على الرغم من أن علاقة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالإعلام على اختلاف وسائله ومواقع التواصل الاجتماعي، شكلت سابقة تاريخية ليس بين الرؤساء الأمريكيين ولكن في العالم كله، حيث تحول من رئيس دولة إلى منصة إعلامية من خلال الشبكات الإعلامية المؤيدة له وصفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي، هذه الصفحات التي أدار من خلالها معاركه للاستحواذ على مقعد الرئاسة الأمريكية ثم إدارته لسياسات البيت الأبيض داخليا وخارجيا وما أوقعته فيه من معارك مع أقرب المقربين إليه في إدارته، إلا أن هذه العلاقة لم تلفت انتباه الإعلام العربي، وإن فعلت فقد ذهبت باتجاه ما يشفي غليلها من هجومه على الإعلام الأمريكي، وهو الأمر الذي تنبه له وتتبعه الكاتب والصحفي كرم نعمه في مقاله اليومي بجريدة العرب، هذه المقالات التي ضمها أخيرا في كتاب صدر أخيرا عن الدار العربية للعلوم ناشرون بعنوان كاشف "سلاح غير مرخص.. دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسئولية".
وانطلاقا من تتبع ورصد وتحليل الدور الكارثي الذي لعبه دونالد ترامب للنيل من الصحافة، يناقش كرم نعمه أيضا في السياق قضية الصحافة وعلاقاتها المتشابكة داخل المجتمع ومع السلطة والساسة ورجال المال والأعمال، ومواجهاتها لقمع دورها وإفساد تأثيرها، مقارنا بين أدوارها بين الماضي والحاضر والمستقبل، وتأثير تراجع نفوذ الورقي منها خاصة في مواجهة الصعود المتواصل للبوابات والمواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي.
وأكد نعمة، أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على مدار أربع سنوات مثل درسا إعلاميا في غاية الأهمية سواء في علاقته مع وسائل الإعلام، أو في كل ما يصدر عنه من تعليقات وتغريدات على مواقع التواصل؛ لأنه ببساطة يفهم السياسة بأنها التعريف الأمثل للإعلام، ولقد وصف الصحافة بـ "البذرة الشيطانية الفاسدة" وكان يعامل كل الأخبار التي لا تتوافق مع سياسته على أنها زيف مكشوف.
وكان لا يتردد في إهانة وطرد الصحفيين من مؤتمراته، ومع ذلك كان يجد ملايين المتلهفين كل صباح لمتابعة تغريداته على تويتر.
ومثل ترامب على مدار فترته الرئاسية قوة إعلامية قد تفوق قوته السياسية، بغض النظر عن توجهها، وكان يستهدف في تغريداته التنكيل وإقصاء الآخر بكلمات تنطلق من سلاح غير مرخص. الأمر الذي دفع كبرى مواقع التواصل إلى إغلاق حساباته في وقت متأخر من دورته الرئاسية. ومثل ترامب في كل ذلك درسا مفتوحا وشيقا لوسائل الإعلام.
ويقول "ما يثبت أن الرئيس دونالد ترامب يعيش أجواء مشوشة وفق تعبير نانسي بيلوسي رئيس مجلس النواب الأمريكي، أنه أعاد استخدام مصطلح ممهور باسمه عن "الإعلام عدو الشعب"، لأنه يتجاهل عن عمد الصورة المثالية التي افترضتها المقولة التاريخية للرجال الأقوياء الذين كتبوا الدستور الأمريكي والتي فضلت دولة من دون حكومة على دولة بلا صحافة؛ لذلك كتب مبتهجا في حسابه على موقع تويتر الذي يحظى بمتابعة مليونية: "أصبحت وسائل الإعلام الرئيسية في مرمى النيران، وصارت محل احتقار في جميع أنحاء العالم باعتبارها فاسدة وزائفة، متهما الصحافة بأنها عدوة الشعب والحزب المعارض الحقيقي؛ إنه أمر يستحق الاهتمام في التركيز على فكرة "المعارض الحقيقي" التي ربطها ترامب بطريقة مشوشة كعادته بـ "عدو الشعب" في النظر إلى الإعلام، أن يكون الصحافي معارضا مخلصا من أجل إشاعة الحقيقة ومنع الفساد، فهو لا يمكن أن يكون عدوا للشعب، ذلك ما لا يريد أن يدركه ترامب وهو يعيش مرحلة مستمرة من اللعب السياسي المسكون بالشغف العبثي، إن هذا النوع من المعارضة الصحية هو ما يبقي الديمقراطية على قيد الحياة، ويشكل في فحواه واحدة من المسئوليات الجوهرية للصحافة الحرة، وفق تعبير الكاتب الأمريكي نوح فليدمان".
ورأى نعمة، أن النموذج الترامبي لا يمثل مثالا سياسيا يعود له التاريخ كلما أراد أن يقدم عبره للناس، لكنه يكاد يكون أفضل النماذج التي تبحث عنها الصحافة لصناعة قصة تدور من دون أن تثير الملل، ترامب قصة صحافية متجددة، سواء كان بتغريداته المقتضبة أو تعليقاته الجارحة والفاقدة للكياسة أو إيماءاته المعبرة عن الاستغراب والرفض، وأخيرا بمصافحاته المتوترة أو المتجاهلة لأكف الزعماء الممدودو وإن كانت أمام العدسات. علينا ألا ننسى نحن الشركاء في ترويج تلفزيون الواقع السياسي الذي ابتكره الزمن الترامبي، نستيقظ كل صباح لنتابع ما فاتنا من قصص إعفاء أو تنكيل أو وعود بالانتقام قام بها ترامب أثناء نومنا، مثل هذا الأمر مغر ومفيد لوسائل الإعلام، دعك من كلامها عن عداء ترامب للصحافة، لأنها غير قادرة على مقاطعة أخباره. لذلك استمرت قصة مصافحته المتوترة مع ماكرون على مثلا على مدار أسبوع في وسائل إعلام لا تكن الود له".
ويلفت إلى أن صيغة العلاقة بين السلطة والصحافة واضحة بقدر كاف، إلا أنها في حقيقة الأمر ملتبسة، فبمجرد أن تكون الصحافة مهادنة هذا يعني أنها خضعت لإملاءات السلطة، لكن السلطة لن ترحم الصحافة وستشن عليها معركة قاتلة عندما تجدها تهدد بشكل حقيقي وجودها؛ الحكومة والسياسيون الذين يدفعون أكثر من ضريبة الكلام، والصحافة مهتمة بحرية تبادل المعلومات ومنع الفساد والتغول، حتى يبدو تفضيل النظم الديمقراطية الكبرى لصحافة من دون حكومة على حكومة من دون صحافة، حكمة أفلاطونية، لم تتحقق في يوم ما منذ أن كتبت الصحافة مدونتها الأولى في التاريخ؛ العداء كامن بين الصحافة والحكومة ولن تصل هذه العلاقة إلى المثالية مع كل الحماية التي توفرها المؤسسات الديمقراطية للصحافة، غرور الحكومة ومصالحها واندفاع الصحافة وتهورها أحيانا، ليست أجواء طيبة لعلاقة مثالية".
ويتساءل نعمه: هل ثمة حرب على وسائل الإعلام حقا، اندلعت مع وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض؟، ويقول "هذا ما يجد له المخرج الأمريكي تشارلز فيرغيسون إجابة في دفاعه عن وسائل الإعلام، ويقر بإعلان ترامب مثل هذه الحرب بالتزامن مع ضغوط مالية كبيرة على وسائل الإعلام. ويعود فيرغيسون إلى التاريخ من أجل تأكيد فكرة أن الصحف لا تستطيع كشف مواضع الفساد والتزوير ونهب المال العام ما لم تكن قوية ماليا ورابحة تجاريا. ويذكر أن واشنطن بوست ونيويورك تايمز وصحفا أخرى وقفت في وجه الرئيس ريتشارد نيكسون بشأن الغارات السرية على كمبوديا وكشفت فضيحة وترغيت، لأنها كانت صحفا قوية ماليا ورابحة تجاريا، أما اليوم فقد أصبحت الصحف تقلص من عدد صحافييها، خاصة الصحافيين الاستقصائيين، وبيعت واشنطن بوست لشركة أمازون، بينما تعد لوس أنجلوس تايمز وشيكاغو تريبيون في عداد الصحف المفلسة، فيما تتعرض الشبكات التلفزيونية لضغوط مالية كبيرة، ولا توجد الآن في الولايات المتحدة أي شبكة تلفزيونية مستقلة. ويعترف الكاتب سيمون كيلنر بأن خطة ترامب الماكرة لتقويض الصحافة من خلال تهجمه على الصحافيين واستعماله عبارة الأخبار المزيفة، ووصفه الصحافة بأنها عدو الشعب، نجحت في تصوير الصحافة بأنها وسيلة في يدي السلطة القائمة تخدم مصلحتها بينما هو يتحداها لخدمة مصلحة الأمريكيين العاديين".