إبان أن كان أسلافنا معنيين بالانتماء، كانوا معنيين أيضًا بالتعليم، وبصناعة التفوق .. كانت العملية التعليمية بأضلاعها الثلاثة : الأبنية، والمعلم، والتلميذ، تشكل حجر الأساس فى بنية الأمة أفرادًا وجماعات .. هذه البنية لم تكن فى نظر جيل الرواد مجرد بنية وكفى، وإنما تفطنوا إلى أنها يجب أن تنهض على روح التفوق.. بغير هذه الروح تفقد الأمم بوصلتها، فى التعليم، وفى الثقافة، وفى العمل، وفى الرياضة، وتفقد العملية التعليمية التى تصب مادتها وقيمها فى كل هذه الأنشطة وغيرها ـ تفقد أهم أركانها، وتهدر الأثر السحرى الذى تعطيه روح التفوق لدفع التلميذ فى طلب العلم، ودفع المدرس والمدرسة على بذل العلم والحرص على الوصول به إلى أعلى المستويات العلمية والمعرفية والثقافية .
كان الرواد ملتفتين - طلبًا لهذه الروح - إلى إحياء المنافسة بين الطلاب والمدارس والمعاهد والفرق الرياضية، وهى منافسة كانت محوطة بطلب التفوق وصناعة ورعاية مخصباته، وتحريك دوافعه.
حتى عهد قريب، قبل أن تزحف عوامل النحر، كانت جامعاتنا تحتل مكانةً متقدمة بين جامعات العالم، بيد أنها طفقت تتراجع وتتراجع حتى صدمنا تقرير نشر فى فبراير 2008، حمل إلينا أن مكانة جامعاتنا تقهقرت تقهقرًا مزريًّا بما فيها جامعة القاهرة التى كانت فى مقدمة الترتيب العالمى أيام أن كنا نباهى بها الدنيا . خرجت جامعة القاهرة وباقى جامعاتنا من قوائم الترتيب العالمى فى سباق الأفضلية، وسبقتها جامعات لم تُنْشأ إلاّ بعدها بسنوات عديدة .. حتى جامعتنا الأولى العريقة، جامعة القاهرة المنشأة سنة 1908، رجعت القهقرى ليصير ترتيبها 3293، وترتيب جامعة المنصورة 4392، وترتيب جامعة عين شمس 5062، وجامعة الزقازيق 6180، وترتيب جامعة أسيوط 6198 .. هذه النكبة لم تحدث بين يوم وليلة، وإنما هى تراكمات سنوات .. فالتقرير الصادم كشف عن حقيقة قديمة بَحَّت الأصوات بالتحذير من تداعياتها، ومن أن معنى أن تتقدم عليها جامعات مستحدثة بالشرق الأوسط، ومن آثارها أن يفقد خريجو الجامعات المصرية مكانتهم ويبوروا فى إطار المنافسة فى سوق العمالة التى كانت تطلبهم وتسعى إليهم إقرارًا بتفوقهم ! .
الواقع المر أننا تراجعنا عن صناعة التفوق فى كل مجال، فى التعليم وغير التعليم، وليس معنى ذلك أن مصر قد خلت تمامًا من المتفوقين، أو العباقرة، وإنما ظل ذلك اجتهادات فردية خارج السرب، وتعتمد على الملكات الشخصية والكفاح الشخصى والإصرار الشخصى، يجنيها أصحابها رغم قعود الأداء العام عن بذل العناية الواجبة لصناعة التفوق.
تستطيع أن ترى ذلك التفوق والعبقرية فى نماذج كالدكتور مجدى يعقوب، والدكتور أحمد زويل، وغيرهما، بيد أنها محصلات فردية، قوامها الفرد لا النظام العام وما يكفله ويوفره .
كنا نرى الجامعات المصرية تتباهى ويتباهى خريجوها بمكانتها العالمية، وكنا نرى المدارس تتبارى بعدد المتفوقين الأوائل منها ضمن المجموع العام ، ولم نرصد عليها اصطناع نتائج مفتعلة تتباهى بها وتستجلب الرضا والتباريك بلا حصاد فعلى حقيقى .
من أكثر من عشر سنوات، أصدرت الهيئة العليا للتعليم بالولايات المتحدة، تقريرًا عن نتائج ما أجرته من دراسات وبحوث لمعرفة مستوى التعليم هناك، وكان المدهش أن يتضمن التقرير رغم سمعة التعليم الأمريكى التى تضعه فى مقدمة مستويات التعليم بالعالم . أن هناك تراجعا فى مستوى التعليم لديهم بالقياس إلى مستوى التعليم فى اليابان، وأورد التقرير الأمريكى أن الانتماء هو السبب الرئيسى فى تقدم التعليم باليابان، وتراجعه بالولايات المتحدة .
فما الذى حدث لدينا ؟! .
ولماذا لم نواجه أنفسنا بالتراجع المسكوت عنه والنحر الشديد اللذين أصابا التعليم فى بلادنا ؟ ولماذا نحن نفترض افتراضًا أن كل شىء بخير، مع أنه ليس بخير، وكيف لم يعن أحد بعقد دراسات حقيقية واقعية جادة تبين حال التعليم وما أصابه فى مصر، ناهيك بتشخيص المرض أو الأمراض، ووضع وتعاطى العلاج ! .
ما الذى جعلنا نتخلى عن صناعة التفوق التى رعاها جيل الرواد، ولماذا حلت الصورية وشاعت المظهرية اللتان أصابتا العملية التعليمية، ومثلها الثقافية، إصابات غائرة فى الصميم ؟! .
لم تكن صناعة التفوق مطلبا تعليميًّا فقط، وإنما كانت هذه الروح سارية فى الثقافة، وفى العمل والإنتاج، وفى التقاليد والخدمات، وفى الرياضة التى كانت روح المنافسة فيها تُزْرَع بدءًا من مراحل التعليم الأولى، وفى حضانة قائمة على المحبة والأخلاق والتقاليد والمنافسة التى لا تفسد الأواصر والصلات، وإنما تبنى وتعمر .. ونحن نستطيع أن نفهم مكمن العلة التى أصابت الرياضة كمثال، حين نقارن بين ما كانت الروح والأعراف والتقاليد تجرى عليه بأمس فى المنافسات الرياضية بكافة الأصعدة، وبين أساليب التشجيع أيامها، وبين تردى ذلك كله الآن، وتحول روابط التشجيع الرياضى إلى عصابات بلطجة تسب وتشتم، وتدمى وتدمر، وتنحط بالسلوكيات إلى حد ارتكاب الجرائم التى بلغت شناعتها حد قتل ثلاثة وسبعين متفرجا بمباراة رياضية، فى مأساة استاد بورسعيد فى أول فبراير سنة 2012!!.
إن روح التفوق التى كانت تُغْرس فى مراحل التعليم، وفى ميادين الرياضة والعمل، كانت مجدولة بالمنظومة الأخلاقية المستمدة من الدين بعامة، إسلامى أو مسيحى، ومن القيم والتقاليد الموروثة التى حفظت مصر على مدار التاريخ . وهذه الروح ـ روح التفوق ـ خاصية مانحة ذات أثر ممتد، تصاحب الشخص طوال رحلة حياته بما يتخللها من أنشطة وأعمال ومهام .
قيمة هذه الروح، بالإضافة إلى حصادها المعنوى الهائل، أنها تقترن باعتياد الجدّ والالتزام وإرادة السبق الشريف، وتقترن أيضا بمجافاة أمراض المظهرية والاصطناع والفهلوة، وتربى الاعتداد بقيمة الذات، المستمدة من عناصرها ومقوماتها ومكناتها الحقيقية وارتباطها بالأمانة والكرامة التى تنشد التفوق حقيقةً وفعلاً، وتأبى الادعاء بما ليس فيها .. وعلى هذا ينهض الأفراد وتنهض الأمم وتتقدم الدول .
دون وزارة للثقافة، أو مجلس أعلى للثقافة والفنون والآداب، خرج من مصر أجيال الرواد فى الفكر والأدب والفنون .. على أكتافهم قامت نهضة مصر فى جميع المجالات، بدءًا من رفاعة رافع الطهطاوى، ومرورًا بالأستاذ الإمام محمد عبده، وأستاذ الجيل أحمد لطفى السيد، وأحمد شوقى، وحافظ إبراهيم، والبارودى، وزكى مبارك، وقاسم أمين، والدكتور محمد حسين هيكل، وعباس العقاد، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، والمازنى، ويحيى حقى، وزكى نجيب محمود، ومحمد فريد وجدى، وسلامة موسى، وحسين فوزى، والسنهورى، وأمين الخولى، وأحمد نجيب هاشم، ومحمود تيمور، وأحمد رامى، ومحمد مندور، وأحمد أمين، وشوقى ضيف، وبنت الشاطئ، وخالد محمد خالد، وعبد الحميد يونس، ونجيب محفوظ، ولويس عوض، ويوسف إدريس، وسهير القلماوى، وصلاح عبد الصبور، وغيرهم .. وفى الموسيقى والغناء سيد درويش، وعبد الوهاب، وأم كلثوم، وفريد الأطرش، والسنباطى، والقصبجى، وزكريا أحمد، ومحمد فوزى، وسيد مكاوى، والموجى، والطويل، ، وكارم محمود، وغيرهم .. وفى المسرح سلامة حجازى، وعزيز عيد، ويعقوب صروف، وجورج أبيض، ويوسف وهبى، والكسار، والريحانى، وطليمات، وبديع خيرى، ونعمان عاشور وألفريد فرج، ومدبولى، وفؤاد المهندس، وفتوح نشاطى، وسعد أردش، وأمينة رزق، وحسين رياض، والبارودى، وشفيق نور الدين، وغيرهم .. ومن رواد الإخراج السينمائى كمال سليم، ومحمد كريم، وبركات، وبدرخان، وعز الدين ذو الفقار، وصلاح أبو سيف، وفطين عبد الوهاب، ويوسف شاهين، ونيازى مصطفى، وكمال الشيخ، وتوفيق صالح، وغيرهم .. وقس على ذلك فى الفن بعامة، وفى كل الأصعدة والمجالات . كانت روح التفوق قاسمًا مشتركًا بين هؤلاء الرواد، يحفزهم للترقى بأنفسهم وبإنتاجهم وبأعمالهم، ويحركهم بدوافع ذاتية تتجه بهم بلا دفع من أحد ـ نحو المجد الذى تعانقت فيه طموحات الذات مع الواجب نحو الوطن وأجياله، ومن ثم كان غريبا ولا يزال ـ أن تتراجع كافة الأمور فى ظل الوزارة والآليات التى دُفِع بها، وبالميزانيات والجوائز، لرعاية الثقافة وتوابعها، فإذا بالأداء يجهض الغايات، ويأخذ الأمور إلى تفريعات ما أنزل الله بها من سلطان !
إن النخب فى كل مجال، صارت تتآكل ولا تتزايد !!
وصارت صناعة التفوق» فى خبر كان !!
هل صدق المثل القائل من قديم «باب النجار مخلّع»؟! شىء مؤسف حتى النخاع أن نقيم الكيانات لرعاية وصناعة التفوق، فتأخذ الأمور إلى أسفل، ويضيع منا ما أقامه وبناه الرواد وفطمونا عليه من عشرات السنين!.
ظنى أنه صار واجبًا علينا أن نتقدم إلى ما كنَّا عليه!
كتب : رجائى عطية