قال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾، والإخلاص في أَدَقِّ مَعَانِيهِ هُو أن تَكْوُنَ حَرَكَةُ جَوَارِحِكَ مُوَافِقَةً لانفِعَالِ قَلْبِكَ، فَإنْ كَانَت لِجَوَارِحِكَ حَرَكَةٌ وَلِقَلْبِكَ انفِعَالٌ يُنَاقِضُهَا فَهَذَا هُوَ غَيْرُ الإِخْلَاصِ.
فالإخلاص فرع عن الصدق ، ويدل على موافقة الظاهر للباطن، ومن هنا فإن الإخلاص سر من أسرار الله عز وجل أودعه قلبَ مَنْ أحبَّ من عباده.
وقد قال تعالى : (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ )، ومن سلامة القلب أن يخلو من النفاق والرياء؛ لأنهما يحبطان العمل، ومعلوم أن العمل هو انفعالٌ لحركة الجوارح، فاللسان جارحة ووظيفتها أن تتكلم، واليد جارحة ووظيفتها أن تعمل، وهكذا كل جوارح الإنسان لها وظيفتها وعملها ، والسؤال هنا: ما هو عمل القلوب، مع اعتبار أن عملَ القلوب لا يُسمع ولا يُرى؟ إن عمل القلب الرئيس هو "الإخلاص".
إن كلَّ جارحة لها مجال في المعصية ، فالعين تذنب حين تعتدي على محارم الآخرين، واللسان يذنب إن تعرض بالسب أو الشتم للناس، وهكذا سائر الجوارح لها مجال في المعصية حسب وظيفتها، والقلب أيضًا له مجال في المعصية ، ومجال معصيته هو النفاق والرياء ؛ لذلك يقول سبحانه: (وأخلّصوا دينهم لله) ليؤكد على ضرورة الإخلاص ، وأن الإخلاص محله هو القلب.
وإذا كانت توبة الجوارح بأن تكفَّها عن مجال معاصيها ، فإن توبة القلب أن يكفَّ عن مجال نفاقه بأن يُخْلِص.
إن هناك خللًا قد يُصيب الجسدَ، وهناك عطبًا قد يصيبُ القلبَ، فإذا أصاب الجسدَ خللٌ فهذا الخلل مؤقت، أي أنه سيزول بالدواء، أو عند التفاقم سيزول بالموت، لكن القلبَ إذا كان فاسدًا فسوف يكون هذا الفساد معك أبدًا، إما أن يصيبك بالسعادة الأبدية وإما أن يصيبك بالشقاوة الأبدية؛ ذلك لأن النفاق والرياء يُحبط العمل، ويجعله هباءً منثورًا.
وبناء على ذلك فإن كلَّ عمل تقدمه لله (عز وجل) إما أن يكون حيًّا (أي مقبولًا)، وإما أن يكون ميتًا (أي غير مقبول)، وسرّ حياة الأعمال وقبولها هو "الإخلاص".
والإخلاص سبيل رئيس لمضاعفة الثواب من الله (عز وجل)، فكل فعل يصدر عن الإنسان تلازمه طاقةٌ من الإخلاص يكون عليه الثوابُ العظيمُ منه سبحانه وتعالى ، ونحن نعلم أن الله سبحانه جعلَ الحسنةَ بعشر أمثالها، ثم بالنية المخلَصة تبلغ الأضعافَ إلى ما شاء الله ؛ لأن النية هي التي تعطي الثوابَ لصاحبه أو تمنع عنه الثوابَ ، فقد يكون العمل واحدًا من شخصين مختلفين، ومع هذا نجد أحدهَما يأخذ ثوابًا، والآخر يأخذ وزرًا؛ لماذا؟ لأن قيمة الثوابِ على الأعمال يكون بحسب أنفاس الإخلاص فيها ، وحياة الأعمال ومواتها – كما ذكرنا – تكون بقيمة الإخلاص.
ومن هنا نستطيع أن نفهمَ هذا الكلامَ المنير عن الإخلاص في صيام وقيام شهر رمضان، وأيضًا في قيام ليلة القدر، وما ترتب على الإخلاص فيهما من ثوابٍ عظيمٍ ارتقى لأن يصل بالإنسان إلى مغفرة ذنوبه التي تقدّمت، فعن أبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قال: قال رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، وعنه أيضًا أن رسولَ الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال : "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، وعنه كذلك أن رسولَ الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، قال : "مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
فهذه النصوص المحمدية المشرفة دليلٌ رصينٌ يُبْرِزُ أن الأعمالَ الصالحةَ لا تزكو ولا تتقبل إلا مع الاحتساب وصدق النيات، كما قال (صلى الله عليه وسلم): "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى".
كما نلاحظ في الأحاديث السابقة أن الثوابَ قد وقَع بصيغةِ الماضي في قوله (صلى الله عليه وسلم) : "غُفِرَ" مع أنَّ المغفرةَ تكونُ في المستقبَلِ؛ للإشعارِ بأنَّه متيقَّنُ الوقوعِ، مُتحقِّقُ الثُّبوتِ، فضلًا مِن اللهِ (عز وجل) على عبادِه.
وحتى يتحقق هذا الثوابُ العظيمُ، فلا بد من استدعاء نية الإخلاص والرغبة فيه، فلا يستثقل الإنسانُ الصيامَ أو القِيَامَ في شهر رمضان، ولا يَسْتَطِيل أو يَكْرَه طولَ مدته، وأن يتلقى هذا الزمانَ الشريفَ بِنَفْسٍ طَيّبَةٍ ، مستثمرًا أيامه وامتداد ساعاته لما يرجوه من الأجر والثواب فيها، اللهم ارزقنا الإخلاص في كل تصرفاتنا، اللهم آمين