بقلم – يوسف القعيد
٢٧ ساعة قضاها البابا فرنسيس بابا الكرسى الرسولى بروما فى زيارته التاريخية للقاهرة، التقى خلالها بالرئيس عبد الفتاح السيسى، والدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر، وحضر جلسات مؤتمر الأزهر، ثم زار الكاتدرائية فى العباسية والتقى الأنبا تواضروس. كانت الزيارة قصيرة ومكثفة. لكنها عميقة الدلالة، خطيرة النتائج، خصوصًا بعد الأحداث التى مرت بمصر.
أهمية زيارة بابا الفاتيكان، أنها تتم لمصر بعد أحداثٍ مر بها المسيحيون المصريون، جاءت وراء بعضها، وحاول من قاموا بها إعطاء انطباع باضطهاد المسيحيين فى مصر. وأنهم ضحايا الصراع بين قوى الشر والظلام، وبين الدولة المصرية الراهنة وحكمها.
جاء بعد الهجمات المتكررة على المسيحيين فى سيناء. مما دفع الدولة مُكرهة إلى تهجيرها المؤقت والعابر للإخوة المسيحيين الذين يعيشون فى سيناء بعيدًا عن أماكن الخطر. وتولت الدولة المصرية كل ملابسات تجهيرهم واستقبلتهم فى أماكنهم الجديدة العابرة. وقدمت لهم أقصى ما يمكن تقديمه. ولم تكن المرة الأولى التى يتم التهجير فيها لمصريين من سيناء. فبعد الخامس من يونيو ١٩٦٧ تم تهجير كل سكان مدن القناة، حتى تتمكن القوات المسلحة من تنفيذ برنامجها الطموح ومشروعها التاريخى للتحرير الكامل لسيناء. وهو ما تم فى السادس من أكتوبر ١٩٧٣.
بعد التهجير وبمجرد الإعلان عن زيارة البابا لمصر، حتى قام الظلاميون والهمجيون والبربريون بتنفيذ تفجيرين فى مناسبة دينية للإخوة والأشقاء المسيحيين، الأول فى طنطا، والثانى فى الإسكندرية. وكان الهدف الجوهرى هو حادث الإسكندرية. لأن الأنبا تواضروس كان موجودًا فى قلب الكنيسة التى حاولوا تفجيرها. لكن يقظة الأمن المصرى حالت دون دخول المتطرف للكنيسة. ففجر نفسه على بابها ونجا من كانوا يصلون بالداخل. والأهم نجا الأنبا تواضرس من استهدافه.
لم تكن طنطا الهدف. لكن قاموا بحادثها ليشغلوا الأذهان عن الإسكندرية. وما يمكن أن يحدث فيها. لكن لمصر رب يحميها، وهكذا تمكن البواسل من رجال القوات المسلحة المصرية والأمن المصرى من إفساد خطتهم. ونجت مصر مما كان يراد بها من وراء الحادثين الإرهابيين.
وقتها سئل بابا الكرسى الرسولى فى روما: هل ما زال مصرًا على زيارته لمصر؟ فكان رده شديد الوضوح: سأذهب إلى مصر مهما كانت الظروف. وعندما استنكر الصحفيون رده وحاولوا إحاطته علمًا بما يجرى فى مصر. كان كلامه حاسمًا لا يقبل الجدل ولا التأويل ولا الشروح والتأويلات. قال يومها:
- لقد ذهبت إلى الموصل بالعراق، وهى تتعرض للقصف بالقنابل. وتعيش حالة حرب حقيقية. فكيف لا أذهب لمصر؟ وهى مصر، التى يجب أن تبقى مصر وتظل مصر.
أهمية زيارة بابا الكرسى الرسولى لمصر لا توصف بالكلمات. وأنا لا أحب أن نبدو أمام العالم شعبًا انتهازيًا يحاول جنى ثمار الزيارة قبل أن تنتهى. لكن أهمية الزيارة أن الأب الروحى لعدد غير عادى من سكان العالم، والمسئول الدينى عن تيار هو الأول بين المسيحيين فى العالم كله، عندما يأتى لمصر ويقضى فيها ٢٧ ساعة، ويعود إلى بلاده سالمًا. فإن هذا أكبر عنوان على أن مصر يمكن أن تكون مرة أخرى بلد الأمن والأمان.
حضرت مناسبتين للبابًا خلال وجوده فى مصر. الأولى فى فندق الماسة بمدينة نصر. الذى وصفه الإعلام المرئى والمسموع بأنه أحد فنادق مدينة نصر. وفى الحقيقة فهو فندق من فنادق القوات المسلحة. فكَّر فيه وبناه اللواء محمد أمين، المسئول المالى فى القوات المسلحة المصرية. بل ونقل مكتبه من رابعة العدوية مؤخرًا إليه.
والمناسبة الثانية كانت القداس الذى أقامه فى نادى ٣٠ يونيو بالطريق الموصل بين مدينة نصر والتجمع الخامس. الذى نسميه شعبيًا استاد الدفاع الجوى. وهو الكائن قبل مسجد المشير طنطاوى مباشرة. حيث حضر أكثر من ٢٥ ألف مصرى من المسيحيين والمسلمين، وحضروا قداسًا كان على الهواء مباشرة. أقامه بابا الكرسى الرسولى فى مصر المحروسة.
فى كلمته بفندق الماسة التى ألقاها بعد كلمة ألقاها الرئيس عبد الفتاح السيسى، كان الرجل حريصًا على مجاملة أهل مصر بأكثر مما تصورت. فقد نطق بكلمات باللغة العربية، عندما قال تحيا مصر. وعندما قال أنكم تقولون عن مصر أم الدنيا. وأنا أيضًا قبلكم أنها أم الدنيا.
وعندما تكلم عن رحلة العائلة المقدسة فى مصر. وهى الرحلة التى لولاها ما كانت المسيحية أصلًا، وما اكتملت الرسالة. وقد قلت لبعض المنظمين للرحلة ليت البابا قام برحلة العائلة المقدسة من وسط سيناء إلى آخر مكان وصلت إليه بعد أسيوط فى الصعيد. قيل لى إن وقته لا يمكن أن يسمح بمثل هذه الرحلة. لكنه تمثلها وعاشها وتكلم عنها فى كلمته أمامنا.
كان من المفترض أن يصل البابا إلى مطار القاهرة الدولى فى الواحدة من ظهر الجمعة. ولأن الذين نظموا الرحلة من العاملين فى الكرسى الرسولى فى روما، أدركوا أن هذا الوقت هو وقت إقامة صلاة الجمعة فى القاهرة. فقد جرى تأخير وصوله إلى القاهرة – بقرار منهم – إلى الثالثة بعد الظهر. حتى يصل فى وقت مناسب لاستقباله فيه.
وهكذا تناول البابا فرنسيس طعام الغداء على الطائرة. ونزل إلى مطار القاهرة ليجد المهندس شريف إسماعيل، رئيس مجلس الوزراء فى استقباله فى المطار، ثم اصطحبه إلى قصر الاتحادية ليكون الرئيس عبد الفتاح السيسى فى استقباله، ويتم عمل استقبال رسمى له فى الاتحادية، لينطلق لباقى برنامجه فى زيارته التاريخية لمصر.
رأيته فى فندق الماسة. وما كان الرجل متعبًا، رغم تكثيف وتركيز برنامجه فى مصر بصورة غير مسبوقة. فعندما خرج من الاتحادية توجه إلى مشيخة الأزهر. واستقبله الدكتور أحمد الطيب فى أول زيارة للبابا إلى مشيخة الأزهر. وبعد الاستقبال مباشرة جرت جلسة مباحثات بين الجانبين، تناول فيها سبل تحقيق السلم والتصدى للتطرف واستعراض مجمل المتغيرات، وبحث سبل تعزيز دور المؤسسات الدينية وفى مقدمتها الأزهر والفاتيكان لنشر قيم الأمن والسلام وقبول الآخر والعيش المشترك. وأهمية زيارته للأزهر الشريف أن أكبر قيادتين روحيتين فى العالم التقيا فى مكان واحد. ولم يكن اللقاء الأول بينهما. ولكنه الأهم لأنها المرة الأولى التى يذهب بابا الكرسى الرسولى فى مصر إلى مشيخة الأزهر الشريف.
ثم توجه البابا إلى فندق الماسة ليكون الرئيس عبد الفتاح السيسى فى استقباله، وسط عدد من المدعوين المصريين. كان من بينهم مائة نائب من أعضاء مجلس النواب. وقد لاحظت على كلمة ضيف مصر أنها عكست قراءة دقيقة لواقع مصر وتاريخ مصر. وقال مخاطبًا الرئيس عبد الفتاح السيسى: سيدى الرئيس، لقد قلت لى قبل بضع دقائق خلت إن الله هو إله الحرية، وهذا صحيح. علينا أن ندحض الأفكار القاتلة والأيديولوجيات المتطرفة، مؤكدين أنه لا يمكن الجمع بين الإيمان الحقيقى والعنف: بين الله وأفعال الموت.
لكن التاريخ خلافًا لذلك يكرم بناة السلام الذين يناضلون من أجل عالم أفضل بشجاعة وبدون عنف وتلا النص المقدس:
- طوبى لصانعى السلام لأنهم أبناء الله يدعونا.
وقال فى زمن يوسف أنقذت مصر شعوب العالم الأخرى من المجاعة، إنها مدعوة اليوم لأن تنقذ هذه المنطقة العزيزة من مجاعة المحبة والأخوة. مدعوة لإدانة وهزيمة أى عنف وأى إرهاب، إنها مدعوة لتقديم قمح السلام لجميع القلوب الجائعة. لتعايش سلمى، لعمل كريم، ولتعليم إنسانى. إن مصر التى فى ذات الوقت بيد تبنى السلام، وبالأخرى تحارب الإرهاب مدعوة لإثبات أن الدين لله والوطن للجميع.
صحيح أنه نسب عبارة:
- الدين لله والوطن للجميع. لثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، فى حين أنها كانت شعارا من شعارات ثورة ١٩١٩، وهو خطأ غير مقصود، ومن حق من كتبوا الخطبة أن يتنبهوا له، وهو خطأ أسعدنى على المستوى الشخصى. قال عن مصر من الدول الكبرى لا يجب أن نتوقع القليل. وتمنى لمصر أن تخرج من ليل المحنة الطويل لمستقبل أكثر إشراقًا.
المهم أن هذه الزيارة تمت فى ذكرى مرور ٧٠ سنة على العلاقات بين مصر والكرسى الرسولى. وكانت مصر أول دولة عربية تقيم علاقات بالكرسى الرسولى فى روما. كانت سبَّاقة للجميع، وتبعها الآخرون. وتمت أيضًا فى أعقاب احتفالات تحرير سيناء. وهى احتفالات مهمة للغاية. وقبل الاحتفال بعيد العمال. وهم من بناة مصر الحقيقية.
فى كلمته فى استاد ٣٠/٦، شكر البابا الشعب المصرى والجيش المصرى والأمن المصرى والإعلام المصرى على هذه الزيارة العظيمة، ومن حقى أن أشير إلى أحد الجنود المجهولين الذين وقفوا وراء نجاح هذه الزيارة، إنه اللواء محسن عبد النبى، مدير إدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة، الذى تولى تنظيم قداس استاذ ٣٠/٦ بكل تفاصيله الصغيرة. وقبله لا بد من تحية رئاسة الجمهورية، وقوات مصر المسلحة، وأمن مصر، والقوات الخاصة، التى أمنت كل شبر توجه إليه البابا خلال وجوده فى مصر. وحولت وجوده فى مصر لرحلة محبة وأمن وسلام.
وعندما كنا فى فندق الماسة سمعت حسين زين، رئيس الهيئة الوطنية للإعلام، والقائم بكل أعمال الإعلام المصرى الآن، يقول للواء عباس كامل – وهو من هو – الذى كان يحاول الاطمئنان على الموقف الإعلامى إن التنسيق كامل بينه وبين اللواء محسن عبد النبى، وبفضل هذا التنسيق. فإن التليفزيون المصرى حقق – لأول مرة – العرض الحصرى والتناول الإعلامى الحصرى لزيارة بابا الكرسى الرسولى لمصر. وقد تم الأمر بنجاح، عكس ما كان يحدث من قبل.