بمجرد أن تُنطق هذه الكلمة أو تسمعها، يأتي في الذهن مباشرة معنى واحدًا فقط، وهو أن يُودِع إنسانٌ عندك أمانة لتحفظها له، مادة كانت أو غير ذلك.
والأصل أن الأمانة كمفهوم عميق لها معاني متعددة، نوجز العبارات عن بعضها، راجين أن نؤسس أولادنا والأجيال عليها؛ ليكونوا أداة فاعلة في حفظ هذه الأمة وتقديم طاقاتهم وخبراتهم التي تُكتسب فيما بعد مستقبلًا لبناء الأمة، وأيضًا للوصول إلى حياة مستقيمة ومعتدلة في الدنيا، وسعادة مؤكدة في الآخرة، فنقول: إن هناك أنواعًا متعددة للأمانة، منها:
أمانة المنهج:
ويُقصد بها أمانة الالتزام بالتعاليم الإلهية والنبوية، فالمنهج الإلهي هو في ذاته نور شأنه ألا يجعل المخلوق يصطدم برب المخلوق ـ بمعنى أن هذا المنهج يجعل إرادة كل إنسان موافقة لمراد الله عز وجل، فلا يجترأ هذا الإنسان عليه سبحانه وتعالى بالوقوع فيما لم يأمر به، ولا يقع في معصية أبدًا، ما دام ملتزمًا بهذا المنهج، فأمانة المنهج معناها اتباع هذا النور الذي يضمن السعادة في الدارين، ويحقق الفوز بالجنة، ويؤكد الميزان الكوني الذي وضعه الله عز وجل في الدنيا (افعل ولا تفعل).
أمانة العطاء الإلهي أو أمانة المواهب:
ويُقصد بها: أن الله عز وجل لم يعطِ كل المواهب والقدرات والإمكانات لفرد واحد وفقط وإلا لاحتاج المجتمع كله إليه، وإنما شاء الله بحكمته أن يوزع تلك المواهب والقدرات والإمكانات على سائر خلقه ليحقق بذلك الترابط بين أفراد المجتمع، فيكون مجتمعا منسجما يحتاج بعضه إلى بعض، وهذه الفكرة هي ما يجب أن نغرسها في نفوس الأجيال أثناء تنشئتهم.
فهناك من وهبه الله سدادًا في الفكر، وهناك من وهبه الله قوة في العضل، وهناك من وهبه الله الحلم، وهناك من وهبه العلم، وهكذا.
هذه المواهب هي في ذاتها أمانات أودعها الله في خلقه، فأدوا حق تلك الأمانات التي أودعها الله فيكم.
فيا من وهبك الله سدادًا في الفكر، أدِّ أمانةَ ذلك بالتوعية وبتقديم الاقتراحات والخبرات.
ويا من وهبك الله قوةً في العضل، أدِّ حقَّ تلك الأمانة بمساعدة الضعيف وبالعمل كساعد من سواعد بناء الأمة والدفاع عنها .
ويا من وهبه الله العلم قم بحق تلك الأمانة وعلم غيرك ما علمك الله إياه وذلك في شتى المجالات العلمية .
ويا من وهبه الله الحلم والعفو أدّ حق تلك الأمانة حتى تنعكس معاني الرحمة والعفو بين المجتمع فيقبل بعضنا بعضًا.
وهكذا كل ينظر في الأمانة التي أودعها الله فيه وما هي موهبته وطاقته وإمكاناته ويقوم بأداء حقها.
أمانة الجوارح:
ونعني بها أن يحقق كل إنسان ذاتيته بطريق الشرع، فكل إنسان أسمى وأحب شيء إليه هو نفسه، هو ذاته، وهو يريد أن يضمن لها استقامتها واعتدالها وصحتها ونضوجها وتقويم بِنيتها، ومعنى هذا أنه يجب عليه ليحقق ذلك أن يجلب لها كل ما من شأنه أن يحقق كمالها من طعام وشراب وتطبيب وكساء، وغير ذلك، فعليه إذن أن يجلب لها ما يحقق ذلك ولكن بطريق الشرع، وهذا أصل أصيل في تربية الأولاد؛ ليسلكوا طريق الشرع ويتجنبوا الانحراف عنه.
وكذلك من أمانة الجوارح أن يحفظها من كل ألم وداء في الدنيا والآخرة، وهذا يدفع كل إنسان منا إلى أن يحفظ جوارحه عن كل ما نهى الله، فلا يتكلم إلا بخير، ولا يسمع إلا ما أمر الله، وهكذا ينزِّه كل جوارحه عن كل ما نهى وحرّم الله عز وجل؛ ليضمن سعادتها في الدنيا والآخرة.
فيجب علينا أن نقوّم الأجيال منذ البداية؛ لنجني ثمارهم في منتهاها.
أمانة العمل:
فلا شك أن الأعمال الصالحة هي أرجى عمل لكل إنسان منا، والأصل أن تكون هذه الأعمال وما يُتقرب به إلى الله خالصًا لوجه تعالى، فإن شاب العمل شهوة خفية من رياء أو حب محمدة وما شابه ذلك، فقد أفسد ذلك العمل، وجعله غير خالص لله، وحتى يقبل العمل ويحصل به الأجر الوفير ينبغي أن يكون خالصًا لوجهه تعالى.
ومن عجائب أخبار السلف الصالح ما روى أهلُ السير عن أحمدَ بنِ مسكين أحدِ علماءِ القرن الثالث الهجري في البصرة، قال: "امتُحِنت بالفقر سنة تسع عشرة ومائتين، فلم يكن عندنا شيء، ولي امرأة وطفلها، وقد طوينا على جوع يخسف بالجوف خسفا، فجمعت نيتي على بيع الدار والتحوّل عنها، فخرجت أتسبب لبيعها فلقيني أبو نصر، فأخبرته بنيتي لبيع الدار فدفع إلي رُقاقتين من الخبز بينهما حلوى، وقال أطعمها أهلك. ومضيت إلى داري فلما كنت في الطريق لقيتني امرأة معها صبي، فنظَرَت إلى الرقاقتين وقالت: يا سيدي، هذا طفل يتيم جائع، ولا صبر له على الجوع، فأطعمه شيئًا يرحمك الله، ونظر إليّ الطفل نظرة لا أنساها، وخيّل إليّ حينئذ أن الجنة نزلت إلى الأرض تعرض نفسها على من يشبِع هذا الطفل وأمه، فدفعت ما في يدي للمرأة، وقلت لها: خذي وأطعمي ابنك.
والله ما أملك بيضاء ولا صفراء، وإن في داري لمن هو أحوج إلى هذا الطعام، فدمعت عيناها، وأشرق وجه الصبي، ومشيت وأنا مهموم، وجلست إلى حائط أفكر في بيع الدار وإذ أنا كذلك إذ مرّ أبو نصر وكأنه يطير فرحًا، فقال: يا أبا محمد، ما يجلسك ها هنا وفي دارك الخير والغنى؟! قلت: سبحان الله! ومن أين يا أبا نصر؟! قال: جاء رجل من خراسان يسأل الناس عن أبيك أو أحدٍ من أهله، ومعه أثقال وأحمال من الخير والأموال، فقلت: ما خبره؟ قال: إنه تاجر من البصرة، وقد كان أبوك أودَعه مالاً من ثلاثين سنة، فأفلس وانكسر المال، ثم ترك البصرة إلى خراسان، فصلح أمره على التجارة هناك، وأيسَر بعد المحنة، وأقبل بالثراء والغنى، فعاد إلى البصرة وأراد أن يتحلّل، فجاءك بالمال وعليه ما كان يربحه في ثلاثين سنة.
يقول أحمد بن مسكين: حمدت الله وشكرته، وبحثت عن المرأة المحتاجة وابنها، فكفيتهما وأجرَيت عليهما رزقًا، ثم اتجرت في المال، وجعلت أربه بالمعروف والصنيعة والإحسان وهو مقبل يزداد ولا ينقص، وكأني قد أعجبني نفسي وسرني أني قد مُلِأَت سجلاتُ الملائكة بحسناتي، ورجوت أن أكون قد كُتبت عند الله في الصالحين، فنمت ليلة فرأيتُني في يوم القيامة، والخلق يموج بعضهم في بعض، ورأيت الناس وقد وُسِّعَتْ أبدانُهم، فهم يحملون أوزارهم على ظهورهم مخلوقة مجسّمة، حتى لكأن الفاسق على ظهره مدينة كلها مخزيات، ثم وضعت الموازين، وجيء بي لوزن أعمالي، فجعلت سيئاتي في كفة وألقيت سجلات حسناتي في الأخرى، فطاشت السجلات، ورجحت السيئات، ثم جعلوا يلقون الحسنة بعد الحسنة مما كنت أصنعه، فإذا تحت كل حسنةٍ شهوةٌ خفيةٌ من شهوات النفس، كالرياءِ والغرورِ وحبِ المحمدة عند الناس، فلم يسلمُ لي شيء، وهلكتُ عن حجتي وسمعتُ صوتًا: ألم يبق له شيء؟ فقيل: بقي هذا، وأنظر لأرى ما هذا الذي بقي، فإذا الرقاقتان اللتان أحسنت بهما على المرأة وابنها، فأيقنت أني هالك، فلقد كنت أُحسِنُ بمائةِ دينارٍ ضربةً واحدة فما أغنَت عني، فانخذلت انخذالاً شديدًا، فوُضِعَت الرقاقتان في الميزان، فإذا بكفة الحسنات تنزل قليلاً ورجحت بعضَ الرجحان، ثم وُضعت دموع المرأة المسكينة التي بكت من أثر المعروف في نفسها، ومن إيثاري إياها وابنها على أهلي، وإذا بالكفة ترجُح، ولا تزال ترجُح حتى سمعت صوتًا يقول: قد نجا.
وقد صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم – في قوله: "اتقوا النار ولو بشق تمرة" ( ) - أخرجه البخاري ومسلم في كتاب الزكاة-
وهناك غير ذلك من أنواع الأمانات، فلينظر كل منا في كل ما وهبه الله عز وجل من نِعَم ويؤدي حقها، ولنزرع ذلك في بذور شجرتنا (أولادنا والأجيال)؛ لنجني ثمارها سواعد لبناء الأمة والدفاع عنها والمحافظة على ثوابتِها وهُويّتها.