السبت 25 مايو 2024

عميد كلية الآداب والفنون بجامعة فيلادلفيا الأردنية يطالب بمعجم تاريخي للغة العربية

فن3-1-2021 | 20:41

تمثل صناعة المعاجم على اختلاف تخصصاتها من أبرز الصناعات الثقافية والعلمية قديما وحديثا، وقد ساهمت في حفظ الكثير من التطورات الحضارية والمعرفية التي مرت بالإنسانية، وقد شهد القرن الماضي ومطلع القرن الحادي والعشرين نشاطا كبيرا في هذه الصناعة، رغم إن معجما تاريخيا للغة العربية لا يزال بعيدا عن التحقق، وهو ما طالب به الناقد الأردني د.محمد عبيد الله عميد كلية الآداب والفنون بجامعة فيلادلفيا الأردنية، في دراسته "صناعة المعجمية والمعجم التاريخي عند العرب" مؤكدا أن معجمه المنشود ليس بديلاً لثروتنا المعجمية، بل إنه سوف يشكل رافدا جديدا مختلفا في منهجه وأهدافه، يهدف إلى خدمة العربية ودعمها ونقلها إلى المستقبل بروابط وثيقة مع الماضي الطويل لها، ذلك أنه يُعنى بحياة الألفاظ وسيرها الكاملة، من مبدأها الأول وحتى يومنا هذا، كما يهتم ببيان صلاتها بغيرها من اللغات، فاللغة الحية ليست مقطوعة الصلات، وليست منكفئة على ذاتها، وإنما هي لغة تقترض وتُقرض، تأخذ وتعطي، ومن خلال ذلك تضمن الحياة والاستمرار.


رأى عبيد الله أن قضية المعجم التاريخي للغة العربية تعد من أهم القضايا التي شغلت المعجميين والمهتمين بقضايا اللغة العربية في العصر الحديث، ويظهر هذا الاهتمام من خلال بروزها في إطار البحث الجامعي وأعمال مجامع اللغة العربية والجمعيات والهيئات الثقافية والفكرية. وقد ظهرت الدعوة إلى وضع معجم تاريخي للغة العربية في مرسوم تأسيس مجمع اللغة العربية في مصر في ثلاثينيات القرن الماضي، وما زلنا ـ بعد مرور قرابة تسعين سنة على بداية الدعوة لوضْع هذا المعجم ـ نكرّر الدعوة نفسها، ولكن مع وجود خطوات وأعمال تمهيدية كثيرة، تساعد على إيضاح جوانب المشروع، وعلى رسم منهج سديد يمكّن من وضعه.


وأضاف في دراسته الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر أن الجهود العربية قد تمكّنت خلال هذه العقود من نشر معظم أمّهات المعاجم العربية القديمة، وتكشّف عن ذلك تراث معجمي يحقّ لنا أن نعتز به، فهو يضع أمتنا في طليعة الأمم التي تميزت بالصناعة المعجمية منذ وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي "ت175هــ/790م" أسس المعجمية العربية من خلال معجمه الشهير كتاب العين في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري "الثامن الميلادي". وقد وضع الأسلاف بعد الخليل معجمات ضخمة موسوعية بجهود فردية، وبأدوات بدائية بالقياس إلى تطوّر عصرنا وحواسيبه وتقنياته وعلومه، يحدوهم دافع حماية العربية وصونها ونشرها، وقد نجح جهدهم في رعاية هذه اللغة الكريمة، فظلّت حية بفضل الترابط بينها وبين القرآن الكريم، فكان حظّها أن تخلد بخلوده، وأن تبقى ببقائه، ولم تكن الجهود المعجمية بعيدة عن ذلك كلّه، فقد كانت تخدم الدين من خلال اللغة، وتخدم اللغة من خلال الدين.


وأكد عبيد الله أن المعجم التاريخي المنشود أخصّ بهذه اللغة من غيرها، فتاريخها الطويل الممتد يقتضي كتباً أمهات يتاح للعربي المعاصر من خلالها أن يتجوّل في حياة ألفاظ لغته، وأن يتابع سيرتها وتحولاتها، فيرى ما هُجِر من ألفاظها، فمات أو كاد، وما ظل مأنوساً حياً على مدى العصور، مع ما أصابه من تغيرات وتحولات، وكذلك ما استجدّ من الألفاظ الحضارية في كل عصر من عصور العربية، وما أضيف إلى ثروتها المعجمية بعد عصور الاحتجاج التي وقفت عندها معظم معاجمنا القديمة وحتى اليوم. وأما الألفاظ المعاصرة والحديثة ومقتضيات التطوّر وتعريب العلوم فهي من دوافع إصدار ذلك المعجم، ومن تمام العناية بأمر هذه اللغة الحيّة الخالدة.


ولفت إلى أن المعاصرين بذلوا بعض الجهود التي يمكن أن تكون علامات في طريق إنجاز المعجم التاريخي للغة العربية، وشهدت بعض المراحل خطوات جادّة لإنجاز ندوات وبحوث ومؤلّفات يمكن أن نعدّها أعمالاً تمهيدية ضرورية نافعة، فالأعمال الكبرى المرجعية التي ينتمي إليها المعجم التاريخي لا تُنجز دون جدل ونقاش، والطريق إليه ليست مُمَنْهجة ناجزة، وإنما تستلزم جهوداً فردية وجماعية مخلصة، تسهم في نشر الفكرة وتعميمها، ولفْت أبناء العربية إلى أهميتها، وإلى مقتضياتها العلمية الكثيرة، فمن المؤكد أننا في الصناعة المعجمية قد تجاوزنا الأعمال الفردية إلى الصناعة الجماعية، المعجم التاريخي لا يستطيع فرد أن ينجزه كله أو بعضه، ولنا في إخفاق محاولة أوغست فيشر مثال على ذلك، ولنا أن نعتبر بالمعاجم والقواميس التاريخية العالمية، فجلّها أعمال جماعية أنجزتها فِرَق ومجموعات ومؤسسات، على مدى عقود وسنوات طويلة بلغت أحياناً سبعين أو مائة سنة، وتحوّلت بعض القواميس أو المعاجم العالمية إلى مؤسسات لغوية ضخمة، دائمة العمل والنشاط؛ إذ لا ينتهي المعجم بصدور طبعته الأولى، وإنما هو عين تحرس اللغة وتصنّفها وتجدّدها، إنه مرصد دائم الانعقاد والعمل ينتظر منه أهل اللغة كل عام ألفاظاً وتعريفات جديدة، تظهر فيما يتجدّد من طبعاته، وما يصدر من قوائمه وإضافاته. 


وقال "يبدو أن القناعة بالعمل الجماعي قد تكوّنت لدى المهتمين بهذا المعجم التاريخي العربيّ، فلاحظنا انصرافاً نحوه، ودعوة حثيثة إليه في السنوات الأخيرة، وهو ما يمنحنا الأمل بأن تثمر هذه الجهود الجماعية في السنوات القريبة، وتتكشّف عن بعض معالم المعجم التاريخي من الناحية التطبيقية العملية، أي أن نقرأ بعض المواد المعجمية المنجزة، فحينها سيغدو العمل أيسر بوجود النماذج، وإمكانية إضافة موادّ جديدة من خلال محاكاتها واتباع العناصر المنهجية والتنظيمية التي طبّقتها.

حاول عبيد الله أن تصبّ دراسته في الدراسات التمهيدية التي تدعم صناعة المعجم التاريخي، من خلال مراجعة الأدبيات والدراسات السابقة، وتقليب النظر بين الآراء المتعارضة، لعل هذه المراجعة تمكّن من الوصول إلى توافق حول النقاط الأساسية التي تلائم العربية، فليس هناك وصْفة منهجية موحّدة لإنجاز مشروع من هذا النوع، وإنما لا بد من الإفادة من مختلف الآراء، لتكوين صورة شاملة تكون هي الأنجع من بين الخطط والاجتهادات الفردية والجماعية المتوفرة.


وقد انتظمت الدراسة في فصول متتابعة، سعت إلى معالجة عدد من القضايا المهمّة في المعجم التاريخي، فالفصل الأول عُني بمسألة المعجم وصناعة المعاجم في إطارها النظري العام، ذلك أن المعجم التاريخي فرع من هذه المسألة. وكذلك عني بمراجعة المصطلحات المعجمية، وتأصيل مصطلحين مفتاحيّين هما: المعجم والقاموس اللذان أطلقا على هذا النوع من الكتب باللغة العربية، وخُتم الفصل بتصنيفات المعاجم التي يتفرّع منها المعجم التاريخي. وعنى الفصل الثاني بالمعجم التاريخي من ناحية تعريفاته وظروف ميلاده، وصلته بعلم اللغة التاريخي والمقارن. كما التفت هذا الفصل إلى بعض التجارب السابقة للمعاجم التاريخية الإنجليزية والفرنسية، كما راجع الفصل أبرز المحاولات والمبادرات السابقة والراهنة في مجال وضع المعجم التاريخي للغة العربية.


وناقشت الدراسة في الفصل الثالث قضية مُهمّة هي قضية الفصاحة في المعجمية العربية، حيث رأى عبيد الله أن "هذه القضية تطل كلما فكّرنا في المسألة المعجمية. ومن الملائم بيان حدود الفصاحة في الموروث، وحاجتنا اليوم إلى تعديل معايير الفصاحة وتوسيعها، لتشمل دائرة أوسع من ألفاظ العربية وتطور معانيها ودلالاتها، دون أن يعني ذلك أي تجاوز على الفصحى، أو الدعوة إلى العاميات التي يلتبس الحديث عنها أحياناً برطانة "أيديولوجية" لا تخلو من خطورة. ومن المعلوم أن القرن الماضي شهد مؤامرة معلنة على العربية الفصحى، كانت العامية واحدة من أدواتها، ولم يكن للعامية نفسها يد في هذا العداء، ولكن الذين استعملوها أرادوا إحلالها محلّ أختها، فدعوا إلى الكتابة بها، وإلى الإعلاء من شأنها، وحاولوا أن يميّزوا بين عاميات الأقطار العربية ويحوّلوا بعضها إلى "لغات محلية" تنوب عن الفصحى المشتركة التي تعدّ عاملاً نادراً من عوامل وحدة العرب اللغوية والثقافية والدينية". 


وأضاف "أما حديثنا نحن عنها – في سياق المعجم التاريخي- فحديث لغوي بحْت، يدرك أن العامية مستوى شفوي لا يُنكر استعماله والحاجة إليه في التواصل اليومي، ولكنه لا يرقى أن يُضاهَى بالفصحى، أو يقارن بها، دون أن ننكر بعض الصلات التي تربط العامية بالفصحى، وإمكانية الإفادة من بعض ظواهرها في تفسير قضايا الفصحى، فمقصدنا إذن - بوضوح ودون مواربة- خدمة اللغة الفصيحة المشتركة التي يعرفها العرب أجمعين، وقسم من هذه اللغة وتطوراتها موجود في بعض ألوان اللهجات والعاميات، وهو ما لا يمتنع المعجمي واللغوي عن تأمّله ودراسته، لتفسير ظواهر الفصحى وتطورها، وليس لتسجيل العامية أو مساواتها مع الفصحى المشتركة".


وعني عبيد الله في الفصل الرابع بقضايا التأثيل موضحا أن التأثيل يعدّ ركناً من أركان صناعة المعجم التاريخي، فمن خلاله نتبيّن أصول الألفاظ وانتماءاتها، سواء أكانت ألفاظاً أصيلة أو مقترضة، ومن خلاله يظهر سلوك الألفاظ بعد انتقالها، والتغيّرات البنائية والدلالية التي طرأت عليها. وفي العربية يمكن أن يأخذ التأثيل اتجاهين كبيرين:

ـ الاتجاه الأول: اتجاه نحو تأثيل الألفاظ السامية التي تربط العربية بالأسرة اللغوية التي تنتمي إليها، بل إن كثيراً من علماء اللغة يعدّون العربية أقرب اللغات إلى اللغة السامية الأمّ، وكثير من هذه الألفاظ تدخل في إطار "المشترك السامي" الذي يصعب فيه تحديد لغة أمّ دون أخواتها، ولذلك قد يكون الاكتفاء بالنظائر السامية كافياً، وليس بالضرورة أن نقطع الشك باليقين في كل لفظ من الألفاظ السامية، فننسب أصالته أو أوّليته إلى لغة بعينها.


ـ الاتجاه الثاني من اتجاهات التأثيل فعبر تتبّع ما دخل العربية من ألفاظ اللغات الهندية الأوروبية التي تفاعلت معها العربية، ويشمل لغات معروفة كالفارسية والهندية واليونانية واللاتينية، ومعظم اللغات الأوروبية حديثاً. ويدخل هذا التأثيل ضمناً مع اهتمام الأسلاف بظاهرة المعرّب والدخيل، وهي ظاهرة لم ينكروها، وإنما أقرّوا بها، ونبّهوا إلى كثير من مفرداتها، بل إن كتاب العين للخليل بن أحمد نصّ على طائفة واسعة من الألفاظ المعرّبة، وكذلك صنع أصحاب المعاجم اللاحقة إلى جانب وضع معاجم ومصنّفات خاصة بالمعرّب والدّخيل. ولكن الظاهرة ما زالت محتاجة إلى توسيع وتطوير في ضوء تطوّر الدراسات التأثيلية التي نشطت واكتسبت طرائق علمية مقارِنة منذ القرن التاسع عشر.


أما قضايا "المعنى" فعُني بها عبيد الله في الفصل الخامس حيث رأى أنه في حالة المعجم التاريخي ظهر ضرب من تتبّع التطور تتبّعاً تاريخيّاً يبيّن أوّل الدّلالات وآخرها، ويكشف بشواهد محدّدة مؤرّخة طبيعة كل دلالة وعوامل تطوّرها واستعمالها. وإذا كان مطلب المعنى بعامة من أهم مطالب مستعمل المعاجم والقواميس، فإنه يتميَّز بالترتيب الزمني وبالمنحى التطوري، ومن سمات الدلالات والمعاني أنها تستمر في ضيقها وتوسعها، وارتقائها وانحطاطها، لتمثّل عبر ذلك وجوهاً من تطور اللغة، ومن قدرة الألفاظ على التجدّد عبر التطور اللغوي الدلالي. وفي كثير من الأحيان تتعايش الدلالات والمعاني، بمعنى أن التطوّر لا ينهي الدلالات السابقة بل يجاورها. ومن هنا تتشعّب المعاني ويغدو المعجم مضطراً للانفتاح على السياق بما فيه من شواهد تبين وجوه الاستعمال واستمرارها أو موتها.


    الاكثر قراءة