تنشر "الهلال اليوم"، الفصل التاسع من رواية "بورتوسعيد" للكاتب الروائي الدكتور سامح الجباس، والصادرة عن دار "شرقيات" للنشر والتوزيع، وجاء الفصل بعنوان "شارع المقدس".
شارع الـــمــــقدس
" أشرقت انوار الحضرة الخديوية فى سماء العاصمة فى 20 الشهر الماضى عائداً من مصيفه فى الاسكندرية و كان لقدوم سموه احتفال شائق سطعت فيه الأنوار وسائر انواع الزينات فى الشوارع و الحدائق و المنازل مما يدل على ترحيب أهل العاصمة بقدوم أميرهم ووليهم
أدام الله تعالى سموه بالعز و الاقبال .. "
( الهلال – العدد الثالث – نوفمبر 1892 – السنة الأولى )
احفظ ماسأقوله لك يا ولدى وإلا ضعت.
سأوصلك الآن إلى موقف البيجو، سأركبّك السيارة الطالعة إلى المنصورة، لا تخف من السفر وحدك. أنت الآن عندك أربعة عشر عاماً. سأُجلسك فى الكرسى الأمامى. ستجد تحت قدميك لفافة كبيرة داخل كيس بلاستيكى أسود. لا تتذمر وحذار أن تبدو مرتبكاً والسيارة داخلة على الجمرك, انهم دستتين أى شيىء. جينسات أو قمصان نوم أو عباءات أو قمصان أو قماش, هى تبع السائق فلا تُظهر أنك متضايق.
سأظل واقفاً بجوار السيارة حتى يقوم السائق بتحميلها. لا تلتفت إلى الشتائم التى تتبادلها ألسن السائقين كما نقول نحن صباح الخير.
" ما هو انت لو ماكنتش ابن مرة..... كنت عرفت تسدد الأقساط اللى عليك "
" يا عر... ده دورى "
" يابن الـ.....ة.. فين حق الحاجة اللى طلـّعتهم امبارح "
لا تكترث إن شخر أحدهم فهذه هى لغة بلدنا الآن. واعلم يا بنى أنه كلما زادت حصيلتك اللغوية من الكلام القذر كنت مرهوباً بين أصحابك.
المهم...
ستمتلىء السيارة بطلبة جامعة المنصورة ,والمرضى الذين داخوا بين أطباء بورسعيد, وأخيراً قرروا الذهاب إلى أستاذة طب المنصورة حيث تبدأ رحلة علاج جديدة. سأدفع أجرتك للسائق قبل أن يتحرك بالسيارة. وأنتم داخلون بالسيارة على الجمرك كن هادئاً. ستقف السيارة وتنزلون جميعاً منها. سيبحلق المخبرون وموظفى الجمرك فى وجوه الركاب. ربما أشاروا إلى شخص بعينه.
" ارجع.. "
" والله يا باشا مامعايا حــ......."
" ارجع يا بن الـ............"
ستعودون إلى ركوب السيارة بينما يحمل الراكب حقيبته الثقيلة ويبتعد عن السيارة. سيضحك السائق معهم.
" صباحو أبيض "
سيتحرك ببطء بالسيارة. سيلبس حزام الأمان ويلتفت لك.
" الحزام عشان الكمين "
ستجذب الحزام ولكنى أحذرك.. ببطء لأنه سيكون من نوع ردىء, مجرد منظر لرجال المرور. حتت قماشة سوداء, بعد عبور الكمين. سيشير لك بخلع الحزام. يرمى هو أيضاً حزامه الذى لا يجد له أى أهمية.
" عالم ولاد قحبة.. مابيبطلوش قفش فلوس "
ربما سبّ الدين فلا تهتم. طويل الطريق. ستمر على شركات البترول التى تعمل فى أرض بورسعيد بينما أكثر موظفيها من أى مكان إلا بورسعيد. سينطلق السائق حتى يعبر حاجز المائة وعشرين كيلومتر. لا تنظر فى التابلوه لأنك ستجد مؤشراته لا تعمل, حاول أن تنام فالطريق ممل. دمياط ثم أريافها كفر البطيخ وكفر سعد ,وطريق فاراسكور بعدها ستجد أن السائق خفف سرعته كثيراً اذ يصل إلى أزحم بلد وأصغر بلد على الطريق شربين.
بعد عشرين دقيقة ستجد أن السيارة وصلت إلى المنصورة. ستعرفها بمداخن مصنع السماد الذى يقتل بدخانه المئات من أهل المنصورة دون أن يشعروا.
احذر يا بنى فالموقف خارج المنصورة. لا تركب تاكسى فهو سيستغلك ويأخذ معاك ثلاثة آخرين ثم يحاسبك أنه مخصوص ,ويلهف خمسة جنيه من كل واحد منكم. قف خارج الموقف. لن تنتظر طويلاً قبل أن يقترب منك ميكروباص مهكع. اذا سمعته يهتف " سندوب.. سندوب " فاقفز بسرعة اليه.
ستدفع خمسة وسبعين قرشاً وسيسير الميكروباص بك طويلاً. لا تنزعج من زحمة المنصورة أو فوضى شوارعها, ردد فى ذهنك العنوان كما حفظّته لك. أخبر السائق عن اسم الشارع الذى ستنزل فيه. هناك ستجد الشارع ضيق مغبّر. المساكن قديمة ولونها أحمر.
على الرغم من أننى لم أر عمتك منذ وُلدت أنت إلا أننى مازالت أذكر المكان واطمئن ما فى شيىء فى مصر يتغيرّ. ستجد المكان كما سأوصفه لك. تزوجت هى فى المنصورة منذ التهجير. ظلت مع زوجها هناك. اتجه إلى العمارة التى على ناصيتها مطعم الفول. اصعد إلى الدور الرابع. الشقة الى اليسار. اضرب الجرس مرتين فقط. اذا فتحت لها فقل لها من أنت أولاً. عندما تُرحب بك وتدعوك للجلوس اجلس بهدوء. بالطبع ستنظر لك باستغراب وستسألك.
" انت جاى من بورسعيد لوحدك؟ "
لا تُخبرها عن اصابتى بالفشل الكلوى منذ سنوات.
" تصدق أنى ماشفتكش من أيام ماكنت ف اللفة؟ اييه الله يرحمها أمك "
لا تخبرها عن فيروس سى.
" بابا باع محل العَجل "
لا تُخبرها عن سرطان البروستاتا.
" بابا بيقول ان معدليش ف الدنيا غيرك يا عمتى "
عندها ستسأل عنى.
" بابا مات.. "