إن فى التاريخ أناسًا يقف المرء عندهم مختالا ليكتب بأحرف من نور فوق صحائف من ذهب ما صنعوه لأوطانهم، حقًا إن الأعمال أعلى صوتًا من الكلمات، ويموت المرء وتبقى سيرته، التى هى بلا شك أطول من العمر نفسه.
طلعت حرب، أسطورة حقيقية بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، وطنى من الطراز الأول، أيقن بنظرته الثاقبة وفكره المستنير قبل غيره، أن من لا يملك قوته، لا يملك قراره، فعمل على تحرير الاقتصاد المصرى من سيطرة رأس المال الأجنبى، فمصر كان يحكمها الإنجليز والسراى، فنادى بإنشاء بنك مصر، ووجود صناعة وطنية قوية، مدركًا أن الاقتصاد هو الذى يقود السياسة، وأن دولة “بلا اقتصاد قوى” إنما هي دولة هشة، لا تملك في الحقيقة إرادتها.
قرأت مكتوبًا على لافتات فى أماكن متفرقة من القاهرة “طلعت حرب راجع” انتابتنى فرحة عارمة، وتملكتنى قشعريرة لا أعرف أسبابها. ما الخطب إذن؟ لقد رحل الرجل مخلفًا تاريخًا عظيمًا من العطاء، وسيرة تتعطر الآذان بالاستماع إليها. ربما يكون السبب فيما شعرت به، أنه أعاد إلىّ الأمل فى المستقبل، فقد ظهر فى الحاضر الذى نعيشه من لا يزال يتذكر طلعت حرب، فربما تكون بداية قوية لمستقبل أفضل.
إن مشروع طلعت حرب الاقتصادى، هو الوجه الآخر لمشروع تحرير مصر، وطلعت حرب نفسه هو الوجه الاقتصادى لثورة ١٩١٩م، التى قادها سعد زغلول، ومن قبله عرابى ومصطفى كامل ومحمد فريد ومن بعده مصطفى النحاس وجمال عبدالناصر. وطلعت حرب، المولود فى ١٨٦٧، وهو من لقب «بأبو الاقتصاد المصرى» هو مؤسس الشركات والمؤسسات والمصانع التابعة لبنك مصر، التى حملت جميعًا اسم مصر الغالية، مصر للغزل والنسيج، مصر للطيران، مصر للتأمين، مصر للمناجم والمحاجر، مصر لصناعة وتكرير البترول، مصر للسياحة، استوديو مصر، وغيرها من المكونات الأساسية للاقتصاد الوطنى، التى نقلته من التبعية إلى التحرر، طلعت حرب شخصية شديدة الوطنية، وقيادة اقتصادية وفكرية، فحينما حاولت الشركة المالكة لقناة السويس مد الامتياز ٥٠ عامًا أخرى، أصدر طلعت حرب كتابه عن قناة السويس عام ١٩١٠م، وكان هذا الكتاب وراء حشد الرأى العام لرفض هذا الاقتراح الاستعمارى الظالم.
بعد عامين فقط من إنشائه بنك مصر، أنشأ أول مطبعة مصرية، ثم شركة مصر للنقل البرى، ثم مصر للنقل النهرى، ثم مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، التى استقدم لها طلعت حرب خبراء للغزل والنسيج من بلجيكا.
وتوالت مشروعاته لتشمل الأسمنت المسلح، والزيوت، والمستحضرات الطبية، والألبان والأغذية، والكيماويات، والفنادق، والتأمين، وبيع المصنوعات، التى نافست بقوة الشركات الأجنبية الشهيرة في مصر آنذاك بنزايون وصيدناوى وجاتينيو وغيرها، كانت هذه المشروعات جميعها بديلًا وطنيًا للمشروعات الأجنبية، التى كانت تسيطر على حركة الاقتصاد المصرى لنحو ٤٠ عامًا وتمتصه لحساب شركاتهم.
لقد استطاع طلعت حرب تحفيز الادخار عند عموم المصريين حتى الأطفال منهم، الذين وزع عليهم البنك حصالات ثم يأخذ ما فيها بعد فترة، ويفتح بها لهؤلاء الأطفال «خاصة تلاميذ المرحلة الابتدائية” دفاتر توفير بالبنك.
لقد كان طلعت حرب ترجمة حقيقية لمشروع استقلال مصر السياسى، لم يكن - كما أرادت بعض الكتابات الأجنبية- أن تصفه برجل الأعمال الشاطر أو العبقرى، رغبة منها فى التقليل من قيمته التاريخية، ورغم أن هذا الوصف نفسه لا يقلل من شأن صاحبه، بل على العكس، إلا أنه يختزل تاريخًا وطنيًا عظيمًا، قل أن يجود الزمان بمثله.
طلعت حرب، الذى تتجدد هذه الأيام ذكراه، ١٥٠ عامًا على الميلاد، و ٧٦ عامًا على الرحيل بالجسد، «راجع» هكذا يجب أن نحرص، يرجع بفكره، بوطنيته، بإيجابيته.. إننى أدعو نفسى، وكذلك زملائى رجال الصناعة والاستثمار، أن نجعل طلعت حرب دومًا، أمام أعيننا، نموذجًا يحتذى في حب هذا الوطن والتفكير فى مستقبل أجياله.
وأقول لكل القائمين على شئون بلدنا الغالى مصر، علموا أبناءكم من هو طلعت حرب، قوموا بإعدادهم ليكونوا طلعت حرب.. طلعت حرب كان فردًا، لكنه كان أمة «قائمة» بذاتها، طلعت حرب لم يعِش لنفسه، وإنما كرس جهده وفكره، بل وحياته كلها من أجل مصر، أن تتحرر مصر، أن يعيش أبناؤها حياة كريمة، أن تبقى دومًا حرة مستقلة، ترتفع فى أرجائها أعلام العزة والكرامة..
عندما خيره القصر والإنجليز بين ترك بنك مصر أو إفلاس بنك مصر، اختار دون تردد أن يستمر بنك مصر وشركاته وأن يختفى هو من المشهد.
سأقدم جائزة متميزة إلى كل من يجيب عن هذا السؤال: من الذى سار في جنازة طلعت حرب؟.. للاتصال: مجلة المصور - دار الهلال
محمد فريد خميس
رئيس مجموعة النساجون الشرقيون
رئيس الاتحاد المصرى لجمعيات المستثمرين