يوافق اليوم 21 من أبريل ذكرى وفاة شاعر لم يأت مثله بتركيبته وابتسامته ومرحه وحتى بصمته واكتئابه بعد النكسة وموت عبد الناصر، صلاح جاهين فيلسوف الفقراء وشاعر الثورة الذي أحب الوطن وغاص في وجدان ومعاناة وآلام وأحلام شعبه.
«محمد صلاح الدين بهجت» المعروف بصلاح چاهين هو فنان متنوع وشامل، شاعر ورسام كاريكاتير وممثل وسياسي يساري الفكر، ولكن يكفي أن نقول عنه الشاعر صلاح چاهين الذي طوع العامية بشكل جديد ليجسد بها معاني فلسفية وحياتية لم تكن تصاغ قبلاً إلا باللغة العربية الفصحى، فاستطاع أن يتحدث عن أفكار كثيرة في رباعياته مثل معاناة الفلاحين والتوحد مع الشعب في الطموح والأحلام والتحفيز الثوري والانتصارات التي لطالما كتب من أجلها وتغنى بها عبد الحليم حافظ مثل "إحنا الشعب، بالأحضان، صورة".
يقول الدكتور جابر عصفور في كتابه "في محبة الشعر"، عن شعر صلاح جاهين إنه يمثل المحاولة الدائمة من خلال الصورة والرمز والكناية للوصول إلى المستحيل الذي يتباعد كلما اقتربنا منه، وكدنا نمسکه بأصابع أمنیاتنا لكن وجود هذا المستحيل يظل شرطا لحياتنا التي لن يكون لها معنی دون المحاولة المستمرة الدؤوبة التي تفرض على العبث واللاجدوی في حياتنا المعنى والمغزى، وتميزنا نحن البشر الفنانين، الذين مع علمنا بأننا محدودي القدرة لا نکف عن التشبه بالآلهة.
ما يلفت الانتباه في شعر صلاح جاهين إلى جانب ذلك هو صفة الدرامية ولعل من يقرأ هذا الشعر متأملا يجد أنه ينطوي على صوتين على الأقل صوت الشاعر الذي يتحدث وصوت الشاعر الذي يتحدث إلیه كأن صلاح جاهين ينقسم دائما في قصائده إلى ذات وموضوع، الذات تتأمل الموضوع خارجها، لكنها في الوقت نفسه تتأمل الموضوع الذي هو إياها ولهذا نلاحظ أنه بقدر ما يقيم موازاة بين نفسه وهرم صغير مثلا يقيم موازاة بين نفسه وأشياء أخرى، لكي يتأمل الحضور المحاصر لهذه الذات التي كان اليأس ينتابها أحيانا، لكنها لم تكن تكف عن محاولة التحدي، ولهذا كانت الدرامية موجودة في قصائد صلاح جاهين العامية.
ويذكر أن صلاح چاهين قد بدأ كتابة رباعياته لأول مرة عام 1959 وكانت تُنشر بشكل أسبوعي في مجلة "صباح الخير" حتى حلول عام 1962ثم توقف عن كتابة الرباعيات عندما انتقل إلى العمل بجريدة الأهرام.
وقد وصل عدد أشعار صلاح جاهين فى الرباعيات 160 رباعية والعامية المصرية فوصلت أشعاره إلى 52 قصيدة عامية ، والأزجال 59 قصيدة زجلية، والأغانى 55 أغنية لجاهين وكانت منوعاته الغنائية متعددة ووصلت إلى 37 منوعا غنائيا والمسرحيات 7 مسرحيات.
وعلى الرغم من هذا الإنتاج الوفير فقد ظلت الرباعيات حتى الآن هي أهم أعماله يرددها كل الشعب حتى وقتنا هذا، وفي هذا الشأن يذكر أن ديوان "الرباعيات " حقق هذا الديوان مبيعات ضخمة، حيث تجاوزت مبيعات إحدى الطبعات التي طبعتها "الهيئة المصرية العامة للكتاب" أكثر من 125 ألف نسخة في غضون الأيام الأولى القليلة.
ظل جاهين معظم حياته يبتسم ويضحك كثيراً ويرقص أحياناً أخرى، وقد رافقه في رحلته الإبداعية في نفس جيله الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور، لكن عبد الصبور كان على النقيض تماماً من چاهين ليكون هو المقابل المخالف المضاد لصلاح جاهين، فعبد الصبور هادئ حزين متشائم، يكتب بالفصحى شعرا للنخبة المثقفة عاكسا ثقافة عالمية نخبوية، بينما جاهين كان صاخبا مرحا متفائلا يكتب بالعامية لعامة الشعب شعرا وغناء يفوح برياحين صبايا القرى وأحلام رجل الشارع وتعبه اليومي، دون أن يتخلى عن عمق إنساني فلسفي بالغ التأثير.
ولا يشترك "الصلاحان" سوى في أن كليهما استطاع أن يؤثر تأثيرا حاسما على جيله في مجال إبداعه فيمكن القول أن عبد الصبور قد شكل الذائقة الشعرية والوجدانية لجيل مصري كامل بقصيدة واحدة هي "أحلام الفارس القديم"، والتي اعترف بعض رواد الشعر في الجيل التالى أنهم كانوا يجوبون طرقات القاهرة ليلا منشدين المقاطع الشهيرة لهذه القصيدة بصوت مرتفع، وبينما قام عبد الصبور بتشكيل الذائقة الشعرية لجيل كامل من الشعراء من بعده، قام جاهين بتشكيل الذائقة الوجدانية لجيل الثورة بأكمله، شعراء وفقراء وبسطاء وعمالا وفلاحين وموظفين وعاشقين وحالمين.
كتب چاهين أهم وأشهر أوبريت للعرائس في مصر وهو "الليلة الكبيرة" والذي لحنه وغناه وقتها سيد مكاوي، وكان يصف المولد الشعبي بشكل رائع وممتع، من خلال شخصيات "الأراجوز، بائع الحمص، بائع البخت، القهوجي، المعلم، العمدة، الراقصة، مدرب الأسود، الأطفال، المصوراتي، معلن السيرك، المنشد، الفلاح" تحولت الكثير من أعمال صلاح چاهين إلى أغاني أهمها كما ذكرنا أغاني الثورة مثل" أحكم ي شعب، أيامنا الحلوة، بحب السلام، بستان الاشتراكية، أحنا الشعب و بالأحضان "، ثم أغاني لسيد مكاوي من أشهرها "ليلة أمبارح" وأغاني لعلي الحجار ومنير مثل أغنية "المريلة الكحلي".
توحد الشعب كله آنذاك بأغاني چاهين عن الوطن والانتصارات وحتى عن السياسة والأقتصاد كأغنيته "بستان الأشتراكية" ورغم أن صلاح جاهين كان يغني للاشتراكية في إخلاص المثقف المنتمي للفكر اليساري المنحاز للفقراء والبسطاء بشكل أساسي إلا أنه كان مثقفاً وليس أيديولوجيا منغلقاً.
بعد نكسة 1967 دخل چاهين في موجة اكتئاب شديدة ظلت ملازمة له حتى وفاته، وأمتنع وقتها عن كتابة الأغاني الوطنية ، وهو مايفسر ظهور أغنية "عدى النهار" التي كتبها الأبنودي وغناها عبد الحليم حافظ.
وقد كتب چاهين في حالته رباعية حين احتاج لعملية قلب بسب انسداد شريانه فقال:
يامشرط الجراح أمانة عليك
وانت في حشايا تبص من حواليك
فيه نقطة سودة في قلبى بدأت تبان
شيلها كمان.. والفضل يرجع إليك.
من أهم أعمال جاهين "ديوان قصاقيص ورق، أشعار العامية المصرية، ديوان أوراق سبتمبرية، عن القمر والطين، كتاب أزجال صحفية، ديوان رباعيات صلاح جاهين، الشاطر حسن، موال عشان القنال، أوبريت الليلة الكبيرة، وغيرها من السيناريوهات والمسرحيات والأغاني".
وتوفى الشاعر العظيم صلاح جاهين 21 أبريل عام 1986 حين ابتلع جرعة زائدة من الحبوب المنومة بسبب اكتئابه الحاد.