بقلم – السفير د. عزمى خليفة
المستشار الأكاديمى للمركزالإقليمى للدراسات الاستراتيجية
حينما اطلعت علي حيثيات حكم المحكمة الإدارية العليا تأكدت من صحة توقعاتي ،فالحكم تم بناء على عدة نقاط منها تفسير الدستور وخاصة المواد ١،٤،٩٧ ،١٥١،١٩٠وكلها تتناول إجراءات التوقيع على اتفاقات تتناول تغييرات في خريطة الدولة ،ونوعية الحظر المفروض على توقيع هذا النوع من الاتفاقيات وتدخل بالتالي في صميم عملية اتخاذ القرار السياسي في مصر.. كذلك تطرقت الحيثيات إلى مفهوم سيادة الدولة ،والفصل بين السلطات ومتطلباته والتوازن بين السلطات ،وتلازم المسئولية مع السلطة ، ونظرية إعمال السيادة فكل هذه المفاهيم سياسية بالدرجة الأولى ويضع الإطار العام لها القانون تفصيلا، وأهم مافي هذا الشق التمييز بين الشق السلبي للسيادة وشقها الإيجابي استنادا إلى سوابق قانونية ودستورية في عدة نظم للحكم عبر التاريخ.
وقد ارتأت المحكمة أن الشق الإيجابي للسيادة يعني سلطة الأمر والزجر داخل البلاد وتمثيل الدولة مع ترتيب حقوق لها وترتيب التزامات عليها أي أن الهدف منها تمثل وظيفة الحكم التي تظهر لدي تمثيل وظيفة الحكم التي تظهر في الوظيفة التشريعية والقضائية والتنفيذية ، وأن الدفع بهذا الشق الإيجابي للسيادة لا يبرر عدم الخضوع للقضاء لأن السيادة هنا حق أصيل للحاكم لأنه هو مالكها وفقا لحق الملوك الإلهي وهو مفهوم عفى عليه الزمن،لأن السيادة أصبحت لمجموع المواطنين ولم تعد لهيئة معينة من هيئات للغير .
أما المعني السلبي للسيادة فالاستقراء التاريخي لها يؤكد أن مفهوم السيادة بدأ كفكرة سياسية ثم بدأ في التحول إلى فكرة قانونية مقصود بها عدم خضوع الدولة إلى سلطة دولة أخرى ،ومن ثم عدم جواز وجود سلطة أخرى موازية للدولة، واستنتجت المحكمة أن أعمال السيادة تتفق مع العمل الإداري في المصدر والطبيعة وتختلف في السلطة التي تباشر بها السلطة التنفيذية العمل ذاته، مع تقرير وسائل مختلفة للحد من آثار أعمال السيادة التي قد تؤثر سلبا في حقوق وحريات المواطنين وذلك يتطلب اللجوء إلى القضاء.
وأشارت المحكمة إلى أن تغيير الدساتير أو تعديلها مرتبط إما بسقوط نظم الحكم نتيجة ثورة أم تغيير الدساتير بصورة دستورية من خلال عملية إصلاح سياسي متدرج ،وفي هذه الحالة فالأمر يتطلب تغييرا مماثلا في النظام القانوني للدولة وهو النظام المنظم للعلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين أفراد الشعب وسلطات الدولة ،وأكدت الحيثيات أن هناك فكرا قانونيا جديدا لكافة أفراد المجتمع متمثلا في مصر وثورة ٢٥ يناير ،وبالتالي وجب على الفكر القانوني المصري أن يتمشي مع التعديلات التي استحدثها الدستور لعام ٢٠١٤ فيما يتعلق بتوقيع المعاهدات وفيما يتعلق بالسيادة وغيرها ،وأهم ما تم استحداثه أن نظام الحكم في مصر ديمقراطي يقوم علي أساس المواطنة وسيادة القانون كما ورد في المادة الأولى للدستور، وكذلك الاستفتاء على المعاهدات مادة مستحدثة ، ومبدأ ترسيخ سيادة الشعب مستحدث أيضا كما رسخت المحكمة التعاون بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية من خلال تفسيرها للمادة ١٩٧ التي تنص على قيام رئيس الجمهورية بإبلاغ رئيس مجلس النواب بالمعاهدات التي يبرمها لإعداد تقرير بشأن كيفية التصديق عليها .
كذلك تناولت الحيثيات حظر تحصين أي قرار إداري عن رقابة القضاء من خلال تفسير المادة ٩٧ والمادة ١٩٠ من الدستور مع إضافة تفسيرات مستمدة من قانون المعاهدات.
ثم انتقلت الحيثيات إلى شرح مفهوم أوسع وهو مفهوم دولة القانون وعرفتها بأنها الدولة التي تتقيد في كافة مظاهر نشاطها بقواعد قانونية تعلو عليها ،وتكون بذاتها ضابطة عليها بصورة لم تجعل السيادة امتيازا شخصيا وإنما يباشرها الشخص نيابة عن الجماعة ومجمل مصالحها ، ورجعت المحكمة لإعمال لجنة الخبراء والتوافق الذي أكدته أن أي شئ يتعلق بحقوق السيادة لن يكون محل تفاوض وتأكيدها أن المادة الرابعة من الدستور تؤكد أن السيادة للشعب يمارسها ويحميها من خلال حق المشاركة.
كذلك لم تغفل المحمة في حيثيات حكمها دراسة حكم محكمة الأمور المستعجلة فأكدت أنه خالف قواعد الاختصاص الولائي بتعيين نفسها محكمة أعلى بعد أن درست الحكم في ضوء الاختصاص الولائي لمجلس الدولة والمحكمة الإدارية العليا ،مؤكدة أن هذا النزاع نزاع وطني خالص تتوافر فيه صفة المنازعات الإدارية وأنه ليس نزاعا دوليا من أي نوع ،ومشيرة إلى أن حق الدولة على إقليمها ليس حقا من حقوق الملكية ولكنه حق سيادة ويختلف تماما عن حق سيادة الأشخاص على ملكياتهم.
ومن المهم الإشارة إلى أن المحكمة الإدارية العليا لم تجد غضاضة في تأكيد أنه لم توجد سيادة تزاحم سيادة مصر على الجزيرتين ،مشيرة إلى جلسة مجلس الأمن عام ١٩٥٤ التي أكد فيها المندوب المصري الدائم في نيويورك أن تيران وصنافير جزء لا يتجزأ من الأراضي المصرية ،مؤكدة أن سيادة مصر عليهما لم تنقطع في مرحلة من التاريخ إلا بصفة مؤقتة من١٩٥٦ وحتي ١٩٦٧ مع استعراض حادثة السفينة Empire Roach لتأكيد استمرار السيادة المصرية على الجزيرتين بصفة قاطعة ،كما أقرت الحيثيات أن اتفاقية قانون البحار ١٩٨٢ قد أكدت أن المياه الداخلية للدول تختلف عن الإقليم البري من الناحية الطبيعية ولكنهما معا يخضعان لنفس النظام القانوني من ناحية السيادة بمعني أن المحكمة قد تعرضت للسيادة كمفهوم وتاريخ وواقع .
والأخطر من ذلك أن المحكمة قد تعرضت بصورة قاطعة لقرار رئيس الجمهورية رقم ٢٧ لعام ١٩٩٠ وخط الأساس مع ضرورة أن تكون خطوط الأساس المستقيمة التي تصل مجموعة النقاط المحددة للإحداثيات الواردة في مادة ٢ من القرار ،فأكدت أن السيادة هي العنصر الهام والحاسم لتحديد المياه الداخلية للبلاد شأنها في ذلك قواعد تحديد الإقليم البري والمنطقة الاقتصادية الخاصة . كما أكدت عدم تطابق القرار الجمهوري ومضمون قرار مجلس الوزراء السعودي وألزم الدولة المصرية باتخاذ الإجراءات التي تحفظ بها حقوق الشعب المصري خاصة أن الجزء الصالح للملاحة من المضيق لا يتجاوز عن ٥٠٠ ياردة من الشاطئ المصري
كما ميزت الحيثيات بين تحديد الحدود وترسيمها للجانب المصري، ونفت بقوة أن تكون مصر منذ فجر التاريخ قوة احتلال وأهابت بالقوات المسلحة استخدام الكلمات المناسبة.
هذا العرض يؤكد عدة حقائق أهمها:
• أن مصر شهدت ثورة يناير التى غيرت الأوضاع السياسية في البلاد إلا أن الأوضاع القانونية حتى اليوم مازالت كما هي دون تغيير مما أوجد حالة من الانفصام بين أجهزة الدولة والوضع القانوني للدولة وهو أمر قابل للتكرار مستقبلا طالما أن الوضع القانوني بقي دون تغيير مما يتطلب ضرورة إعطاء أولوية لتعديل القانون وفقا لمتطلبات الثورة وما استحدثته من أوضاع في عملية اتخاذ القرار في مصر
• إن طريقة ترسيم الحدود البحرية هي نفسها طريقة تحديد الحدود البحرية وفقا لاتفاقية قانون البحار لعام ١٩٨٢ وأن هناك فارقا بين ترسيم الحدود البحرية وبين تحديد حدود الدولة على الإقليم البرية والبحرية ولكنهما يخضعان لنفس النظام القانوني المحدد للسيادة والتي أعادت المحكمة تعريفها.
• أن قرار رئيس الجمهورية رقم ٢٧ لعام ١٩٩٠غير متطابق مع قرار مجلس الوزراء السعودي بمعني أن إرادة الدولتين لم تلتقيا حول الترسيم وبالتالي لم تلتقيا لتوقيع معاهدة دولية وفقا لقواعد القانون الدولي
• إن النزاع المعروض على المحكمة الإدارية العليا هو نزاع وطني خالص تتوافر فيه صفة المنازعة الإدارية وليس نزاعا دوليا كما حاول بعض الإعلاميين من ذوي النظر القصير تصويره فهو نزاع إداري مصري بحت وتم حسمه ولم يعد من الممكن عرضه على المحكمة الدستورية وليس من حق البرلمان مناقشته
• إن النزاع وطني ولم يخون أو يجرم طرفا من أطرافه وإنما نتج النزاع عن صياغة دستور جديد في ظل قانون قديم، مما أوجد حالة الانفصام التي أشرنا إليها.
• إن السيادة في تطور فقد بدأت كفكرة سياسية ثم تطورت إلى نظام قانوني لحماية حقوق وحريات المواطنين ،وأضيف أن هذا الإطار القانوني مهم جدا في العصر الشبكي الذي نعيشه تحت ضغط تكنولوجيا المعلومات مما أدى إلى تقدم المجتمع في تنظيماته الشبكية على الدولة التي مازالت وفقا للقانون القديم تلتزم بالتنظيم الهرمي الرأسي مما أوجد تعارضا بين الدولة والمجتمع خاصة وأن هذا المجتمع قد نجح في إقامة شبكات الاستشعار الإنساني التي استقبلها الإرهاب الأسود واستفاد منها
• إن السيادة لم تتعرض وحدها للتغيير بل إن جميع الأبعاد السياسية للدولة تتغير أيضا بما في ذلك أمنها ، فالصراع اليوم انتقل من جبهات الحروب التي تحدها معالم الجغرافيا إلى الصراع بين الإنسان والشبكات التي ينضم إليها طواعية ،أي صراع بين المحلية والعولمة ،أو بين الثقافة المحلية والشبكات العالمية التي تنطوي على قيم جديدة وحتي ننتصر في هذا الصراع لابد من تبني الدولة للتحولات الشبكية التي لا يمكن مواجهتها ولا خوف من مواجهتها شريطة إعادة تنظيم الدولة للشكل الشبكي بالدولة هي حارس الشبكات وليست هادمة الشبكات.فلابد من حوار وطني مجتمعي لإعادة بناء القانون والدولة وفقا لمتغيرات الداخل والخارج معا.
• إن مصر في هذه المرحلة من تطورها التاريخي ودخولها عصر الثورة الرقمية الضاغطة عليها في حاجة ماسة إلى مركز فكري مختلف تماما عما هو منتشر فيها من مراكز دراسات ،مركز يأخذ بالتحليل الشبكي والتحليلات اللاخطية الحديثة مثل منهج الفوضي والنظام والتعقيد والسيناريوهات وكلها مناهج تناسب مرحلة السياسات الانتقالية التي تمر بها منطقة العالم العربي ويقود هذا الحوار الوطني المجتمعي وبدون ذلك ستظل مصر والأمة العربية تنتقل من حالة لأخرى في حروبها ضد الفساد والإرهاب والتدهور .
ولله الأمر من قبل ومن بعد