ها هى الحياة تعود من
جديد بعد صراع مرير فى طريق مصيره المُدلهم. خرج مرة أخرى للحياة فتيًا قويًا
بعدما أفلت من خندق الموت المُحَقق. خمس سنوات مضت، قاسى فيها مرارة الترحال، تنقل
فى العراق من بيت إلى بيت، طَرَق دروب جبال الشام متخفيًا، يسقط ريقه بحلقه علقمًا
مع كل خطوة فى شوارعها المطفأة، حيث أطلال المجد الأموى البائد، ثم المروق إلى وادى
مصر الخصيب والإيغال فى صحاريها.
وأخيرًا شَاطئ بَرقة
الساحر يهيم تحت قبة سمائها الزرقاء ليتعانقا بالأفق فى عظمة كونية مَهِّيبة، خط
الرمال الناعمة ينبسط على المدى زعفرانًا ذَهبيًا، انجاب الحَر والغُبار والكَدر،
آنَ للذهن أن يصفو وحان وقت ترتيب الأفكار.
كان من الحكمة الاختباء من بَصَّاصَّةِ
العباسيين والخوارج، والمكوث هنا حتى تخفت جذوة الملاحقات؛ فمن معقله الرهيب فى بغداد
يطبق أبو جعفر المنصور العباسى قبضته على الشرق كله، ومن وراء النهر يؤازه ويشد
عضده "أبو مسلم الخراساني" بجبروته وسطوته. ضاقت عليه أرض الشرق بما
رحبت له فى الأيام الخالية؛ ومن على الشاطئ تعهد المغيب بناظريه ميَّممًا وجهه
تجاه الغرب.. صوب الأندلس. أتشرق هناك الشمس من جديد؟ أمِنَ الممكن تحقق نبؤة عمى القائد
الصنديد فارس بنى مروان "مسلمة بن عبد الملك"؟ بلى.. يتذكره حين دخل على
جَده هشام بن عبد الملك بعد عودته من إحدى غزوات الشمال والقوقاز فى دار الإمارة
بدمشق مَكدورًا يعيد عليه نبؤته: سيزول مُلكنا ومُلك بنى أمية فى الشرق كله..
ويقوم بعدها فى الغرب من جديد.
كلمات جَده فى فراش موته
تتردد فى سامعيه، محفورة أحرفها فى رأسه، حين اَدنى منه وقال له بصوتٍ واهن قبل أن
يُقبض: لقد وطأت لكَ الأندلس يا أبا المُطَرف.. قد صحت أحوالها أخيرًا.. اسأل
الله ألا تتحقق نبؤة مسلمة ويدوم ملكنا فى المشرق والمغرب.. وأما إن صَحَّت فبعض
العزاء فيما انبأت عنك تجدد ملكنا فى الأندلس.. عندئذٍ اذكر جِدَكَ هِشامًا..
قلبه يحدثه بالسلطان
وتتخايل لعينيه أرض الأندلس السنجابية، اختمرت فى رأسه الفكرة، اَيَّده العزم
وصَدَّق الوَعد. كبُر عليه أن يلج عبد الرحمن بن حبيب الفهرى إرثُ بنى أمية وهو
حيًا يرزق، وقد انتزى بن الفهرى بحكم الأندلس لنفسه إثر سقوط الخلافة الأموية بعد
أن كان من عُمالها هناك ؛ للأمويين إرث محبة وعرفان بكل قُطر وفضل بكل بلدة، توخى الحكمة
والحذر: راسل كل محبيهم فى الأندلس ومن قبلهم تواصل بموالى بنى أمية وشيخهم
أبوعثمان بفكرته ونيته فى استعادة مُلك بنى أمية فى الأندلس.
وبعد أيامٍ يأتيه وافد
البشر بلسان رسول خشع فى حضرته وقال له: إن الوضع أصبح جاهزًا لاستقبالك هناك يا
مولاي.
فسأله عليه عبد الرحمن
وقال: ما اسمك وما كنيتك؟
- إسمى تمام وكنيتى أبو
غالب.
قال له وقد هش وأشرق وجهه
بسنا السرور :
- الآن تم أمرنا وغلبنا
بحول الله تعالى وقوته.
بقلب واعد ويد طامحة
تسابق الزمن، راح يجهز العدة ليركب البحر بسفينته موليًا وجهه شطر الأندلس.