يعد كتاب "رحلة فى عالم إنسان" تعريبًا للسيرة الذاتية لعالم النفس السويسرى كارل يونح والتى نشرت بالألمانية ثم ترجمت إلى لغات كثيرة ومنها الإنجليزية ، إذ إنه يقدم قصة حياته بكل تفاصيلها وما بها من عثرات ونجاحات، آلام وانجازات، وبها تساؤلات نسألها جمعيا لأنفسنا عن الخير والشر والحياة والموت، وهى نموذج متكرر لما يحدث داخل النفس الإنسانية، والارتباط الخفى بين الفرد والعالم كله فى الماضى والحاضر.
وتبحر فى رحلة "يونج" بدءا من الغلاف الذى يحمل مدلولا خاصاً وكأنه لوحة فنية تجمع بين البساطة والشجن والتشويق للدرجة التى توحى للقارىء بأنه سيفتح صفحات كتاب سوف يقرأه ووليس هو من سيقرأه! وكأن الفنان محمد مصطفي قد وضع القصة في صورة نتأمل فيها بعمق فتتكشف لنا اسرار وخبايا النفس الإنسانية ، وتوجهنا لسبر اغوارها مهما كانت الظروف ومهما اختلف الجنس أو النوع أو الفكر.
وقالت علياء رافع أستاذ علم الاجتماع بكلية البنات بجامعة عين شمس -والتى عربت السيرة - أن ما ذكره عالم النفس الشهير عن نشأته الاولى وطفولته، تدل على تمتعه بتكوين نفسى خاص جعله مختلفا عن أقرانه، حيث تعرض لأحداث ومتغيرات وتجارب كان لها أبلغ الأثر فى تغيير مسار حياته ، وزادت من شعوره بعدم الأمان نتيجة تواجده فى بيئة مختلفة ثقافياً وحضاريا عن نشأته.
وأضافت: هذا الشاب الذى لم يبرح الريف منذ مولده، ها هو القدر يختار له ان يتجه للمدينة بقصد الدراسة فيكتشف الكثير من الأمور التي هزت وجدانه وكيانه بشده وأدت إلى تحطم افكار متوارثة منها فكرة الكهنوت، وتوصله لقناعة راسخة بأن الكنيسة وطقوسها فى حد ذاتها لا تعبر عن الدين ولا تعبر عن محتواه إطلاقا، وتكونت لديه رؤية مختلفة عن الفكر الكنسي.
وأشارت إلى أنه مع تطور الأحداث التى عايشها فى هذا المناخ، ومعاناته لفترة من الشعور بالتمزق الداخلي؛ استطاع أن يتحكم فى مشاعره السلبية ولم يستسلم لها، وبمرور الوقت اندمج اجتماعيا بشكل تدريجي، إلى أن أختار أن يلتحق بكلية الطب وعند دخوله الامتحان التأهيلي فى علم النفس.
وأضافت: كان بمثابة جواز المرور له ليتخذ من دراسة علم النفس هدفا لحياته، وكانت قراءته لعبارة جاءت فى الامتحان تقول "إن هذا العلم لم يوفى حقه ويحتاج لمجهود كبير"، موضحة أن تلك العبارة كانت السبب الحقيقي الذى أنار له الطريق فى استكمال دراسته في علم النفس، وبعد تخرجه بدأ يؤسس لمجال جديد فى مجال الطب النفسي.
ومن هنا أثرى تجربته الذاتية بتعامله مع مرضاه وتفاعله كإنسان قبل أن يكون طبيبًا، وعرف طريقه فى استخدام الأحلام والرؤى فى إيجاد السبب والمسبب وربط الأحداث ببعضها ليصل إلى مفتاح كل حالة، فضلا عن ايمانه الراسخ باعتبار كل مريض هو تجربة فريدة لها خصوصيتها وبصمتها التى تحتاج لفك شفراتها، فلقد أبدع حقا فى كسر الحواجز التقليدية فى العلاج النفسي من خلال التفاعل بينه وبين المريض.
ويحكى لنا بنوع من التفصيل عن لقائه بفرويد، وكانهما وجدا ضالتهما كلا فى الآخر، حيث وجد "يونج" فى فرويد صورة المعلم والاب وشعر نحوه بتوافق شديد ، بينما وجد فيه "فرويد" أنه شابا نابها ومساعدا باهرا ولمس فيه حبه للعمل الدؤوب، وبمرور الوقت والتعامل عن قرب اكتشف يونج اختلاف طريقة تفكيره عن فرويد جملة وتفصيلا، حيث يبنى "فرويد" نظرياته من منظور أحادي البعد، على اعتبار ان الغريزة هى المحرك لكل دوافع الإنسان ، بينما ينظر "يونج" للفعل الصادر من الإنسان بأنه محصلة عدة عوامل منها ما هو مادى ومنها ما له ابعاد روحية وغيبية لابد أن تؤخذ في الاعتبار ، هذا الاختلاف الجوهري جعل "يونج" يقرر أن ينفصل عنه بلا رجعة ، ثم بدأت توجهاته تنتشر وتحدث ضجة في العالم كله.
وبمرور الوقت حدث تطور معرفي هائل ليونج حيث عكف على قراءات متنوعة للعديد من فروع العلوم، فضلا عن تأثره بالمعاناة النفسية التي عايشها فى الفترات السابقة من حياته، ومن ثم أسفرت عن اكتشافه للأنماط الداخلية الفكرية.
وبدأ "يونج" فى كتابة مجموعة من الكتب ، عبر كل منها عن تطور حدث له فى حياته، حيث إنه عاش حياة بسيطة، تتسم بالتناغم مع الطبيعة والكون، وتولدت لديه مشاعر بالبهجة والسعادة وزادت من رهافة الاحساس عنده وتضاعفت روح الإبداع فيه، وهو ما انعكس على كل أعماله التي قدمها.
وفى لحظة صدق مع النفس عميقة، يتحدث عن المعنى العميق للسكن او بيت الإنسان من منظوره ، فقد ربط بين معنى السكنى وان يركن الإنسان لمأوى يرتاح إليه .. وبين تطوره الروحي والنفسي، وعبر عن ذلك عندما اقام بيته وحوله تدريجيا إلى برج عال ، وكأنه رأى فى كل دور من أدوار البرج انعكاسا لحال روحي ونفسي وصل إليه.
ثم يبحر "يونج" بنا عبر رحلاته المتنوعة حول العالم مابين قارة أفريقيا إلى أمريكا الجنوبية، ورؤيته لكل ما رآه من ثقافات مختلفة للشعوب وتفاعله مع كل ثقافة منهم، والتى تعكس ايمانا عقائديا لدى أصحابها بما يقومون به، والمدلول الذى توصل إليه أن الإيمان الراسخ بأى شيء، هو السر فى بقاءه وديمومته على مر الأجيال.
والخاتمة أننا من منطلق اننا كلنا إنسان، نجتمع معا تحت مظلة الوحدة الإنسانية، فندرك أنه اضاف أبعادا جديدة لعلم النفس التحليلي وأصبحت نظرياته فيما بعد مرجعا للكثيرين من المفكرين والمثقفين فى مجال العلوم الانسانية، ومما لاشك فيه ان الدكتورة علياء رافع قدمت رحلة حياته بأسلوب السهل الممتنع، واستخدمت أدواتها لتبسيط المصطلحات وإعادة صياغة المعانى، لتقدم لنا مرجعاً يستفيد منه كل انسان يبحث عن نفسه الحقيقية، وكل باحث يسعى لأن يصل إلى حالة التكامل الداخلى والتى لا يصل إليها إنسان الا من خلال التجربة والإصرار على المعرفة ومشاركتها مع الغير، لاسيما علماء النفس والانثروبولوجين الذين اتخذوا من نظرياته مرجعا لهم.
ويقدم هذا الكتاب علم فى شكل سيرة ذاتية، ومن أصعب تجاربه معايشته للموت عندما توقف قلبه عن الخفقان، وعايش تجربة الموت الحقيقي، وروى مشاهد روحية مكثفة سردها بالتفصيل وهو فى حالة انطلاق روحي، ورؤيته لمفهوم الحياة بعد الموت، وكشف عن بعض الظواهر لأرواح متنقلة استطاعت ان تتواصل معه ، وعلى الرغم من تلك البراهين المادية على وجود حياة بعد الانتقال، إلا أنه لم يؤكدها أو ينفيها بشكل قاطع، وانما تركها لذكاء القاريء ودعا للإيمان بها، وتكوينه لتأملات بشكل فلسفى عميق ويختتم بجملة (المحبة هى الحقيقة الوحيدة فى الحياة)، لافتا إلى فكرة التحقق والوصول للسعادة والتكامل الداخلى من خلال تفعيل طاقاتنا الكامنة.