فى لندن.. تعرفت وتشرفت بالولد الشقى.. آخر طبعة من كتاب الفكاهة والمسخرة.. فانبهرت به كثيرا.. واستغرق الانبهار خمس سنوات كاملة قضيتها بجواره.. أصحبه وأصاحبه وأتعلم منه لأشرب الصنعة.. صنعة الكتابة الساخرة.. اقتربت منه إلى درجة أنه صار عمى.. مع أنه لم يتزوج أمى!
ومثل الحب من أول نظرة.. صرت صديقا للسعدنى من القعدة الأولى.. التى حدثت منذ ثلاثين عاما.. وقد ذهبت إلى لندن هرباً من الحصار والتهديد والمضايقة.. لأخوض تجربة نفى اختياريه.. ومنذ اللقاء الأول اكتشفت أننى أمام إنسان حقيقى.. وقد اجتذبتنى الحكايات وقعدات الأكل والشرب والاستماع.. دون أن أجرؤ على الكلام.. لأنه من رابع المستحيلات أن تتكلم فى حضرة السعدنى الذى يتكلم وحده.. قطار كلام مندفع.. يدهس من يقف أمامه.. أو يحاول تحويل المسار.. أو خطف ميكروفون الكلام!
السعدنى يتكلم ونحن نستمع ونقترب ونتعارف ونتعلم. ونخوض الاختبارات العديدة.. لأن الولد الشقى وخلال مشوار حياته العريضة. تعرض لبعض الطعنات من بعض المحسوبين على قوائم الأصدقاء والمقربين.. وقد تعلم الدرس فلم يعد متاحا لك، أن تنال درجة »صديق« إلا بعد اختبارات وامتحانات ودروس ومواقف، وقد صرت صديقا للرجل بسرعة ليست عادية.. وبفضله تحول مسار مشوارى الصحفى ، من محرر تحقيقات يهتم بقضايا الاقتصاد، إلى سكة الكتابة الساخرة، وقد وجهنى وعلمنى ، وسمح لى فى البدايات بتقليده أحيانا. دون أن يغضب أو ينزعج.. وقد راقب خطواتى الأولى على الطريق ، لأتعلم درساً فى الصداقة، التى لاعلاقة لها بالزمان أو المكان ، وإنما لها علاقة فقط بقلب ينبض بحب الآخرين..!
المثير أن السعدنى شخصياً لم يبدأ كاتباً ساخراً.. وقد كان أديباً يشار له بالبنان.. تزامل مع يوسف إدريس فى سكة البداية.. وقد صدر لهما فى توقيت واحد كتابين عن مؤسسة روزاليوسف هما أول كتابين لهما.. ليوسف إدريس صدرت »جمهورية رضوان«، ولمحمود السعدنى صدرت "جنة رضوان" وقد تقاضى كل منهما أجراً معقولا من السيدة فاطمة اليوسف صاحبة الدار.. مبلغ خمسة عشر جنيها بالتمام والكمال..!
احترف السعدنى الصحافة بالصدفة، وقد أخذته من دنيا الأدب والمسرح.. ومن أبناء دفعته ، تلمح حسن فؤاد وصلاح حافظ ومحمد عودة وعلى الدالى وفوميل لبيب وعبدالمنعم الجداوى ولطفى الخولى وآمال فهمى..!
ومع أنه تخصص فى البداية فى الشئون العربية، ولمع كثيرا فى هذا المجال، فإن كامل الشناوى - أستاذ السعدنى - اكتشف أنه يعانى من عيب خطير كصحفى للشئون العربية، إنه كان يصادق أصحاب الدم الخفيف من الزعماء العرب، ويبتعد تلقائيا عن الزعماء ذوى الدم الثقيل!
وبعد أن تعرض السعدنى لتجربة السجن مرتين على يد أنور السادات المشرف على تحرير جريدة الجمهورية وقتها«. خرج السعدنى من السجن عام ٠٦٩١، مرفوتا من الجمهورية التى أقسم ألا يدخلها أبداً ، فلبى دعوة إحسان عبدالقدوس ليعمل كاتباً فى روز اليوسف سكرتيرا للتحرير، ثم كاتباً لأشهر عمود ساخر فى الصحافة المصرية »هذا الرجل« الذى لمع كثيرا من خلاله ككاتب ساخر، وفيه شن بأسلوبه المميز حملات صحفية ناجحة، على الساسة ولاعبى الكرة وأهل الفن والأدباء وغيرهم!
يقول عنه كامل الشناوي: إنه كان فى طفولته يملأ حجره بالطوب.. ويمشى فى الحارة ويجرى وعندما أصبح فى الصحافة.. فإنه يملأ حجره بالطوب أيضا..ويقذف الناس والمسئولين ولا يجرى..!
ويهدف من إلقاء الطوب إلى تقويم ما يراه معوجا بالمنطق والعنف، وبالأسلوب النابض الساخر، الذى يتحدى من يهاجم ألا يشعروا باللذة، وهم يقعون تحت ضربات قلمه القاسية!
وميزة المقال الساخر، أنه يفضح ويعرى وينزل بالمسئول الكبير من عليائه ويخلع عنه رداء الوقار والحكمة، فإذا بالكبير أو المسئول، مجرد رجل عادى له من النقائص والأخطاء، ما للآخرين الذين ننتقدهم ونتعامل معهم..!
وطوال مشواره العريض مع المسخرة والهجاء، لم يسخر السعدنى يوما من الصغار أوالضعفاء والفقراء، بل سخر من الأقوياء وأصحاب النفوذ.. ينزل الواحد منهم عن عرشه ويمرمغ به التراب، ولهذا أحب الفقراء والضعفاء محمود السعدنى .
وقد صار سفيرا لهم لدى أوساط الحكام والناس الهاى لايف..!
ولعل لسان محمود السعدنى الفلتان هو ماعرضه للسجن والرفت وبطش الحكام وذات يوم فى أواخر الخمسينيات من القرن الماضى، شن السعدنى هجوما لاذعا على المطرب اللامع فريد الأطرش، ولم يكتف، بل هاجم طائفة الدروز التى ينتمى إليها الأطرش، ففصله المشرف على تحرير جريدة الجمهورية الرئيس الراحل أنور السادات، والسبب أن الوحدة مع سوريا كانت تدق الأبواب، ومقال السعدنى ضد فريد الأطرش »السورى الأصل« لم يكن مناسبا.. وكان يمكن أن يفسر تفسيرات سياسية فى غير صالح الوحدة المرتقبة!
توسط له كامل الشناوى للعودة محرراً للشئون العربية.. وأرسله إلى سوريا ليكتب من هناك.. وبفضل صداقته مع زعماء الأحزاب العربية لاحظ أنه أطلق اسم »أكرم« على ابنه الوحيد.. تيمناً باسم صديقه أكرم الحورانى الزعيم السورى وقتها وطلب منه زعماء الحزب الشيوعى العراقى ، أن ينقل رسالة إلى جمال عبدالناصر.. قالوا له إنهم يفضلون إرسال الرسالة عن طريقه وليس عن طريق القنوات الدبلوماسية ، حتى تصل أسرع!
أعطى السعدنى الرسالة إلى أنور السادات - المشرف على التحرير - الذى قرأها ، ثم طلب القبض على السعدنى فورا وترحيله إلى سجن الواحات.. ولم يعرف السعدنى إلا فى السجن، أن الرسالة كانت تحوى انذارا لجمال عبدالناصر بعدم حل الحزب الشيوعى السوري.، وإلا خاضوا حملة ضده وضد القومية العربية!
و.. تصورت الأجهزة فى مصر وقتها ، أن السعدنى هو مندوب للحزب الشيوعى السورى أو العراقى.. وكانت وقتها قد استضافت جميع التنظيمات الشيوعية المصرية داخل سجن الواحات!
عقب أحداث مايو 1971، دخل السعدنى السجن من جديد، ومكث به ثلاث سنوات.. ثم غادره إلى لندن، ليصدر مجلة »٣٢ يوليو« التى صارت لسان حال الشعب المصرى فى أواخر السبعينيات.. فى ظل المقاطعة العربية لكل المطبوعات المصرية الصادرة عن القاهرة!
تعرف محسوبكم على الولد الشقى ، عندما رشحنى لأعمل معه فى مجلة »٣٢ يوليو« وقد رحبت بالمسألة.. لكننى اشترطت عليه أن يلحقنى فور وصولى إلى لندن بمدرسة لتعليم اللغة الإنجليزية على أصولها . ومن غير المعقول أبدا، أن أعمل وأعيش وأسكن فى عاصمة الضباب ، دون أن أتعلم لغة شكسبير.. وقد رحب السعدنى كثيرا بالفكرة، فحزمت حقائبى وتوجهت إلى العاصمة البريطانية للعمل مع الولد الشقى .
وعيب السعدنى أحيانا، أنه يتعامل مع زملاء المهنة، على اعتبار أنهم مرمطونات وطباخين وجرسونات.. وقد تعامل معى ، ومنذ لقائنا الأول على اعتبار أننى مرمطون له مستقبل باهر فى الخدمة بالبيوت، لأنه عرض علىّ الإقامة معه مجانا.. وتوفير فلوس المسكن الخاص.. وبالمرة نوفر فلوس دروس اللغة الإنجليزية.. على أن يتولى هو تعليمى أصول وقواعد النحو والصرف بالإنجليزية ، اشترط هو شرطا وحيدا أن أساعده فى شغل البيت، وقد رفضت بشدة والدماء الشرقية الحارة تجرى فى عروقى ، رفضت القيام بدور المرمطون، لولا أنه ألح واستعطف، وكاد أن يبكى وهو يشكو الوحدة والمرض!!.
وعرفت وتعرفت إلى ابن البلد فى شخصية محمود السعدني، الذى يعرف الأصول ويقوم بالواجب، ويقف مع الصديق وقت الشدة، يفضل البوصلة الداخلية التى توجهه للاتجاه الصحيح، فيشمر ساعديه، ويخوض المعارك دفاعا عن الحق والخير والجمال، ويتصدى للتخين دون حساب للخسائر والأرباح، فالأصول أصول، وهو يقول نعم عندما يشعر، ويقول لا ، حين يحس.. ولم يقل مرة واحدة نعم وهو يقصد لا!!
ما أحوجنا اليوم إلى صحبة عمنا السعدنى.. الذى انقطع عن الكتابة خلال مشوار العلاج الذى طال حبتين ، فحرمنا نحن المريدين والأصدقاء من الاستمتاع بالصحبة واللمة، ومصاحبة الرجال ، والرجولة لا تعنى الصوت العالى ، أو العضلات المفتولة.. الرجولة عند الولد الشقى هى الشهامة والموقف الشجاع ، وقول الحق دون الخوف من لومة لائم، دون البحث عن ذهب السلطان.. دون الوجل من السجن والاعتقال والنفى والتشريد.. وقد جربها جميعا.. فبرع فيها وتفوق على نفسه!
خمس سنوات كاملة عشتها مع السعدنى فى لندن، ثم ربع قرن بالقاهرة.. تعلمت واستفدت وشربت الصنعة وعرفت الأصول.. وبسبب السعدنى ابتعدت عن سكة التحقيقات والتقارير الاقتصادية.. وصرت صحفيا يكتب بالرمز أحيانا.. وبالتلميح أحياناً أخرى.. لكنك تكتب بالأصول.. لا تخادع ولا تخالف ضميرك.. حتى ولو تعطلت أحيانا.. أو توقفت فى مكانك محلك سر.. المهم ألا تخسر نفسك.. الضرورى أن تكون صديقا للقارئ.. والقارئ ليس من البهوات أصحاب النفوذ والسلطان.. وإنما هو المواطن البسيط والكادح ، الذى يشترى الجورنال بحثا عن كلمة حق وشهادة صدق!!
سنوات كاملة.. عشتها فى لندن لصيقاً بجهود السعدنى.. أتعلم أصول وقواعد اللغة الشكسبيرية، فعرفت أن قطة يعنى »كات« وفرخة يعنى »تشيكن« وجاكتة يعنى »جاكت«.. كما عرفت أسرار وخفايا وأصول طبخ البامية والمسقعة والمكرونة بالبشاميل!