك هناك عيوب، والظاهرة الإنسانية لا تصبح صحيحة مائة في المائة ولا خطأ مائة في المائة".

تقول د.الخولي أن مشروعها العلمي يتلخص في توطين الظاهرة العلمية في الحضارة العربية الإسلامية، وتضيف "تخصصي فلسفة العلوم ومناهج البحث العلمي، وهذا فرع من فروع الفلسفة الغربية لم يظهر إلا مع بداية القرن العشرين في أعقاب ثورة الفيزياء الكبرى، ثورة النسبية والكوانتم، التي قلبت مناهج ومعايير وآليات التفكير العلمي مائة وثمانين درجة، وبذلت العمر والجهد في دراسة واستيعاب الظاهرة العلمية وشروطها وعوامل نجاحها وتألقها، لكني لم أقتصر على ما قاله كارل بوبر وبرتراند راسل وغيرهما من فلاسفة العلم الغربيين، فبعد ما يقرب من خمسة عشر كتابا في استيعاب الدرس الغربي ومعرفة شروط وآليات الظاهرة العلمية، سخرت الدرس الغربي في توطين الظاهرة العلمية في الثقافة العربية، حيث بدأت بالبحث والتنقيب في عوامل وآليات ومعاملات ثقافتنا لأجد أواصر قربى بينها وبين الظاهرة العلمية الغربية، وذلك بالاستعانة بتاريخ العلم والعلماء العرب وميراث الحضارة الإسلامية الهائل في ميدان المنهجية، وهنا أصدرت العديد من الكتب لكن أهمها كتابي الأخير "نحو منهجية علمية إسلامية"، والذي أثبت فيه أن بنية الثقافة العربية الإسلامية ليست غريبة عن العلم ومهيئة تماما لاستيعاب مستجداته الآنية والمستقبلية.

وتوضح د.الخولي أننا نحن العرب نظلم تراثنا بشكل غريب، هل التراث هو الحجاب وعذاب القبر واللحية والنقاب وهذا التخلف، فماذا عن تراث العلوم الرياضية العربية؟ هل تعلم بأن علوم الرياضيات احتلت أوسع مساحة على صدر المسرح الفكري في الحضارة العربية؟ هل تعلم أن انجاز العقل الإسلامي في التاريخ هو في ميدان الرياضيات؟ هل يعلم أحد هذا الكلام؟ يتمسكون بالكلام السخيف لأن العقل تراجع، لذلك مشروعي وبحثي يستند كثيرا على رصيد هائل صنعه أمثال العالم الجليل الدكتور رشدي راشد أحد أبرز المتخصصين في رياضيات العصور الوسطى والذي يثبت كيف كانت العقلية العربية الإسلامية متقدمة في العلوم العلمية، مثلا أحد أعظم إنجازات رشدي راشد والتي عملت عليها، أن كل الناس يعرفون أن العرب اخترعوا علم الجبر، الذي مازال يحتفظ باسمه العربي في معظم لغات العالم حتى الآن، لكن لا يعلمون من أين استلم الخوارزمي علم الجبر في كتابه "الجبر والمقابلة" حيث لم يفصح عن مصادره، من أين استلهم فكرة الجبر؟ لم يكن هناك إجابة، لكن البحوث الطويلة العميقة والرصينة لراشد، أثبتت أن الخوارزمي استهلم مناهج علم الجبر من مناهج أصول الفقه، منهجية أصول الفقه وأساليب الفقهاء في الاستدلال والترميز والنمذجة هي التي ألهمت الخوارزمي علم الجبر.

 إن علم أصول الفقه -وليس الفقه الذي هو الأحكام الشرعية- هو كيفية استنباط هذه الأحكام الشرعية، فأساليب الاستدلال هو علم منهجي بالأصالة.

وتؤكد إن العرب اهتموا بالرياضيات وبالمناهج، "هل التفت أحد إلى أن مصطلح "المنهج" من أكثر المصطلحات الواردة في عناوين المصنفات الكبرى للكتب التراثية كما لم يتكرر أي مصطلح آخر، لأن الروح المنهجية كانت هم الحضارة العربية الإسلامية، وأعظم منهجية شهدها التاريخ هي منهجية تقنين قواعد اللغة العربية، القرآن الكريم مركز الحضارة تخلقت حوله دوائر معرفية اتسعت حتى شملت العلوم الرياضية والتجريبية، لكن أول دائرة معرفية تخلقت حول المركز القرآني كانت علوم اللغة حيث صيغت لها آليات ونمذجة كميزان الذهب في دقتها، قواعد الاشتقاق والصياغة والنحو والصرف في اللغة العربية لا مثيل لها، ومن علوم اللغة، تخلقت دائرة علوم النص العلوم النقلية كالقرآن والحديث والشريعة، ثم تخلقت دائرة العلوم الرياضية والتجريبية، نحن نظلم التراث.

 إن الذين يهاجمون التراث ويجدونه آية التخلف والجهل ومنبع للإرهاب والتطرف هم أعداء لما جهلوا ولا يعرفون حق المعرفة هذا التراث الذي خلقته الحضارة العربية الإسلامية وشغل العقل العلمي العالمي من القرن الثامن حتى القرن الرابع عشر، العلوم العربية الرياضية والتجريبية والإنسانية هي المقدمة الشرطية والتاريخية والجغرافية التي نتج عنها العلم الحديث في أوروبا، إن شفرة العلم الحديث في أوروبا لا تفهم دون المرحلة الأسبق وهي مرحلة تاريخ العلوم عند العرب. مثلا إن التفكير العلمي كان يسير وراء أرسطو ويأخذ مفهوم المكان كمسطح محدود قاصر، فجاء ابن الهيثم أول عالم في التاريخ ليدخل في مفهوم المكان فكرة الأبعاد المتخيلة ويقول أن المكان ليس هو السطح بأبعاد متخيلة، لذلك ابن الهيثم خلق مفهوم المكان والمكان المطلق في الفيزياء الكلاسيكية، العرب.

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة