الأربعاء 26 يونيو 2024

ناظم حكمت.. الشاعر الذي قضى نصف عمره في سجون الأتراك

فن13-1-2021 | 16:47

يوافق 15 يناير من كل عام، ذكرى ميلاد الشاعر والروائي والكاتب المسرحي التركي ناظم حكمت، الذي كبل الأتراك حريته، فقضى تقريبًا نصف عمره مسجونًا ومنفيًا.


وسجل الكاتب علي فائق برجاوي تجربة حكمت في السجن في كتاب بعنوان "مع ناظم حكمت في سجنه.. مذكرات لبناني زامل الشاعر في سجن البورصة".


وولد ناظم حكمت في 15 يناير من عام 1902 في سالونيك لعائلة ثرية ذات أصول رفيعة، والده السيد حكمت الذي أنشأ نقابة للصحافة وقنصلية هامبرج، أما والدته فكانت عائشة جليلة، وهي سيدة متعلمة ابنة مُعلم كبير وكانت تجيد اللغة الفرنسية وكذلك العزف على البيانو.


كتب ناظم أول قصيدة في حياته عام 1913 وكان عمره آنذاك حوالي 11 عاما، وكانت القصيدة بعنوان "صرخة وطن" وقد عرضها بمنتهى الشجاعة والبراعة على ناظر المدرسة البحرية جمال باشا أثناء اجتماع عائلي.


قرر آنذاك جمال باشا أن يستقبل الطفل ناظم في المدرسة البحرية وبالفعل التحق  بمدرسة البحرية في 25 سبتمبر 1915 في هيبيليا وتخرج منها في عام 1918 وكان ترتيبه الثامن من بين 26 طالبا، ويتضح من خلال تقديرات التقرير الدراسي أنه كان طالبا ذكى ومجتهد. 


بعد تخرج ناظم حكمت من البحرية  عمل كضابط تحت التدريب على متن سفينة الحامدية، وهي سفينة تابعة لمدرسة البحرية، وقد كانت آخر علاقة له بالجيش في 17 مايو 1921 بسبب وجود حالات هروب كثيرة. 


وفي العام 1920، قرر ناظم السفر إلى الأناضول دون أن يخبر عائلته؛ من أجل المشاركة في النضال الوطنى مع صديقه أحمد فالا نور الدين وهناك قد عمل بالتدريس في مدينة بولو. 


ذهب ناظم حكمت من أطومى إلى موسكو، ودرس علم الاقتصاد والعلوم السياسية بالجامعة الشيوعية لكادحي الشرق، وقد تعرف ناظم حكمت على مبادئ الشيوعية وأصبح شاهدا على السنوات الأولى لبداية عهدها في موسكو التي رحل إليها في عام 1921. 


وفي عام 1924، أصدر ناظم حكمت أول ديوان شعري له وقد نشره في موسكو، ثم عاد إلى تركيا في نفس العام وبدأ يعمل في مجلة باسم "التنوير" ولكن بسبب قصائده الشعرية والمقالات التي كتبها بالمجلة صدر ضده حكم بالسجن لمدة خمسة عشر عاما ذهب مره أخرى إلى الاتحاد السوفيتى وعاد الي تركيا في عام 1928 مستفيداً من قانون العفو. 


وبدأ ناظم بعد ذلك العمل في جريدة "القمر الساطع" لكن بعد ذلك في عام 1938 عوقب بالسجن لمدة ثمانية وعشرين عاما؛ بسبب أشعاره وكتاباته أيضاً التي كان يهاجم فيها تركيا والإقطاع وكان ثائراً حراً يناضل دائماً حتى موته.


في عام 1950، خرج ناظم من سجنه بقانون العفو مرة أخرى، وفي ذلك الوقت كان يبلغ من العمر ثمانية وأربعين عاماً، وتم استدعاءه في الجيش، لم يوافق ناظم على استدعاء الجيش بسبب إحساسه أنه سيُقتل، فهرب خارج البلاد، الأمر الذي دفع  مجلس الوزراء بإصدار قرارا في 17 يونيو عام 1951 بنفيه من البلاد، فعاش ناظم حكمت مع زوجته فيرا تولياكوفا في موسكو بالإتحاد السوفيتى. 


وخلال السنوات التي قضاها خارج البلاد، تجول ناظم حكمت في كثير من دول العالم، مثل: بلغاريا، المجر، فرنسا ومصر إلى جانب أنه شارك في أعمال ضد الحرب والإستعمار فقام بعمل برامج تسجيلية في الراديو.


جرب ناظم في شعره كل الأشكال الممكنة، الحديث منها والموروث وغذى تجربته بكل الثقافات من حوله خاصة أنه له علاقات شخصية مع أبرز الشخصيات الأدبية الروسية، الأروبية، الأمريكية وحتى العربية.

 

ولناظم حكمت بصمته في الشعر العربي، إذ نجد أصداء من طريقته الشعرية في أثر العديد من الشعراء كعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري ونزار قباني، والعديد من شعراء العامية، حيث تقتحم الأشياء البسيطة فخامة العالم الشعري وتعطيه أبعادا أخرى لم تكن بارزة من قبل.


ويقول حنا مينا في كتابه "قضايا أدبية وفكرية": "أجمع النقاد الأتراك على أنه كان، منذ البدء، مجددا، ويجمع الشكل الشعري وحده، بل في المضمون، واللغة والنظرة إلى الكون، وزوايا النظرة نفسها وقد كتب الناقد التركي فروزان خسرونكيه يقول: "ناظم حكمت أول من حطم ناب الفيل في شعرنا.. لقد أتي بشعر ذي مفاهيم حية، عطرة، مقابل ذلك الشعر الذاتي الفردي وقد دبت الحياة في اللغة التركية على يدیه، فانبعثت وتطورت ونبضت فيها الرجولة، وأتت بصوت يحق لجيل الشباب أن يقول إنه لي".


وقال عنه صدر الدین ارتام: "وجد ناظم حكمت قناعته في المادية الديالكتيكية التي وضعت الحركة إزاء مبدأ السكون".


أما أمين يالمن، فقال: " ناظم حكمت ابن نادر المثال لهذه الأمة التي كان أحسن من نطق بلسانها، وأحس بعذابها من أعمق أعماقه إنه شديد الإعجاب بتراثها الثقافي الذي يملك خبرة واسعة فيه، ومثله تملأ خياله وقلبه معا، وهي تتحرك باتجاه تخليص الإنسان من ظلم الإنسان ومن البؤس والعبودية" .



والواقع أن ناظم حكمت لم يحطم ناب الفيل في الشعر التركي وحده. لنقل باطمئنان أنه ساهم مع مایاكوفسكي ولوركا ونيرودا وغيرهم، في تحطيم نيوب فيلة الشعر وقيمهم العدمية الأصلية، إن الثورة الاجتماعية لقرننا، على الصعيد السياسي كان لابد لها من ثورة على الصعيد الفني، وقد نهض لهذه المهمة، في نطاق الشعر، ماياكوفسكي، وحملها لوركا وناظم، الشعراء هذا القرن أن يجدوا أنفسهم وأصالة قيمهم، بعد قرنين من ضياع أبرز الشعراء، وأكثرهم طنينا. 


ومن متابعة الخط الحياتي لناظم حكمت، نجد الشعرية على نحو عميق ونادر، فخلال حرب التحرير بقيادة أتاتورك، عبر إلى الأناضول واشترك في القتال الدائر هناك، واتصل بأتاتورك الذي قدّر موهبته الشعرية"، وساعد في إیفاده إلى الاتحاد السوفييتي لدراسة الاقتصاد السياسي.

 وقد عمل ناظم حتى عام 1936 في الصحف والمطابع والاستديوهات، وأصدر خلال هذه الفترة ما يقرب من عشرة دواوين وثلاث مسرحيات، ونشر كثيرا من الأشعار الساخرة وقاد حملة ضد أصنام الشعر وكان يكتب باسم مستعار هو "أورخان سلیم"  ويعمل لأجل تركيا جديدة، متحررة، متقدمة، اشتراكية، ويكرس وقته وطاقاته للتبشير بآرائه، وفضح الفاشية التي يتصاعد خطرها، الأمر الذي أحقد الرجعية التركية عليه، وهي تعد نفسها لزواج متعة مع النازية الألمانية، فأوقفت ناظم وألقت به في سجن بروصه بتهمة نشر المبادئ الهدامة في صفوف الجيش.


ويقول جلال الشايب في كتابه عناق على كوبري قصر النيل كان ناظم حکمت عميق الحب للإنسانية، يسعى لتغيير أوضاع الناس المأساوية في وطنـه وفي العالم، ويناضل ضد الاستعمار والاستغلال والاستبداد، وكل أنواع الشقاء التي تسلب إنسانية الإنسان وتهدر حريته وكرامته وتبقیه فقيرا جاهلا متخلفا. وكان ناظم حکمت يحب المرأة كما یحب معركته، وعنها کتب أروع قصائده. 

على أن ناظم حکمت كان يريدها رفيقة درب وزميلة نضال، لا أن تستسلم لحياة الکسل والخمول. وكان شعر ناظم حكمت في المرأة يتجلي بقوة عندما يتناول زوجته منور، التي قال عنهـا إنه التقاها يوما على ضفاف البوسفور فكانت قوية کالحدید، ناعمة كالحرير، وكانت جميلة، وستبقی جميلة حتى حين تصبـح جدة، ستظل کضوء القمر، ضوء النهار، وثمرة الخـوخ قبيل نضجها، بل أجمل ما تكون المرأة في دنيانا.


وكان ناظم حکمت يحب منـور حبا لا عهد لزوج بمثله، ويحترمها غاية الاحـترام، وكان يراسلها من سجنه، وتعد رسائله إليها من أجمل وأرق الرسائل في الأدب التركى، وقد كتبها ناظم متفائلة مقبلة على الحياة، عاشقة لها. 


وفي كتاب أدب القفز بالمظلات، قال معين بسيسو، أن ناظم حكمت لم يمت سجينا في وطنه، فلقد تظاهر العالم من أجله عـام 1952 ، حتى أطلق سراحه. ولم يمـت ناظم حکمت إمبراطورا في المنفى.. فلقد مات وهو يمشي، كان الرجل الذي يحمل صخرة عذاب الإنسان فوق كتفيه، لم يكن ناظم حکمت مانیکانا، يعرض أزياء العذاب الحديثة، سواء كان عذابا طويلا أو عذابا قصيرا من طراز الميكرو أو الميني، لم يكن ناظم حكمت شاعرا قومسيونجيا« يتعاطی 5%  أو 10% على كل قطعة عذاب من أرض الوطن تستحيل إلى قصيدة وتباع في أسواق النشر كلما كانت هنالك مناسبة لكي يتحول العذاب إلى سلعة. 


كان ناظم حكمت شاعرا مقاتلا، وفي عام 1953، وحينما كانت الكعب الحديدية لعبادة الفرد أو الستالينية لا تزال تدق بلاط

شوارع موسكو. . كانت هناك مسرحية لناظم حكمت تعرض في مسرح لين نجراد.. وكان أحد الكتاب الكومیديين السوفييت واسمه زوتشينكو، يعاني قسـوة البيروقراطية، ومعزولا في حجرته بعيدا عن الحياة الفنية. وأصر الشاعر المقاتل أن يكون الكاتب السوفييتي هو ضيف الشرف في حفل افتتاح مسـرحيته وظهر زوتشينكو لأول مرة بعد غيبة طويلة.


من أهم أعمال ناظم حكمت، دواوين الشعر، عدل رسائل إلى ترانتا، ملحمة الشيخ بدر الدين، مناظر طبيعية وإنسانية من بلدي وملحمة حرب الاستقلال. 


ومن المسرحيات، الجمجمة عام  1932، الرجل المنسي 1935، فرهاد وشيرين أو حكاية حب أو أسطورة حب 1965. ومن الروايات، إنه لشيء عظيم أن تكون على قيد الحياة.


وفي الثالث من يونيو لعام 1963  تقدم ناظم حكمت نحو بوابة الشقة في الطابق الثاني من أجل اخذ الجريدة ولكنه توفي نتيجه أزمه قلبيه مفاجأة، وحضر جنازته العديد من الناس معظمهم فنانين وثوار وكتاب وقد دفن في موسكو.

مات ناظم حكمت بعدما قضى نصف عمره في السجون بسبب نضاله وبعدما أدخل الشعر والأدب في مرحلة جديدة تماما، والتي لم تكن موجودة آنذاك، مات فأصبحت روحه حره للأبد وأعماله باقية.