الأربعاء 15 مايو 2024

سيناء وثقافة الانتماء.. هل حقًا كان يعيش السيناويين أحلى أيامهم فى ظل الاحتلال الإسرائيلى؟

صورة لأبطال من أبناء سيناء الشرفاء من ذاكرة التاريخ

تحقيقات3-5-2021 | 23:24

أشرف مفيد

فى بداية التسعينيات، كنت أتابع أنشطة الهيئة العامة لقصور الثقافة حينما كان يتولى رئاستها الراحل المحترم حسين مهران، وقتها زرت جميع محافظات الجمهورية لمتابعة الجولات الثقافية لهيئة قصور الثقافة التى كنا نتمسك باسمها القديم "الثقاغة الجماهيرية"، فقد كانت الهيئة فى ذاك الزمان جماهيرية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وذات يوم كنا فى زيارة إلى العريش لحضور افتتاح عدة أنشطة ثقافية وفنية شملت العديد من العروض المسرحية لصديقى المخرج المبدع الراقى حسن الوزير الذى كان يمتعنا دائمًا بأعمال تنافس أهم الفرق المسرحية الخاصة فى ذلك الوقت، وحفلات موسيقى وغناء وندوات شارك فيها نخبة من كبار المثقفين والفنانين والشخصيات العامة، وأذكر أنه كان من بين أعضاء الوفد واحد من أشطر وأنبل الإعلاميين الذين التقيتهم فى حياتى وهو الإعلامى الراحل عبد الرحمن علي، الذى كان - رحمه الله - شخصية مهذبة ومحبوب من الجميع، فما أن علم أحد شيوخ قبائل سيناء بوجوده فى العريش ضمن الوفد الإعلامى المصري، حتى وجه إلينا على الفور دعوة لتناول الغداء فى مضيفة القبيلة.

 

ونظرًا لمرور كل هذه السنوات على الواقعة لم تسعفنى الذاكرة لأتذكر بالتحديد اسمه أو اسم قبيلته، المهم أننا لبينا الدعوة وذهبنا فى الموعد واستقبلنا الشيخ بحفاوة بالغة، وعلمنا من بين حديثه أن سبب تلك الحفاوة البالغة أنه من عشاق ومتابعى الإعلامى المحترم عبد الرحمن علي، وأنه معجب بشخصية "هاشم" التى جسدها فى الفيلم  السينمائى الشهير" فجر الإسلام" مع نجوم كبار هم، محمود مرسي ويحيى شاهين، وسميحة أيوب، وعلى الرغم من أننى لم أتذكر تفاصيل هذا اللقاء، إلا أن هناك مسألة مهمة حدثت فى ذلك اليوم لم ولن أنساها حتى الآن على الرغم من أن الزيارة مر عليها أكثر من ٣٠ عامًا، فقد كنت أجلس إلى جوار أحد شباب القبيلة وكان شابًا فى العشرينيات من العمر ويتمتع بملامح حادة سواء فى مظهره أو فى طريقة كلامه، حيث قال لى بالحرف الواحد ( لقد كنا نعيش أحلى أيامنا فى ظل الاحتلال الإسرائيلى حتى أتيتم هنا يا سكان وداي النيل وأفسدتم علينا حياتنا).

 

نظرت إليه فى ذهول، ولكنه لم يترك لي فرصة لأن أرد عليه، لأنه ظل يتحدث، واستكمل كلامه قائلاً : كنا نأكل أحلى طعام ونشرب أحلى المشروبات بل كنا نرتدي أحلى وأجمل الملابس التي كانت تأتي من تل أبيب. شعرت بالصدمة وأنا أستمع إلى هذا الشاب السيناوي "الطائش"، الذى كان كلامه صعبًا وقاسيًا لدرجة أنه تسبب فى إفساد الجو الجميل الذى كنت سعيدًا به منذ وصولنا لمقر إقامة شيخ القبيلة، ولن أكون مبالغًا إن قلت إنه جعلني أشعر بالندم على حضور هذا اللقاء وكأن أحدًا قد أرسله ليعكر مزاجي ويُفقد القدرة على الاستمتاع بتلك الحفاوة البالغة والترحاب الشديدين التى استقبلنا بها شيخ القبيلة هو وبعض رجال القبيلة الذين كانوا فى قمة الرقي والذوق الرفيع وهم يستقبلون الوفد الإعلامى.

 

لم أتحدث مع أحد من أعضاء الوفد الصحفى والإعلامى عما سمعته من هذا الشباب الذى تعاملت معه بيني وبين نفسي على أساس أنه شاب قليل الذوق، ناكر للجميل نسي أو تناسى أن ما فعله (أبناء وادي النيل) على حد قوله هو باختصار شديد أنهم حرروه هو وجيل كامل من الشباب الذين كانوا فى نفس سنه من ذل العبودية للاحتلال الإسرائيلي.

 

والحق يقال إنه ظلت فى ذاكرتي صورة ذهنية عن هذا النموذج من الشباب السيناوي .. صورة مشوشة خاصة عن هذا الجيل الذى ولد وتربى فى ظل الاحتلال قبل تحرير سيناء الحبيبة وقبل تحرير آخر شبر من أرض الفيروز تزامنًا مع رفع العلم المصري على طابا منذ ٣٢ عامًا بعد معركة قانونية ودبلوماسية شرسة خاضتها مصر من أجل الحصول على أحقيتها فى هذه البقعة من أرض سيناء الغالية.

 

المهم أننى عقب انتهاء اللقاء مع شيخ القبيلة، وعدت إلى القاهرة، تحدثت إلى الأستاذ حسين مهران - رحمه الله - فى حضور اثنين من أعز الأصدقاء الصحفيين الذين كنا نتجول معًا نحن الثلاثة بكل محافظات مصر بصحبة هيئة قصور الثقافة، وهم الصحفى والمؤرخ الوطنى محمد الشافعي، بـ"دار الهلال"، والصحفية المتميزة أنس الوجود رضوان، بجريدة الوفد، واقترحت على الأستاذ حسين مهران تنظيم المزيد من القوافل الثقافية لتذهب إلى المناطق الحدودية وخاصة فى سيناء، واقترحنا عليه أيضاً أن يتم إنتاج أعمال مسرحية تتناول بطولات أبناء هذه المناطق ليتم تقديمها للمواطن السيناوي معبأة بجرعة وطنية تبعث فى النفس على الانتماء للدولة وتجسد بشكل مبسط كيف أن سيناء تمثل بوابة مصر الشرقية عبر العصور منذ فجر التاريخ، ونظراً لما تتمتع به الثقافة والفنون من تأثير قوي على المتلقي، فقد لمست فيما بعد فى زيارات عديدة لمناطق أخرى فى سيناء وغير سيناء كيف كانت مسرحيات الثقافة الجماهيرية تصنع حالة من البهجة فى نفوس الجمهور المتعطش دائما للفنون، تلك الفنون التى كانت تخاطبه بأسلوب سهل وبسيط، فقد كنت كلما شاهدت مسرحية أو حفلا غنائيا فى منطقة نائية يترسخ بداخلى شعور قوي بأن الدولة لا يمكن بأى حال من الأحوال أن تصل إلى تلك الأماكن البعيدة والمناطق الحدودية بدون هذه الأدوات الفنية البسيطة، فالثقافة والفنون الراقية قادرة على تأكيد مفهوم "الهُوية المصرية" لمواطنى تلك المناطق الغالية، بل وتربطهم أيضاً بتراب الوطن.

 

والحق يقال، إن صورة الشاب السيناوي "المتهور" وكلامه المستفز ظل يتردد فى ذهنى وظلت سخافاته تسيطر على تفكيرى وسط هاجس قوى بأن هذا الجيل من الشباب السيناوي تنقصهم الوطنية، وأنهم لا يحبون أبناء القطر المصرى كما قال لى هذا الشاب، ولكن بينما كنت أشاهد مسلسل الاختيار فى رمضان الماضي 2020، تذكرت ما قاله لي هذا الشاب، وشعرت بأن الدنيا قد تغيرت بالفعل، وأن فى سيناء شباب "زي الورد" غارقون فى الوطنية أكثر من هذا الشاب الذى دون أن يدري انزلقت قدماه فى وحل نكران الجميل وعدم الانتماء.. فقد هزني مشهد فى هذا المسلسل رجل عجوز يدعى الشيخ حسان وهو يسير بصعوبة على قدميه لمسافة طويلة حتى يصل إلى الكتيبة التى كان يقودها البطل أحمد منسي فى المنطقة المجاررة له ليخبره بالمكان الذى يختبئ بداخله أعضاء الجماعات التكفيرية الذين يقومون بتنفيذ عمليات خسيسة ضد جنود وضباط الجيش المصري وكلنا شاهدنا كيف دفع هذا الرجل العجوز حياته ثمناً غالياً لوطنيته، فقد أعدمته جماعات الغدر والخيانة بسبب "تورطه" فى العمل الوطنى وانحيازه للحق وللدولة وللجيش.

 

مثال آخر فى هذا المسلسل جعلنى أتذكر حكايتي مع الشاب المندفع الذى كان يتحسر على أيام العيش فى ظل الاحتلال، وهذا المثال هو زعيم شباب القبائل الذى جرى فى عروقه دم الكرامة والوطنية بعد مقتل الشيخ حسان على يد قادة الإرهاب والتطرف، فذهب زعيم شباب القبائل السيناوية هو ورجاله إلى منسى ليساعده فى الأخذ بثأر الشيخ حسان، ضارباً بذلك القدوة والمثل فى الرجولة وفى ارتباط شباب سيناء بتراب الوطن بشكل حقيقى وصادق يعكس الانتماء للجيش المصرى الذي يعي جيداً أنه جيش بلاده الذى يحميه ويصون كرامته.

 

لقد تغيرت الدنيا وأظهرت الأيام معادن الرجال، واستطاعت الدولة أن تحتضن شباب سيناء وتحميهم بالفكر الواعي المستنير وتستنهض ما بداخلهم من مشاعر تفيض بالوطنية والانتماء للوطن.

 

وأعتقد أن هذا الأمر لم يأت من فراغ، وإنما هو فى الحقيقة انعكاسٌ حقيقيٌ لتلك الجهود والخُطط العديدة التى تقوم بتنفيذها كل أجهزة الدولة وفى مقدمتها بالطبع وزارة الثقافة من خلال تقديم الكثير والكثير من الأنشطة الثقافية والفنية التى تعكس اهتمام الدولة بهذه المناطق الحدودية، وبالطبع فإن "مسرح التجوال والمواجهة" خير مثال على وعي وإدراك الدكتورة إيناس عبد الدايم، وزيرة الثقافة، لأهمية وقيمة الفنون فى تشكيل الوعي وفى الحفاظ على الهُوية الوطنية، خاصة أن ذلك يتم وفق رؤى واستراتيجيات فى منتهى الدقة تستهدف فى المقام الأول بناء الإنسان وبناء البشر قبل بناء الحجر.

 

وعلى الرُغم من كل هذا الاهتمام بمواطني المناطق الحدودية والنائية حتى لا يكونون فريسة سهلة لأحد يقوم باللعب بعقولهم والتشويش على أفكارهم، فإننى أرى ضرورة الاهتمام أيضاً بخلق أفكار وأدوات ووسائل جديدة تربط مواطنى هذه المناطق بالوطن عن طريق أعمال درامية يتم كتابتها على يد كبار كتاب الدراما الذين يمتلكون القدرة على مخاطبة المشاهدين بذكاء شديد وتوصيل الرسائل المهمة دون الحاجة إلى أي خطاب إنشائى، وأعتقد أن كاتباً كبيراً فى حجم ومكانة مصطفى محرم يمتلك من الأدوات الإبداعية ما تجعله قادراً على تقديم أعمال درامية تفجر طاقات الوطنية بداخل قاطنى تلك المناطق الحدودية من خلال تقديم نماذج وطنية من أبناء سيناء وما أكثرهم، فسيناء كانت ولا تزال، بل وستظل بوابة مصر الشرقية، وهو ما تعيه وتدركه جيداً القيادة السياسية بما يترجم على أرض الواقع تلك النهضة غير المسبوقة التى تجرى حاليا على أرض سيناء فى سباق مع الزمن من أجل خلق مناخ صحي فى هذه المناطق التى ظلت لسنوات محرومة من أبسط الحقوق فى الحياة كما يجب أن تكون.

 

 

 

Dr.Radwa
Egypt Air