الجمعة 24 مايو 2024

١٥٠ عاما على ميلاده طلعت حرب.. راجـــــع

3-5-2017 | 13:15

بقلم – محمد حبيب

أتمنى ألا تمر ذكرى مرور ١٥٠ عاما على ميلاد طلعت باشا حرب والتى تحل بعد شهور قليلة، مثلما مرت ذكرى رحيله الخامسة والسبعون فى العام الماضى، فلم يشعر بها أحد، ولم تتذكره الحكومة ولا وزارة الثقافة ولا أى جهة فى الدولة اهتمت بإحياء ذكرى هذا الرجل العظيم الذى يعد «أبو الاقتصاد المصرى».

ليت الحكومة تتواصل مع مجموعة من المصريين فى الخارج يعدون حاليا مؤتمرًا للاحتفال بالذكرى ١٥٠ لميلاد طلعت حرب، وأن يكون هذا المؤتمر تحت رعاية رئيس الوزراء، بل ما الذى يمنع أن تكون تلك المناسبة برعاية الرئيس عبدالفتاح السيسى، وذلك لإحياء فكر طلعت حرب وتجربته العظيمة فى تحرير الاقتصاد المصرى من التبعية الأجنبية، وإقامة أكبر مشروع اقتصادى وطنى، وإنشاء مجموعة من الشركات العملاقة التى ساهمت فى إحداث نهضة اقتصادية شاملة فى البلاد.

ما أحوجنا إلى إحياء فكر طلعت حرب وتجربته لا سيما فى ظل الاحتكارات الاقتصادية التى طالت كل مناحى الحياة فى مصر، وكأن التاريخ يعيد نفسه، حيث يشهد الاقتصاد المصرى خللًا جوهريًا فى بنيته، ويسيطر على معظمه جوقة من البارونات ورجال الأعمال بينما نحو ٨٠٪ من المجتمع تحت خط الفقر أو على حدوده.

نحن فى حاجة إلى طلعت حرب جديد يعيد الاعتبار إلى مفهوم الصناعة، وإنشاء المصانع وزيادة الانتاج الصناعى، والاعتماد على الذات بدلا من الإسراف فى الاقتراض، وتعظيم الاستفادة من مواردنا المتعددة، وإحياء الشركات الوطنية التى أسسها طلعت حرب منها شركات حليج الأقطان، والغزل والنسيج، والكتان، وبيع المصنوعات المصرية، والجلود والدباغة، والمناجم والمحاجر، ومصانع الورق، وصناعة وتكرير البترول، ومصر للسياحة، إضافة إلى شركة للمستحضرات الطبية والتجميل، والأسماك.

نحتاج لشخصية اقتصادية لديها رؤية شاملة ومتكاملة للأوضاع الاقتصادية وآليات الخروج منها، مثلما فعل طلعت حرب الذى قام بدراسة متكاملة للأوضاع الاقتصادية السائدة فى عصره وآليات الخروج منها والتى وضعها فى كتابه (علاج مصر الاقتصادى الصادر عام١٩١٣).

كان طلعت حرب شديد العداء للهيمنة الاقتصادية الأجنبية، فرأى مساوئ احتكار الأجانب للصناعة والاقتصاد المصرى، وعمل على تحرير الاقتصاد المصرى من التبعية الأجنبية، عمل باخلاص من أجل الوطن فنجح.

كان صامدا فى وجه الأجانب ومدافعا شرسا عن مصالح وطنه، فعندما حاولت الشركة المالكة لقناة السويس تقديم مقترح لمد امتياز الشركة ٤٠ عاما أخرى، تصدى طلعت حرب لذلك وساهم فى حشد الرأى العام لرفض ومعارضة هذا المقترح، وأصدر كتاب «قناة السويس» عام ١٩١٠ هاجم فيه محاولات مد امتياز قناة السويس لمدة أربعين سنة أخرى لشركة قناة السويس المملوكة للأجانب، ونجحت هذه الحملة لاحقًا بعد قيام مجلس النواب برفض هذا المقترح، وعندما كان طلعت حرب يعمل مديرًا للشركة العقارية المصرية أوائل القرن الماضى، عمل على تمصيرها حتى أصبحت غالبية أسهمها للمصريين.

آمن طلعت حرب بقدرة ومقدرات هذا الوطن فذهب إلى تأسيس بنك مصر عام ١٩٢٠، وجعل من هذا البنك منصة إلى تغيير الواقع، فأسس الشركات والمصانع والمنشآت التى غيرت الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والرياضية للمصريين.

أنهى مقولة الاستعمار والتى كانت تتردد فى ذلك الوقت «المصرى لايعرف إلا الاستدانة» حيث استطاع بنك مصر تحفيز الادخار لدى كل المصريين حتى الأطفال بعد أن وزع البنك حصالات على تلاميذ المدارس الابتدائية ثم يأخذ مافيها ويفتح للأطفال دفاتر توفير بالبنك.

إن من أهم الدروس المستفادة من تجربة طلعت حرب هو النجاح فى ربط القطاع المصرفى بالقطاع الصناعى، الأمر الذى تسبب فى زيادة معدل سرعة عجلة الإنتاج، بالإضافة إلى رفع الناتج المحلى، بما سمح باستقلالية القرار المصرى، إلى أن وصل إلى تحقيق نسبة كبيرة من الاكتفاء الذاتى بالنسبة إلى جزء كبير من الاستهلاك المحلى، فالشعب المصرى تكاتف مع طلعت حرب والتف حوله ونجحوا فى تأسيس «بنك مصر»، برأس مال وطنى خالص وخبرة وطنية خالصة، لكسر احتكار الأجانب للبنوك ولتوجيه الاستثمارات فى مشاريع تستفيد منها مصر.

كما اهتم طلعت حرب بتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وهو ما يسعى بنك مصر حاليا للعودة لمبادئ مؤسسه، ففى محطات المترو وعلى الكبارى لافتات مكتوب عليها «طلعت حرب راجع»، ويعود الشعار الذى حير الكثيرين إلى الحملة الجديدة التى أطلقها بنك مصر، وتحاول إعادة البنك لنهج طلعت حرب، بزيادة تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة لدعم الدولة وتحقيق الشمول المالى.

عظمة طلعت حرب فى إثبات قدرة المصريين على الادخار والعمل، ورفض حرب التمويل التى كانت تتعرض لها مصر، وكان يشير إليها باعتبارها غير أخلاقية بالنسبة للبعد الاجتماعى للتنمية الاقتصادية، ويرى المستشرق الفرنسى جاك بيرك، أن أهم إنجاز حققه طلعت حرب يتمثل فى إدراك القوة الهائلة التى يمتلكها الشعب، والتى تجلت فى مساهمة المصريين فى حملة جمع الأموال التى قام بها بنك مصر خلال الحرب العالمية الأولى، وهو ما كان له الأثر الأكبر فى تنمية الودائع وتحقيق أرباح استثمرها البنك فى تأسيس أكثر من ٢٠ شركة مصرية فى مختلف المجالات.

لم تقتصر وجهة نظر «حرب»، على العمل فى الداخل فحسب بل كان يتطلع لقيام بنك مصر بدور أكبر فى الأقطار العربية، وفتح مجالات أخرى لنشر فكرة البنك ومزيد من التعاون المشترك، وتمتعت مشاريع وإنجازات طلعت حرب مع بنك مصر بصيت واسع فى العديد من الدول المجاورة، خاصة أنها كانت تعانى من هيمنة الاقتصاد الأجنبى عليها وعدم وجود أنظمة مالية وطنية.

لم يهتم طلعت حرب فقط ببناء الاقتصاد وتحقيق التنمية، إنما حرص على الاهتمام بإحياء الثقافة المصرية.. باعتبارها قوة مصر الناعمة، وذلك حينما أنشأ طلعت حرب شركة مصر لصناعة السينما، وستوديو مصر، ومطبعة مصر والتى كانت أول مشروع يموله بنك مصر.

نحتاج إلى نموذج طلعت حرب الذى لم يسع إلى المال والشهرة، وإنما كان يحمل على عاتقه خدمة اقتصاد البلاد فى المرحلة الصعبة التى عاصرها، وحرص على السير بشكل متواصل على تنمية القطاعين الصناعى والزراعى سويًا، وعندما تعرض بنك مصر لأزمة مالية كبيرة عام ١٩٣٩عقب اندفاع المودعين لسحب ودائعهم من البنك، بعد قيام الحرب العالمية الثانية، فلم يستطع البنك الوفاء بكل طلبات السحب، ورفض البنك الأهلى منحه قروضا بضمان محفظة الأوراق المالية، وعندما لجأ طلعت حرب لوزير المالية اشترط وقتها أن يترك منصبه لعلاج الأزمة، وقدم استقالته من البنك عام ١٩٣٩، وقال ليرحل طلعت حرب ويبقى بنك مصر.

طلعت حرب كان فريدا فى صفاته التى جمعت بين العلم والفكر والموهبة والإرادة والأدب، مما جعلته فى طليعة الرواد الذين صنعوا تاريخ مصر وستظل بصماتهم مضيئة على مر العصور.. ما أحوجنا للسير على طريقه والاقتداء به، فما أشبه الليلة بالبارحة.