في جملة واحدة:
"كان حادث فتاة العتبة حادثا عرضيا لم يتم التخطيط لارتكابه من قبل أي
أحد".. كما أن الزحام ساعد على حدوث فوضى عارمة، لكنها تركزت في مكان الحادث،
فأدت إلى أنه لم يكن هناك أي فرصة للتعرف على الجناة الحقيقيين الذين استقرت
التحقيقات على أن عددهم أربعة.. ولكن من هم هؤلاء الأربعة؟!.
أيامئذ لم تكن
هناك بعد قد ظهرت تكنولوجيا المراقبة بالكاميرات ولم يستطع شهود الحادث تحديد
أشخاص بعينهم لتوجيه الاتهام إليهم.
أما على جانب
الفتاة المجنى عليها، فقد ظهر في التحقيقات لغز شديد الغموض، إذ أن
"الجيبة" التي مزقها الجناة في أثناء التحرش بها، كانت قد اختفت تماما،
غير أنه سرعان ما تم حل هذا اللغز، لكن بلغز أكثر غموضا وهو أن الجيبة كانت أم
المجنى عليها قد التقطتها من تحتها وأخفتها وأنكرت في البداية معرفة أي شيء عنها.
في ذلك الحين لم
أكن كمحرر حوادث، مكلفا بمتابعة تحقيقات النيابة في هذه الجريمة، إذ كانت من
اختصاص الزميل الأستاذ محمود النوبي "الكاتب الصحفي المتخصص في الشئون
الدبلوماسية الآن" لكن لشغفي بمعرفة ما يحدث عن قرب استأذنه في أن أصحبه
لمتابعة التحقيقات عن كثب بشكل شخصي، فقط كنت أريد أن أعرف، وبالفعل ذهبت معه إلى
مقر محكمة جنوب القاهرة، حيث تقع بها نيابة حوادث وسط القاهرة التي تتولى التحقيق
في الواقعة.
وكانت المباحث
بعد أن عرفت حقيقة جيبة الفتاة المجنى عليها، أحضرت الأم بصحبة الجيبة وبقية
الملابس التي كانت ترتديها الفتاة المسكينة ليلة الحادث المؤلم.
وأمام النيابة،
قررت الأم أنها أخفت ملابس ابنتها خوفا من الفضيحة!.
"فضيحة
إيه يا ست إنتي؟!".
لكن الذي يفهم
التقاليد والعادات الشعبية، يدرك تماما سبب إخفاء الأم ملابس ابنتها الداخلية مع
الجيبة الممزقة، فرغم أهمية فحص الملابس وتحليل ما عليها من آثار وخاصة بقع
الدماء، للطب الشرعي، إلا أن الأم كانت مهمومة بشيء آخر لا يخطر على بال، فالفتاة
لم تتزوج بعد ولا دليل على احتفاظها بعذريتها كعنوان لنقاء عفتها واحتفاظها
بشرفها، إلا بهذه البقع من الدماء، ففيها دليل "شرف البنت" وحتما
ستخرجها الأم للعريس القادم إذا تثبت أن الفتاة فقدت عذريتها بسبب الحادث وذلك كبديل
فرضته الظروف عن القماشة البيضاء التي ستستخدم في ليلة الدخلة البلدي عندما يأتيها
عدلها ويتم فض غشاء بكارتها بمعرفة العريس بنفسه وسط طقوس شعبية تجرى تحت إشراف
"داية" مع مراقبة الأم والنسوة القريبات في عائلتي العروسين لتنطلق
بعدها الزغاريد وتشهر القماشة البيضاء التي كان يلفها العريس حول إصبعيه، ملطخة
بالدم الوردي اللون في موكب صاخب أمام المنزل ليرى كل الناس كيف حافظت العروس على
شرفها وشرف أهلها!.
"لكن
ما يحدث في الدخلة البلدي؛ التي لايزال معمولا بها حتى الآن في مناطق كثيرة؛ هل
يقل كثيرا عما حدث في العتبة؟!".
على أي حال كانت
نتيجة تقرير كشف الطب الشرعي على الفتاة تؤكد حدوث تهتك في غشاء البكارة وأنه لم
يحدث فض كامل وأنها مازالت عذراء كما وجدت سحجات وكدمات في المنطقة المحيطة
بالغشاء إثر الاعتداء.
لكن في
النهاية.. من فعلها؟!
المتهم الأول
"جمال" أشعلت صورته في الأخبار الدنيا عندما نزع بنطلونه عند ترحيله إلى
النيابة ليكشف عن إعاقته التي سقط مع على سلم الأتوبيس بسببها، حيث اختل توازنه
عند محاولة صعوده فسقط على الأرض ولم يشارك فيما حدث، كما أن كل علاقته بالمتهم
الثاني هو أنه تصادف أنه كان في المكان نفسه دون أي معرفة، كما أن اسمه
"جمال" أيضا!.
المتهم الثاني
قال إنه كان يستند على سور في الموقف ولكنه فوجئ بأمين الشرطة يمسك به مع بقية
الأهالي وسط حالة هرج شديدة ولم يتبين ما الأمر ولماذا يضربه الناس حتى وصل مقر
القسم مع شريكه في المصير!.
كانت أقوال الشهود
متضاربة، كما أن الفتاة لم تحدد بشكل قاطع من هم المتهمون الذين كانوا خلفها، كما
أن تعرفها على المتهمين المضبوطين كان به اضطراب في الأقوال وتحديد ما حدث منهما
وكيفية رؤيتها لوجهيهما وتحديدهما وسط الزحام.
لكن استقر
الاتهام رسميا على أربعة، فهذا العدد هو ما اتفق عليه الشهود دون تحديد ملامحهم
بشكل قاطع، فصدر الأمر بحبس المتهمين المضبوطين وتكليف المباحث بضبط المتهمين
الآخرين الهاربين دون تحديد أي شيء عن أي منهما.
وسط كل ذلك
الصخب وتحت هذا الضغط الهائل، تم إحالة المتهمين إلى المحاكمة ولكن في ساحة
القضاء، كانت الأمور أكثر عقلانية وواقعية، فلم تعبأ المحكمة بذلك الغول الهائج
المدعو بـ"الرأى العام" ولا حسبت حسابه لأن الناس غالبا ما يصدرون
أحكاما بلا سند من منطق ولا واقع، مدفوعين بانفعالات هوجاء.
ولعل هذا الغول
هو الذي دفع مسئولا كبيرا بمباحث وسط القاهرة، أن يقرر في شهادته أمام المحكمة،
بأن التحريات توصلت إلى سوء سمعة المتهم الأول "المحاسب بأحد البنوك"
حيث قررت زميلة له بأنه كان يغازلها، لكن لم تذكر التحريات أن المتهم متزوج من
شريكة حياته عن قصة حب وإصرار منها على الزواج رغم إعاقته الظاهرة، كما أنها حسنة
المظهر ولم تتخل لحظة عنه منذ ضبطه وحتى آخر جلسة للمحاكمة.
ولأن القضية
قضية رأى عام، أراد المحامون تطويل مدتها بعدما استشعروا بأن اتجاه القضية يسير
نحو البراءة وأن هيئة المحكمة لم تأخذ بتحريات المباحث ولم تطمئن لشهادة الشهود،
فتقدم المحامون بطلب لرد هيئة المحكمة ولما اعترض المتهم الأول على هذا الطلب،
معلنا ثقته في عدالة المحكمة، دفع المحامون المتهم الآخر "وهو عامل
باليومية" فوافق على طلبهم ولما سأله محرر بإحدى الجرائد عن سبب موافقته على
رد المحكمة رغم اتجاهها لتبرئته، لم يبد عليه أنه كان يعلم ماذا يعنى هذا الإجراء
من الأساس!.
ومع ذلك فقد
تولت هيئة أخرى نظر القضية واستمعت إلى كل الأطراف وناقشت كل الشهود ودرست كل
الأوراق المقدمة ولكن لم تجد دليلا واحدا أو شاهد رؤية يؤكد ارتكاب أي من
"الجمالين" هذه الفعلة الشنعاء، فقضت في جلسة تاريخية ببراءتهما مما
أسند إليهما وقررت بأن الجناة مازالوا هاربين وكلفت الأجهزة المعنية بالبحث عنهم
وتحديدهم لتنفيذ الأمر القضائي بضبطهم وإحضارهم.
ومازال البحث
مستمرا وربما يقرأ أحد الجناة الحقيقيين أو قريب منه هذا المقال الآن، وقد يسترجع
ما حدث وكيف تحاكى الناس بقصة اغتصاب فتاة في قلب القاهرة وربما شاركهم الحديث
لاعنا من فعلوها.. ولما لا؟!.. كل شيء جايز!.