عاش ثابت بن قرة
في العصر الذهبي للحديث، ورغم الاهتمام الواسع بجمع الحديث وتدوينه في القرن
الثالث الهجري، والاهتمام بالمرويات ونقل الأخبار والأنساب من طائفة كبيرة في هذا
العصر أطلق عليهم فيما بعد "علماء الأمة"، إلا أن ثابت بن قرة بن مروان،
أبى أن يكون في زمرة هؤلاء، اختار منهجا مغيرا وطريقا مختلفا عن طرق الرواية ونقل
الأخبار ليشتهر بالفلك والرياضيات والهندسة والموسيقى والطب، ولد في حرّان سنة 221
هـ وتوفي في بغداد سنة 288 هـ.
اسمه بالكامل
هو: ثابت بن قره بن مروان بن ثابت بن إبراهيم بن كريا بن مارتياوس بن سلامون
الحراني، وكنيته أبو الحسن، كان على مذهب الصابئة، وكان من المقربين إلى المعتضد
حيث قدمه إليه الخوارزمي المعروف، وهو أول من توصل لحساب طول السنة الشمسية حيث
حددها بـ 360 يوما و6 ساعات و9 دقائق و12 ثواني (أي أنه أخطأ بثانيتين فقط).
عمل في الجامع
الكبير في حران ثم انتقل سنة 848م إلى الرقة وأنشأ بها مدرسة عليا لتعليم الفلك
والفلسفة والطب ومن تلاميذه، سنان إبراهيم، ابن اخته البتاني، قرة بن قميطاء، أيوب
بن قاسم الرقي، إبراهيم بن زهرون، واسير بن عيسى وغيرهم من الرقة ومنطقة الجزيرة
السورية، وانتقل بعدها إلى بغداد .
فترة توتر:
عاصر ثابت بن
قرة الفترة التي ولي فيها المعتضد الخلافة وكانت فترة قلاقل وثورات، ولكن الخليفة
قضى عليها، ولم يدعها تتفاقم وتزداد اشتعالا، ومن ثم شهدت الخلافة استقرارًا
وهدوءا، فأخمد ثورة “بني شيبان” بأرض الجزيرة سنة (280 هـ)، وكانوا يهاجمون المدن،
ويقتلون الناس، ويسلبون أموالهم، كما قضى سنة (281 هـ) على ثورة “حمدان بن حمدون”،
الذي كان يطمح في تأسيس إمارة له، أيضا استولى على قلعة “ماردين” وتحصن بها، وقمع
ثورة الخوارج في الموصل، التي تزعمها “هارون بن عبد الله الشاري” سنة (283هـ).
كما شهدت فترة
المعتضد ظهور حركة القرامطة؛ حيث قدم الكوفة سنة (278 هـ) رجل يُدعى ”حمدان قرمط”،
وأقام بها، وتظاهر بالعبادة والزهد، والدعوة إلى إمام من آل البيت، فلقيت دعوته
نجاحًا عند أنصار العلويين. وبعد أن وثق من بعضهم بدأ في بث دعوته وأفكاره، ثم
اشتد خطر هذه الحركة بعد ظهور زعيمها في البحرين “أبي سعيد الجنَّابي” سنة (286
هـ)، واستطاع أن يبسط نفوذه على “البحرين” و”هجر”، وكسب أنصارًا كثيرين، وتحولت
البحرين إلى مركز للقرامطة ومعقلاً لنشاطهم، وخرجت منه حملاتهم الحربية لنشر
أفكارهم.
ولم ينجح
المعتضد في القضاء على هذه الحركة؛ لأنه لم يُقدّر خطورتها حق قدرها، وصرف جهده
إلى قمع فتن كانت تبدو لديه أكثر خطورة منها.
ويجدر بالذكر
أنه ظهر في أيامه “ابن حوشب” في بلاد اليمن؛ حيث كان يقوم بنشر الدعوة للمهدى
الفاطمي، و”أبو عبد الله الشيعي”، الذي كان يدعو للفاطميين في بلاد المغرب، إلى أن
تمكن من إقامة دولتهم في المغرب بعد ذلك.
وأيًّا كان
الأمر، فلم تشغل ثابت بن قرة كل هذه الأحداث فقد انصرف للعلم الذي يؤسس له.
الرياضيات:
يعد ثابت أحد
أعلام الرياضيات المعدودين في عصره، وقد تعددت إنجازاته في هذا العلم في العصر
الذي عاش فيه، وامتدت آثاره العلمية وفتوحه في علم الرياضيات إلى العصور التالية
له؛ حتى استحق أن يطلق عليه لقب “إقليدس العرب".
ومن أهم
إنجازاته في هذا العلم: دراساته القيمة عن الأعداد؛ حيث قسم الأعداد إلى قسمين:
الأعداد الزوجية، والفردية، كما قسم العدد نفسه إلى أنواع ثلاثة:
العدد التام: وقد
عرفه بأنه هو العدد الذي إذا جمعت أجزاؤه (عوامله) كانت مساوية لذلك العدد مثل
العدد (6).
العدد الناقص:
وهو العدد الذي يكون مجموع أجزائه (عوامله) أقل منه، مثل العدد (10).
العدد الزائد:
وهو العدد الذي يكون مجموع أجزائه (عوامله) أكبر منه مثل العدد (12).
كما أوجد طريقة
سهلة لاستخراج الأعداد المتحابة (أن يكون مجموع أجزاء –عوامل- كل منهما يساوى قيمة
العدد الآخر).
وهو يعد أول
شرقي بعد الصينيين بحث في المربعات السحرية وخصائصها.
الهندسة
وبرع ثابت في
علم الهندسة حتى قيل عنه إنه أعظم هندسي عربي على الإطلاق، وقال عنه “يورانت ول”:
إنه أعظم علماء الهندسة المسلمين؛ فقد ساهم بنصيب وافر في تقدم الهندسة، وهو الذي
مهد لإيجاد علم التكامل والتفاضل، كما استطاع أن يحل المعادلات الجبرية بالطرق
الهندسية، وتمكن من تطوير وتجديد نظرية فيثاغورث، وكانت له بحوث عظيمة وابتكارات
رائدة في مجال الهندسة التحليلية؛ فقد ألف كتابا في الجبر، شرح فيه العلاقة بين
الجبر والهندسة، وكيفية التوفيق بينهما، واستطاع أن يعطي حلولا هندسية لبعض
المعادلات التكعيبية، وهو ما أفاد علماء الغرب فيما بعد في تطبيقاتهم وأبحاثهم
الرياضية في القرن السادس عشر.
ومن مؤلفات ثابت
الرياضية والهندسية:
–
كتاب في الشكل
الملقب بالقطاع.
–
كتاب في مساحة
الأشكال المسطحة والمجسمة.
–
كتاب في قطوع
الأسطوانة وبسيطها.
–
مساحة المجسمات
المكافية.
–
قول في تصحيح
مسائل الجبر بالبراهين الهندسية.
الطبيب الرائد
كما يعد ثابت
أحد الأطباء العرب المبرزين، وأحد أعلام عصره المعدودين، بل إن تأثيره قد امتد
ليصل إلى القرون التالية له؛ فقد ظلت آثاره مرجعا مهمًا لطلاب العلم والباحثين في
أنحاء الدنيا لعدة قرون.
وكان ثابت من
أوائل الرواد في جانب مهم من جوانب الطب لم يتطرق إليه كثير من الأطباء في عصره؛
فقد كان له اهتمام بالأمراض الجلدية، ومستحضرات وأدوية التجميل حيث تحدث عن
الأمراض التي تصيب سطح جلدة الوجه مثل الكلف والقوابي، والآثار السود والبيض
الناجمة عن الجدري.. كما تحدث عن القروح والبرص والحكة والبهق بنوعية: الأبيض
والأسود، والسعفة والحزاز، وأمراض الشعر، وكذلك تحدث عن الهزال والسمنة وذكر
أسبابها وآثارها ووسائل علاجها.
وتطرق إلى أمراض
الرأس فذكر أنواع الصداع الذي يعتري الإنسان، كما تعرض لأنواع الشقيقة، وذكر ما يقوي
الرأس وينقي الدماغ من الأدوية والأغذية، كما تحدث عن الأغذية الضارة بالرأس
والدماغ والذهن، وأوضح الأثر الضار للدسم والدهون على صحة الإنسان، وكان له باع
طويل في الأمراض العصبية والعقلية والنفسية، واستطاع أن يشخص السكتة والصرع ويفرق
بينهما، كما وصف التشنج وذكر أسبابه وعلاجه، ووصف عددا من الأمراض النفسية مثل
الماليخوليا.
وله أيضا دراسات
وأبحاث في مجال الأمراض الجنسية وأمراض الذكورة، وذكر أسبابها وأوضح أعراضها، كما
تناول أمراض النساء والتوليد فتحدث عن اختناق الأرحام، وإدرار الطمث وحبسه، وأسباب
الحمل وانقطاعه، وعسر الولادة، وكيفية إخراج الجنين الميت والمشيمة.
واهتم أيضا بطب
الأطفال، وله آراء قيمة في الكلام على زيادة اللبن وقطعه، والأمراض التي تصيب
الأطفال كالحصبة والجدري.
تشريحه للعين:
كما أثبت تفوقا
ونبوغا في مجال طب العيون وتشريح العين، وهو في تشريحه للعين لا يبعد كثيرا عن
التشريح الحديث لها بعد ظهور الآلات الحديثة الدقيقة والمعدات الطبية المتطورة،
وقد تحدث ثابت عن بعض الأمراض التي تصيب العين كالرمد والمياه البيضاء والزرقاء،
كما ذكر ما يعتري العين من جحوظ أو غور، وتحدث عن ضعف البصر وذكر أسبابه، وقدّم
النصائح التي تقي منه.
وبرع ثابت كذلك
في أمراض الأنف والأذن والحنجرة؛ فقد ذكر الأمراض التي تصيب الأذن وتعرض لأسبابها،
وقدّم العلاج لها، وتحدث عن العلل التي تصيب الأنف من تغير رائحته وفقدان حاسة
الشم، وما يصيب الجهاز التنفسي من أمراض كالربو والزكام والنزلة، وفرّق بدقة بين
النزلة والزكام، ووصف بعض الأمراض التي تصيب الرئتين كالسل وتحدث عن أمراض القلب.
وتطرق أيضا إلى
أمراض الفم والأسنان؛ فذكر علل الأسنان وعلاجها، ووصف تركيب الأسنان ووظائفها،
وتحدث عن أمراض اللثة وطرق علاجها.
وأتى ثابت
بمعلومات دقيقة في مجال أمراض الكلى والمثانة؛ فقد تحدث عن أسباب تولد الحصى في
الكلى والمثانة، وذكر المواد والأغذية التي تسبب ذلك، وأثر تراكم تلك الجزئيات
الصغيرة من المواد العالقة والأملاح في تكوين الحصوات.
وتعرض لأسباب
إدرار البول، وذكر العديد من الأدوية والأغذية المدرّة للبول، وتحدث عن التبول اللاإرادي،
وبيّن بعض الأسباب العضوية المسببة له مثل ضعف المثانة عند الأطفال والشيوخ، أو
حدوث أورام أو جروح.
مؤلفاته الطبية:
واهتم ثابت كذلك
بدراسة الجهاز الهضمي والأمراض التي تصيبه مثل انتفاخ المعدة والخفقان المعدي،
وفقدان الشهية والعطش المفرط، والمغص وأمراض القولون والأمعاء، وأمراض الكبد وما
يصاحبها من أعراض كالصفرة وفقدان الشهية، كما تحدث عن السموم وأنواعها والأوبئة
والأمراض المعدية وأسباب انتشارها، وطرق العدوى ووسائل الوقاية منها.
ومن مؤلفاته
الطبية:
–
كتاب الذخيرة في
علم الطب.
–
كتاب في علم
العين وعللها ومداواتها.
–
كتاب في الجدري
والحصبة.
–
كتابة الروضة في
الطب.
–
رسالة في توليد
الحصاة.
–
مقالة في صفات
كون الجنين.
–
رسالة في اختيار
وقت لإسقاط النطفة.
تحديده لطول
السنة النجمية
أما في علم
الفلك فقد كان لثابت أرصاد مهمة قام بها في بغداد في حساب ميل دائرة البروج، كما
وضع نظرية الاهتزاز الأرضي، وتتجلى دقة ثابت وبداعته في استخراج حركة الشمس وحساب
طول السنة النجمية فكانت عنده 365 يوما و6 ساعات و9 دقائق و10 ثوان، وهو ما يزيد
عن الحساب الحديث لطول السنة بأقل من نصف الثانية، وذلك بالرغم من عدم وجود
الأجهزة الحديثة والمعدات التقنية المتطورة المتوافرة الآن.
ومن أهم مؤلفاته
الفلكية:
–
رسالة في حساب
رؤية الأهلة.
–
رسالة في حركات
النيّرين.
–
مختصر في علم
النجوم.
–
رسالة في سنة
الشمس بالأرصاد.
–
كتاب في آلات
الساعات التي تسمى رخامات.
–
كتاب في حساب
خسوف القمر والشمس.
وبعد حياة حافلة
بالعلم والعطاء توفي ثابت في (26 من صفر 288 هـ - 19 من فبراير 901م) عن عمر بلغ
76 عاما، تاركا ثروة لا تنتهي، وكنزًا لا ينفد من العلم والمعرفة.