دخل بلوكامين إدارة الآداب مكتب مدير المباحث وتقدم تجاه جانب المكتب الأيمن من الجهة الواسعة المفتوحة فقطع المدير حديثه، مستعدا لتلقى ما سيهمس به البلوكامين الذي مال على أذنه اليمنى وهمس يكلمتين بوجه غلب عليه الأسى المختلط بالرجاء.
وهنا انفعل المدير على عكس طبيعته التى عهدتها وظهر انفعاله في توهج الحمرة على صفحة وجهه عميق السمرة وانفجر كل ذلك في صياحه الشديد وهو يقف فجأة ويميل على المكتب: أنا قلت ميت مرة لما محدش يمسكها!
ثم بدأ يهدئ من روع نفسه محاولا الارتداد لطبيعته الهادئة وقال للبوكامين: روح هاتها فورا هنا
ثم أمسك بسماعة التليفون الداخلى مصدرا أمرا إلى الذي رد عليه في الهاتف، بأن يرسل بمن دار بشأنها الحديث الهامس
لحظات صامتة يدت ثقيلة فكرت خلالها فيها في الاستئذان للخروج ولكن سرعان ما وجدت البلوكامين يعود بصحبته فتاة نحيفة وجهها مصبوغ باصفرار كريه فتحول انفعال المدير إلى أسى وحنو أبوى كتدفق وبادرها بصوت متهدج: معلش يا بنتى.. الضابط ما يعرفش تعليماتى بخصوص موضوعك.. روحي من هنا حالا على بيتكم!
فانفجرت دموع الفتاة وراحت تتمتم بالدعوات للسيد المدير وهي تغادر المكتب!
فهمت من قليل مما دار من حوارات مقتضبة بعد مجيء أحد ضباط الإدارة معتذرا وقد كان هو الضابط الذي قاد قوة من المباحث لمداهمة شقة تدار للدعارة وقام بضبط هذه الفتاة مع بقية الفتيات اللائي وجدهن بالشقة وجاء بهن إلى مقر الإدارة.
يا رب متى ستحل هذه الألغاز التى تدور أمامى وكيف لمدير لإدارة واحدة من أهم إدارات الآداب على مستوى الجمهورية، أن يتدخل بكل هذا الانفعال ليخلى سبيل عضوة بشبكة دعارة؟!
أعرف جيدا طهارة سمعة هذا المدير وحرصه على تنفيذ القانون وأعرف كذلك أنه لا يقبل الضغوط ولا الوساطات إلا في حدود المسموح به قانونا، لكن ما السر الذي جعله لا يفرج عن الفتاة فورا؟!
الشيء الوحيد المفهوم أنه سبق أن أصدر تعليمات بألا يتم ضبطها تحت أي ظرف!
الفتاة يبدو أنها كانت أكثر جمالا مما هي عليه الآن، كما أن الانكسار الواضح في عينيها ليس مفتعلا كعادة محترفات الدعارة في تمثيل دور المنكسرة باقتدار يضارع نجمات السينما.
وكانت ترتدى بنطلون وتي شيرت لا يلفتان النظر، كذلك ليس على وجهها أي آثار للزينة المبالغ فيها الت تشتهر بها بنات الليل، بينما انسدل شعرها الطويل خلفها ليزيد من ظلال الانكسار البادى على تقاطيع وجهها الشاحب
- من هي؟!
- واحدة من المآسي التى لا تكف الحياة عن إرسالها إلينا!
فقط، هذا ما تفوه بي وهو يغالب خروج كلمات لا يسمح لفمه أن ينطق بها فتكشف السر
لكن لم يهدأ لى بال حتى عرفت من هي
ليست ابنة ولا قريبة ولا عشيقة أى ممن يمكن أن يطلق عليهم "أصحاب نفوذ"
كذلك هي لا تعمل مرشدة للمباحث فتتغاضى عنها نظير ما تقده من معلومات
هى كانت يوما من الأيام واحدة من جميلات الحى الذي تعيش فيه والمشهور بكثرة الجميلات، طالبة تتخذ خطواتها في الطريق المعتاد، لكن طريقا آخر كان مفروضا عليها كواحدة من سلالة عائلة ارتبط تاريخها الطويل بالفجور، فكان لزاما عليها احتراف الدعارة.
وكربيبة لتلك البيئة، تعاملت الفتاة مع الدعارة كنشاط معتاد يمكن أن تجتهد فيه لينقلها إلى مستويات أعلى من الحياة، وهو ما يعد به هذا الطريق دائما لكل من سلكته سواء كان مغامرة مؤقتة أم محترافة على الدوام!
يمكن أن يتحقق ذلك مثلا في أن يقع في هواها رجل ثري، عربيا كان أو مصريا أو من أى جنسية أخرى، لتنفتح أمامها أبواب الترف وتعيش عيشة الأميرات، فهذا هو ما تتحاكى به نساء الطريق وهن يتحدثن بفخر عن زميلاتهن اللاتي نجحن أو بحسرة على من لقيت من العنت ما جعلها تتحدر إلى أسفل درجات المهنة، إلى بارات الليل المشبوهة أو النواصى الصاخبة بضجيج السيارات، لكن أمر جلل قد حدث في حياتها ألقاها من ذروة الحلم المنتظر إلى سفح الواقع المفزع!.
وها هي الحياة تفتح لها ذراعيها وترتقى به وتبدأ في ثقة فى الصعود نحو القمة، لكنها لقيت في طريقها ما لم تحسب له حسبانا، ففجأة بدا فجأة يداهمها الهزال والدوار ووغطاها لون أصفر بغيض، وكانت النتيجة بعد الفحص الطبي، أنها مريضة بمرض نادر وخطير يستلزم أن تجرى لها عملية تغيير دماء كل بضعة شهور وفي كل مرة تظل لمدة أسبوعين طريحة الفراش، وسرعان ما لفظها الطريق كواحدة من عضواته البارزات، لكنها لم تجد في غير هذا الطريق ما يساعدها، فبدأت تدور على الشقق التى يتردد عليها السائحون العرب لتمارس التسول بدلا من الدعارة بعد أن افقدها المرض جمالها فلم تعد صالحةللفساد ولكن بعد أن ذاعت مأساتها، صارت زميلاتها يسهلن لها مهمة التسول من زبائن الليل لتنفق على علاجها.
في البداية ظن الضباط بعد ضبطها للمرة الأولى في شقة مشبوهة، أنها تحكى أحداث فيلم من نسج خيالها حتى يخلوا سبيلها، فلم يستمع إليها أحد، لكن سرعان ما تم ساءت حالتها في السجن بعد الحبس الاحتياطى، فتم نقلها إلى المستشفى بين الحياة والموت لتتأكد حقيقة روايتها وبعد إخلاء سبيلها بعد أن شهدت زميلاتها أنها لم تكن تمارس معن الدعارة، كادت تموت من كثرة تعقيدات الإجراءات وعرضها على لجان للبت في حالتها وتدبير مكان لعلاجها وصرف العلاج اللازم إلى آخر كل هذه الإجراءات، وفي المرة الثانية نجت من الموت بأعجوبة، لكن لم يسمح المدير بمرة ثالثة وأخذ على عاتقه مسئولية صرفها من مكتبه مصدرا تعليماته بألا يتعرض لها أحد ولكن لم ينتبه الضابط في الواقعة الأخيرة وجاء بها إلى مقر المباحث وبدأ في تحرير المحضر، غير أن البلوكامين نبهه إلى حالتها فلم يصدقه لأنه لم يسمع بحالتها، فأسرع البلوكامين إلى المدير ليحدثه أمام عينى بما قصصته في السطور السابقة ولو حكاه لى أحد مهما كانت ثقتى به لما صدقته