بقلم – طارق الحريرى
لا توجد منطقة فى العالم تعانى دولها من مخاطر التقسيم مثل العالم العربى هذا المصطلح الوجدانى والتاريخى الذى سربت الميديا العالمية بدلا منه مصطلح الشرق الأوسط، وللأسف وقعت فى هذا الفخ الدوائر السياسية والإعلامية فى البلدان العربية كافة، لقد أصبحت كثير من البلدان العربية حاليا فى وضع بائس مهددة بالتفتت وتعبث الأيدى الخفية هنا وهناك بالسعى إلى تنفيذ مخططات شيطانية، لتقسيم عدة بلدان عربية ومن المحزن أن قوى داخلية فى هذه البلدان تساعد على هذا وهى تحديدا جماعات الإسلام السياسى التى تلفظها شعوب العالم العربى من أجل تحقيق أجندتها باسم الإسلام فى التمكين لعناصرها بالوصول إلى سدة الحكم بأى وسيلة كانت ومن أجل تحقيق هذه الغاية يحركهم تفكيرغير واقعى لايمت للوطنية التى يرفضونها بأى صلة جريا وراء الأممية التى اختفت من المشهد السياسى الدولى، والتى انتفت من أدبيات السياسة فى العالم كله.
خطايا عربية
كما أن هناك دولا عربية تغذى نزعات الانفصال داخل دول عربية أخرى لاتحركها سوى نوازع الانتقام بسبب عدوات بين حكوماتها وحكومات دول تمر بحروب أهلية أو تسيطر عليها بعض القلاقل الداخلية، والدول التى تتبنى هذه الجريمة السياسية فى حق دول أخرى شقيقة..
لم تتعلم من درس التاريخ ومن أحداث معاصرة قريبة فيه بأن مثل هذه الأفعال سوف تطولها بعد حين وتعصف بها، وأن تعميق المذهبية والطائفية خطر داهم سوف يطولها بعد حين وأن انفراط عقد دول قريبة سوف ينتشر كالوباء دون استئذان من أحد، وكان الأولى على الدول العربية الداعمة للإرهاب والجماعات التى تقوم بدور الحرب بالوكالة أن توجه المبالغ الهائلة التى تضخها لهؤلاء فى دفع التنمية والاستثمار فى كثير من الدول العريبة الأخرى التى لايوجد مايعكر صفو العلاقات معها وهى بذلك سوف تفيد وتستفيد لكن للأسف مازال بيننا نحن العرب قصار النظر الذين لايستشرفون المستقبل.
مطامع إقليمية
إقليميا تجد دولا لا علاقة لها بالموروث التاريخى للعروبة ولايهمها إن كان العرب سينهضون أم سيستمرون فى التخلف أم سيمكثون على هامش العصر وهنا علينا ألا ننسى أن إسرائيل تعمل على أن تكون الدولة الوحيدة فى المنطقة العربية التى تنفرد بالتقدم العلمى بل وتسعى لأن يستمر العرب فى غيابهم المخزى عن المشروع الحضارى المعاصر للبشرية ويهمها أن يظلوا فى أنقسامهم وأن يتم تقسيم دولهم وتعمل بكل ما أوتيت من قوة على هدم وتعطيل نهوض العرب ظنا منها أن هذا سوف يحفظ لها مساحة من الآمان مع استمرار تعنتها الإجرامى مع الفلسطينيين، وعلى الجانب الآخر تداعب تركيا التى تعيث فسادا فى سوريا والعراق وليبيا أوهام الخلافة وهى بعد أن أدار لها الاتحاد الأوربى ظهره وجدت نفسها تبحث عن فناء خلفى تمارس فيه الهيمنة التى تساعدها على أن تجد سوقا كبيرا تصرف فيه منتجاتها وأن تصبح القوة الإقليمية الكبرى.
مازال الاستعمار قائما
أما دوليا فإن دول الاستعمار القديم والجديد تعمل على تقسيم المقسم بعد إن قسمت وفتت سياسيا وجغرافيا كيانات عربية تاريخية فى اتفاق سايكس بيكو وهى بنظام فرق تسد لتضمن أن تستمر مصالحها فى توازنات السياسة الدولية دون أدنى اهتمام بمصالح الشعوب العربية، وما يمكن أن يصيب المنطقة من خراب فى ظل وجود التشاحنات بين الدول العربية دون التفات أخلاقى لما يمكن أن يتحقق من رخاء واستقرار وهذه هى طبيعة الدول ذات التوجهات الاستعمارية التى يتعاون البعض معها بل ونفذ أجندتها.
تاريخ الدولة القومية العربية
ظهرت الدولة القومية العربية فى فضاء العالم العربى تبعا للمفهوم السائد فى العلوم السياسية مع بدايات القرن التاسع عشر بعد قرابة ثلاثة قرون من نشأتها فى أوربا فى أعقاب اتفاقية “ويستفاليا” التى أنهت سنوات طويلة من الحروب الدينية وكانت بداية تبلور المفهوم الجديد فى المشهد السياسى العربى مع قيام دولة محمد على الذى نجح خلال حكمه لمصر بالاستقلال والخروج من عباءة الهيمنة العثمانية التى أذاقت العرب الأمرين، فاستشرى فى فترة حكمهم التخلف وقمع المفاهيم والحركات الوطنية ومنذ بداية القرن العشرين بدأت القلاقل فى الشام أعقبتها الثورة العربية الكبرى المسلحة ضد الدولة العثمانية، وبدأت من الحجاز بقيادة الشريف حسين فى يونيه بدعم غير برئ واستعماره من البريطايين وامتدت من الحجاز حتى وصلت إلى الشام لينتهى الحكم العثمانى.
لم يكن العرب يدرون خلال هذه الفترة ما يحاك لهم فى كواليس السياسة الأوربية التى أسفرت عن اتفاقية سايكس بيكو بين قطبى الاستعمار الأوربى بريطانيا وفرنسا حيث أعيد رسم الخريطة العربية بتعسف تجاهل المصالح الوطنية لأبناء المنطقة العربية بما يحقق مصالح الاستعمار، ومع هذا فإن الدول التى نشأت فى المنطقة فيما بعد اتفاق سايكس بيكو لم تشهد ضغائن وصراعات فيما بين شعوبها أو فى ما بين حكوماتها وكانت الوشائج فيما بينها أقوى من أن تتحول إلى نزاعات بين دول تتداخل حدودها وتتجاوز وتتواصل عبر الحدود الجغرافية القبائل والأنساب دون عوائق. وقد جسدت جامعة الدول العربية ولو شكليا أهمية التعاون بين الدول العربية ومازال للجامعة دور مؤثر بدرجة معقولة فى القرار العربى والحفاظ على وحدة الدولة القومية وتماسكها.
فيما بعد اتخذ المشروع القومى العربى بعد التحرر من الاستعمار الأوربى فى المنطقة العربية شرقا وغربا مكانة مهمة فى الفكر السياسى، وأسست لهذا الفكر عوامل لاتتوفر لأى مجموعة بلدان أخرى من وحدة اللغة والدين وصلات القربى فظهر فى سوريا والعراق حزب البعث وفى مصر الناصرية احتلت القومية العربية المكانة الرئيسية فى الخطاب السياسى للدولة وترك هذا فى وقته تأثيرا مهما لدى الشعوب العربية.
مخاطر وتحديات
لكن الدولة القومية العربية تتعرض الآن لمخاطر جمة بعد ما يعرف بثورات الربيع العربى التى أدت آثارها الجانبية التى تم استغلالها من عناصر خارجية إلى مشكلات عميقة فى كثير من الدول حيث تتعرض كل من ليبيا وسوريا لمخاطر التقسيم وتواجه مصر أزمة اقتصادية عميقة ويمر اليمن بحالة مخاض داخلى أدت إلى تطاحن أبنائه، وخارج نطاق دول الربيع العربى، فإن المشهد فى باقى البلدان يحمل فى بعضها بذور فتن وانقسام فمشكلة دارفور فى السودان مازالت معلقة ويواجه العراق تحديات ضخمة مذهبية وعرقية وفى الجزائر يشكل الأمازيج مشكلة كامنة وتواجه كل هذه الدول مؤامرات إقليمية ودولية تسعى إلى تفتيت الدولة القومية فى كثير من البلدان.
وحتى ليكون الكلام مطلقا ويقع فى شرك نظرية المؤامرة تجدر الإشارة إلى موضوع بالغ الخطورة نشرته صحيفة «النيويورك تايمز كتبه “روبين رايت” فى سبتمبر عام ٢٠١٣ تحت عنوان كيف تتحول ٥ دول في الشرق الأوسط إلى ١٤ دولة ؟ يدعو فيه إلى تفتيت ٥ دول عربية في المنطقة بحسب القومية أو الديانة أو الطائفية أو الصراع على النفوذ والبترول، وافتتح التحليل باعتبار أن الخطوة الأولى للتقسيم تبدأ من سوريا التى تجزأ إلى ٣ كيانات سياسية مستقلة هى دولة سنية في الوسط وكردية في الشمال الشرقي وعلوية في الشمال وجزء من غرب سوري، متوقعا أن تتحول ليبيا التى تموج بالصراعات إلى ٣ دول بحسب القومية والصراعات القبلية على النفوذ والبترول دولة فى الشرق وأخرى فى الغرب والأخيرة فى الجنوب.ودعا إلى أن تتحول المملكة العربية السعودية إلى ٥ دول تقسم بحسب القبائل الحاكمة والنزاع على البترول كما سيكون هناك دولة شيعية في شمال السعودية على الحدود مع العراق والأردن.وتوقع أن يتحول العراق إلى ٣ دول، كردية، وسنية وشيعية، وستكون الدولة الكردية هي أجزاء من سوريا والعراق وتركيا ونوه إلى ضرورة أن تنقسم اليمن مجدداً إلى جنوبية وشمالية.
مخططات شيطانية
هنا علينا أن نتذكر أن هذا المخطط بدأ التلميح له والحديث عنه منذ عقود طويلة خلت بدأه من إسرائيل “أودد يينون” واحد من أخطر رجال المخابرات الأسرائيلية ويدعو فى مخططه إلى تأجيج الأيديولوجيات بين الإسلاميين والقوميين والوطنيين من أجل تصعيد الصراعات الداخلية في كل دولة وعرض وقتها خطته في مجلة “كيفونيم” ويرى فيها صراحة أن للتقسيم الطائفي للمنطقة فائدة مهمة فى إرساء شرعية دولة إسرائيل بما أن كل طائفة ستكون لها دولة، فوجود دولة يهودية يصبح مبررا من الناحية الأخلاقية.
وحاليا أيضا تتكرر فى حلقات مستمرة عملية التأكيد على الفكرة حيث عرض أحد رواد الاستشراق المعاصرين البريطانى الأمريكى “برنارد لويس” المشروع الجديد للتقسيم وما خططه لمنطقة الشرق الأوسط حدث في مناطق أخرى من العالم بعد سقوط الاتحاد السوفيتى وهو صاحب خريطة أصدرها في سنة ١٩٧٤ كانت تستهدف نهش أطراف الاتحاد السوفيتي.وممن يقومون بالترويج لخطط التقسيم “رالف بيترز” العقيد الأمريكى المتقاعد ذو التوجه اليمينى المساند لإسرائيل الذى يضع فى الاعتبار الأول الحدود التي توفر الأمن لإسرائيل، أما الاعتبار الثانى فهو لدولة كردية بعد توحيد سنة العراق و سوريا في دولة واحدة (كانت حدودها تتطابق مع المساحة التى كانت تسيطر عليها داعش وأعلنت فيها لأول مرة الدولة الإسلامية السنية )، على أن تمتد دولة أخرى علوية من ساحل سوريا لساحل لبنان، وبالطبع دولة شيعية في جنوب العراق، أما السعودية، فقد اقترح أن يتم تقسيمها كالتالي: جزء في الشمال ينضم للأردن والحجاز يستقل كدولة مقدسات على غرار نموذج الفاتيكان والسواحل الشرقية تذهب لشيعة العراق وجزء من الجنوب الغربي يندمج مع اليمن، أما “جيفري جولدبرج” الإسرائيلى الأمريكى فقد كتب منذ فترة قصيرة سلسلة مقالات فى مجلة “أتلانتيك” ليثبت رؤية التقسيم لكن مع بعض التعديلات حيث تحدث لأول مرة عن دولة مستقلة فى سيناء ووصلت الخريطة هذه المرة لعمق أفريقيا بتقسيم الصومال ونتيجة قوة حزب الله وسيطرته في جنوب لبنان اقترح له دولة شيعية مستقلة وإقامة دولة درزية في شمال الأردن وجنوب سوريا.
ماذا نحن فاعلون؟
يجب أن ينتبه العرب إلى المخططات التى تحاك لهم والأمر بعيداعن أن يكون مرتبطا بفوبيا ونظرية المؤامرة فالكتابات تتعدد جهارا نهارا تتحدث عن تفتيت المفتت بعد سايكس بيكو الذى استقرت خريطته وهى تتعدد من مصادر مختلفة وهناك مراكز دراسات ومراكز بحثية فى الغرب وتحديدا فى الولايات المتحدة الأمريكية تتبنى التوجه الذى يدعوللتقسيم.
فخطط التقسيم التى يتبناها كل من اليمين الإسرائيلي والأمريكي والتى تتواصل من نخب صناعة القرار لديهم ومشروعات التقسيم المقترحة تفصيلية مزودة بالخرائط في كبريات دوريات ومجلات الدراسات الاستراتيجية العالمية وللأسف دون قلق من أن يتنبه العرب لها.
إن سلامة بنيان الدولة العربية الوطنية ليس ضرورة للاستقرار فقط لأنه فى المقام الأول ضروة للبقاء فى وجه هجمة شرسة فى وقت يتعرض فيه جهاز مناعة العرب للضعف وتعانى صحتهم من الوهن.