السبت 25 مايو 2024

حكايات «ستات بلدنا» فى الأسواق.. اختلفت البضاعة والهدف «حياة كريمة»

تحقيقات12-1-2021 | 20:27

سيدات صامدات، بكل عزم وكبرياء، يجلسن يوميا في الأسواق، لا يتورعن عن الكفاح، طالما يكسبن قوت يومهن بأيديهن، لا يثنيهن شيء عن تخطى الصعاب، رغم مرارة التجارب التي مررن بها، جعلن من العمل قبلتهن كل يوم، طمعا في حياة كريمة لهن ولأبنائهن، فتحولت أحلامهن البسيطة بأن يجلسن في المنزل مكتفين بتربية الأبناء، وأداء المهام اليومية المنزلية، إلى أمر مستحيل لا يمكن تحقيقه، وسط ضيق الحال، وتبدد السبل لجلب المال، لذا تجدهن يوميا، من كل صوب، يفترشن الأرض، بصحبة بضائعهن، يرتبونها بشكل لافت حتى تجذب المارة نحو الشراء.


فى جولتنا بـ"سوق الجيزة" حاولت "الهلال اليوم" الاقتراب منهن، ومعرفة قصصهن، على الرغم من ترحيبهن بالفكرة واستجابتهن لها، لكن فضلن بعضهن عدم الظهور فى الصور. 





"أم حسين" بائعة الجبن والفطائر.. والدة 3 شباب جامعيين وجدة 21 حفيدًا 


بجلبابها الأورجوانى، وطرحتها الخضراء، تجلس أم حسين القرفصاء، فى سوق الجيزة، تحيط نفسها بمجموعة من الصواني، الممتلئة بالجبن القريش، والبيض البلدي، والمش الصعيدي، تتوسطهم رقائق الخبز الفلاحي، والفطير المشلتت، بجانبها أكياس الكسكسى والشعرية والمخروطة، باحثة في جلستها كل يوم منذ الصباح الباكر، وحتى المساء عن قوتها ورزقها، غير مبالية بلفحات الشمس الحارقة، وعتمات الليل، التى تأتى عليها بعد أن تنتهى من مهمتها في نهاية اليوم.


تروى المرأة الخمسينية، ممتلئة القوام، ذات البشرة البيضاء، والعينين الخضراوين، في تباه أنها تبيع فى هذه المنطقة منذ أكثر من 30عاما، وسط ألفة باتت تجمعها بالمكان والناس الذين يتواجدون معها بصورة يومية من بائعين أمسوا لها عائلة ثانية تحتضنها، وزبائن يأتون لها خصيصا من كل مكان ليبتاعوا منها احتياجاتهم.


تعود أم حسين بذاكرتها إلى الوراء، سنوات كثيرة توقف عن إحصائها قائلة: "أعمل فى هذه المهنة منذ بلوغي 19 عاما، أي بعد زواجي بـ6 سنوات"، فقاطعتها متعجبة: "وكم كان عمرك عندما تزوجتي؟"، أجابتني مبتسمة: "تزوجت وعمري 13عاما، أنجبت خلالها 7 أبناء، الأكبر معه بكالوريوس تجارة، والثاني حاصل على ليسانس حقوق، أما الثالث فمعه بكالويوس في مجال تكنولوجيا المعلومات، والأخ الأصغر اكتفى بالمعهد الفني، أما البنات لم يكملن تعليمهن، فزوجتهن بعد المرحلة الإعدادية"، قلت لها: "ولماذا لم تهتمي بتعليم البنات؟ هل كنت تتحيزين لتعليم الولد على حساب البنت؟!"، فأجابتني مسرعة: "والله أبدا.. البنات لم ينجحن فى التعليم وعندما كن يفشلن كنت أسارع بتزويجهن بناء على رغبتهن، ولدى الآن 21 حفيدا"، فسألتها: "وهل تعرفينهم وتفرقين بينهم؟، ردت بنظرة تعجب من سؤالي: "كيف لا أفرقهم عن بعض وهم أحفادي وأعز من أولادي".


وعن معاناتها مع تحضير مستلزمات السوق اليومية تقول: "أنام كل يوم عند حلول الساعة 12.30 لأصحو 3 فجرا، أجد نفسي تلقائيا استيقظ، اعتاد جسدي على ذلك منذ 30 عاما، أبدأ بتحضير عجين الفطير والخبز، ثم أعد الكسكسي والمخروطة، لأضعهم جميعا في الفرن حتى يكتمل نضجهم، وعندما تأتى الساعة 6 صباحا أكون قد انتهيت، لأبدأ في ترتيب أغراضي حتى أحضر إلى السوق مستقلة ميكروباص من بيتي في أوسيم حتى الجيزة ".


وأثناء حوارنا قاطعنا رجل مسن ممتلئ الجسم، طلب منها قطعة خبز وعليها قطعة جبن وأعطاها جنيهين، قالت له في بادئ الأمر ممتعضة: "ما هذا! هل هذا حساب اليوم أم أمس؟!"، فابتسم لها ولم يجبها، وكأنه يطلب منها بنظرة عينيه أن تتجاوز عن الأمر، فما كان منها إلا أن أعطته وهى راضية ما أراد، والتفتت لي لتكمل حديثها، قلت لها:"هل تجرى الأمور هكذا معك؟"، أجابتني وهى ترتب بضاعتها: "هذه هي حياتنا، كلنا نعاون بعضنا البعض".


وتقول أم حسين: "في بادئ عملي كنت أتعرض كثيرا لمطاردة المرافق، وكانت تنتهي بأخذ البضاعة، أو الركض بعيدا من أجل النجاة بها وأنا وحظي، فأوقات تصيب، ومرات تخيب، وحتى الآن تطاردنا لكن إحقاقا للحق الكثير منهم يراعون مرحلتي السنية ويتركونني وشأني"، فقلت لها:"وإذا أخذوا منك البضاعة اليوم ماذا ستفعلين؟ أجابتني مبتسمة: "لن افعل شيئا، فأنا عندي الغضروف ولا أستطيع الركض كما كنت في مرحلة شبابي، ولكن هناك شباب حولي بارك الله في صحتهم يساعدونني في حمل البضائع للمخزن الذي استأجره مع 4 آخرين".


وتختتم أم حسين حديثها، رافعة يدها للسماء، شاكرة الله: "على الرغم مما عانيته من الشارع ومطاردات البلدية على مدار هذه الأعوام من شقاء، إلا أنني استطعت أن أعلم أولادى من خلال هذه المهنة وهذا يكفيني". 





أم حبيبة.. تبيع الفاكهة وتفضل "مطاردات البلدية" على خدمة البيوت 


بصوتها الأجش، الذي تتعمد اصطناعه حتى لا تبدو امرأة ناعمة وسط منافسيها من الرجال، وبجلبابها الأسود، وخصلات شعرها التي تظهر دون قصد من طرف طرحتها الحمراء، والتي تحاول أن تخفيهم بيدها من أن لأخر، تنادى أم حبيبة على بضاعتها التى تصطف حولها على الأرض فى سوق الجيزة، تتغزل في فاكهتها حتى تجذب الزبائن: " فراولة عسل، وجوافة سكر، شمام وحرنكش زي اللوز تعالوا اشتروا".


تقول صاحبة الـ32 ربيعا، ببشرتها الخمرية، وملامحها الرقيقة، إنها تأتى يوميًا من سوق كرداسة، منذ أن كان عمرها 21عاما مع والدتها التي ورثت عنها هذه المهنة، فتعلمت منها أسرارها وخباياها، لكن بعد زواجها توقفت عن العمل، طامعة في حياة هادئة ببيتها بعيدا عن معاناة الشارع من خلال 4 جدران تحميها، تحت جناح زوجها، إلا أن الرياح تأتى بما لا تشهى السفن، لم يستطع زوجها تلبية الاحتياجات اليومية، خاصة مع إنجابهما 3 بنات، فما كان منها إلا أن تعود لمزاولة عملها، معتمدة على نفسها، ليس حبا فى الشقاء، لكن محاولة أن تتجنب مد يدها إلى الغير طلبا للمال.


عبر طريق يستغرق ساعة، تستقل أم حبيبة مع والدتها ميكروباص، طريق اعتادا عليه، واعتاد عليهما، يمضى سريعا وسط أحاديثهما التى لا تنتهي، وبمجرد وصولهما إلى ميدان الجيزة، يجلسان منتظران بضاعتهما التى تأتي من سوق العبورعلى عربة نصف نقل، فعلى الرغم من ارتفاع أسعار البنزين وانعكاسه على تكلفة شراء الفواكه، والتي وصلت بتكلفة النقل اليومية للسيارة إلى 300جنيها، تصر هى ووالدتها على العمل في هذه المهنة، رغم المشقة بين مطاردات البلدية ومشاحنات السوق، فضلا عن التكاليف التي تزيد من آن لأخر، وبسؤالها عن سبب تمسكها بالمهنة، قالت: "وإذا لم نرض ماذا نفعل؟ هل نطلب المساعدة من الناس أو نعمل فى البيوت!، في النهاية نقف على بضاعتنا أفضل من التسول، أو العمل لدى الآخرين ".


وعن حياتها العائلية، تقول: "ابنتي الكبرى حصلت على الابتدائية، ثم جلست في البيت لتعاوني في قضاء لوازم البيت، والثانية في الصف السادس، أما الابنة الصغرى فهي في الصف الثالث الابتدائي"، قلت لها: "لماذا لم تهتمي بتعليم الكبرى؟"، فأجابت مسرعة: "ومن سيتكفل بمتطلبات المنزل في وقت ذهابي للسوق طوال اليوم، هي تقوم بدوري في غيابي ليس تجاه والدها من أجل إعداد الطعام فقط، لكنها تراعى أشقائها الصغار أيضا، فأنا أعمل يوميا من أجلهن، وزوجي يعمل على "توك توك" ولا تكفى الأموال احتياجات البيت ومصروفات التعليم، فأنا أريد أن أعُلم أشقائها، لأنني أرغب في تجنيبهن المصير الذي لاقيته في الشارع من شقاء وعذاب".


قاطعنا فى حوارنا رجل طويل القامة، يرتدى بدلة أنيقة، خمسيني العمر، سألها عن الأسعار على الرغم من أنها مكتوبة على اللافتات الموضوعة على كل نوع فاكهة، وأخذ يتأملها ثم مضى بعيدا ولم يشتر، فسألتها عن كيفية تصرفها مع هذه المواقف، قالت بعد أن أخذت نفسا عميقا: "ماذا سأفعل؟، هذا أقل شئ يمكن أن تريه، فهناك من يسأل كنوع من الفضول أو المعاكسة، وهناك زبائن بعد أن أزن لها الفاكهة وأضعها في أكياس، أتفاجأ بها تتركني دون أن تشترى، ولكن اعتدنا على كل هذه الأمور فالآن من نظرة أعرف الزبون الجاد الذي يريد الشراء وربما لا تعجبه الأسعار أو البضاعة، والمشاغب الذي يسأل رغبة في المعاكسة وليس هناك نية للشراء من الأساس".


وعندما جاء الحديث عن البلدية، وتعاملها معهم، قالت: "أكثر شيء كان وما يزال يؤرقني في هذه المهنة هي مطارداتهم، فعندما يأتي أفراد البلدية نحوى أركض سريعا ببضاعتي نحو المخزن الذي استأجره، وفى حال صادروا منى البضاعة أفوض أمري إلى الله، أعرف أنى لن أنجح في إعادتها، ولكن أصعب شيء يؤرقني وقتها هو ديوني للتجار عن هذه البضاعة التي اشتريها منهم بالتقسيط، فأعطيهم ما أتحصل عليه من أموال البيع، وأطلب منهم أن يصبروا على حتى أسدد لهم باقي الأموال، صحيح أنهم في بعض الأحيان يرفضون، لكن بكلمات طيبة يرأفون بحالي ويعطوني بضاعة جديدة، والحياة تمضى هكذا، ماذا سأفعل؟! ولكني في النهاية أرضى بقضاء الله". 





أم هشام.. تعمل مع عائلتها فى بيع الخضروات وترفع شعار "الشهادة مهمة لكن الصنعة أهم" 


بتجاعيد وجهها السبعيني، وطرحتها الأورجوانية، وعباءتها السوداء التي تظهر من تحت أكمامها جلباب صفراء، تجلس أم محمد على مصطبة عالية، تحيط بها أقفاص الفاصوليا والبسلة الخضراء، والكوسة والجزر والباذنجان، والفلفل، مرصوصين بشكل هندسي هرمي، بأنامل خبير في صف الخضروات بطريقة لافتة.


وعند محاولة محادثتها همست بصوت مبحوح وابتسامة رقيقة تظهر أسنانها المتطايرة، وأشارت بأصابع يديها لتعرفني على ابنتها أم هشام، التي يبدو من قسمات وجهها البشوش حالة رضا، فبعباءتها السوداء المطرزة، وطرحتها الزرقاء المزركشة، تقف على أخر الأقفاص لتساعد والدتها، فى ترتيب الخضروات بشكل يجذبك نحو الشراء.


تقول أم هشام، بجسدها المربوع، وثقتها في نفسها التى تظهر من خلال نظرات عينيها الضيقتين، ونبرات صوتها المحافظة على ثباتها الانفعالي، إنها تربت وترعرعت بالقرب من سوق الجيزة، وتعمل به منذ 20عاما، حيث اتجهت للعمل بسبب ضيق الحال، سعيا نحو مساعدة زوجها الذي يعمل "صنايعي"، إلا أن عدم وجود فرص عمل منتظمة له بأجر ثابت جعلها تتجه إلى العمل دون تردد حتى تلبى احتياجات أطفالها.


بنظرة حزن تحاول أن تخفيها بنبرات صوتها القوية، تضيف المرأة الأربعينية عن أحوالها: "لدى 5 أطفال، منهم من حالفه النجاح، ومنهم من استسلم للفشل، فابني الأكبر اكتفى بالحصول على الدبلوم، والثاني في المرحلة الإعدادية، أما الثالث فقد حصل على شهادة الابتدائية، والاثنين الأخرين لم يكملا على الإطلاق في أي مرحلة"، فقلت لها: "أنتِ لا تؤمنين بفكرة تعليمهم من الأساس؟ ردت مترددة: "كنت أضغط عليهم حتى يدرسوا لكنهما لم يحبا التعليم، فعلى الرغم من أنى مقتنعة بأن الصنعة تأتى بأموال أكثر من الشهادة، إلا أنني أعرف كثيرين حاصلين على مؤهلات عليا ولا يجدون عملا، ومن يحصلون على وظائف تكون بمرتبات ضعيفة، لكنى أعي أن الشهادة مهمة في جميع الأحوال".


وعن يومياتها مع شراء البضاعة، تقول إنها تأتى بها من شارع بمنطقة العمرانية، وعلى الرغم من ارتفاع الأسعار به، إلا أنها تصر على الشراء منه، ولا تلجأ كغيرها إلى سوق العبور، حيث أسعار الجملة التي تسمح لها بتحقيق هامش ربح، لكنها ترى أن الأمر لن يختلف كثيرا، فمَثل "ودنك منين يا جحا"، ينطبق على حالها، فما ستوفره من أسعار الجملة المخفضة ستنفقه على النقل، من وجهة نظرها، فى ظل ارتفاع تكلفة نقل البضائع ووصولها من 250إلى 300 جنيها فى اليوم الواحد، بعد أن كانت تكلفتها لا تتجاوز 100جنيه قبل ارتفاع أسعار البنزين.


وعلى بعد خطوات، أشارت لي بيدها، على بضاعة شقيقها محمد الذي لم يكن متواجدا وقت حديثنا، لكن كانت بضاعته المتمثلة في أقفاص الطماطم والبطاطس والخيار، حاضرة تنوب عنه، لم تكن مرصوصة بعناية كما كانت تفعل شقيقته مع بضاعتها، وعندما سألتها عن سبب عدم بيعها لهذه الخضروات التى يعمل بها شقيقها، قالت دون تردد: "لا أستطيع أن أتعدى على تخصص أخي فلكل منا تجارته ولا يحق لأحد أن يتجاوز هذه القواعد".


وعن تعاملاتها مع الزبائن، تقول أم هشام أنها ترى كل يوم أنماطا كثيرة، منهم من يحب "الفصال"، ولا يدفع إلا بعد نقاش، وهناك من يدفع دون أي كلام، بل هناك زبائن تزيد على ثمن البضاعة بجنيه أو اثنين، لأنهم ينظرون لها من منطق امرأة تجلس يوميا تحت الشمس، من أجل لقمة العيش، وبالتالي لا يضيرهم دفع بضع جنيهات طوعية دون أن تطلبها.


"ربنا يصلح من شأن بلدنا.. وكلنا نعرف نعيش ونتستر".. هكذا اختتمت أم هشام حديثها.

    الاكثر قراءة