مازال وقود القتل يلتهم أهالى محافظات الصعيد فى جنوب مصر، فمازال يُسقط يوميا عشرات الضحايا بين قتلى وجرحى.. بسبب خصومات ثأرية على خلفيات قديمة تمتد إلى عشرات السنين أو تمتد إلى عشرات الأيام. لم تخل ليلة تمر على أهل الصعيد إلا وفيها صوت زخات الرصاص تشق صمت الليل بحصاد أرواح بريئة لا ذنب لها.
الصعيد من الأماكن التى اختارها إبليس للإقامة الطويلة.. وهناك بعض العقول التى يسهل على الشيطان أن يلعب فيها وبها لعبة الدم والثأر.. لعبة يتلذذ بها الشيطان ويستخدم فيها بعض أصحاب القلوب المريضة ولو كانوا من المثقفين! وضحايا الشيطان آلاف الأبرياء ومازالت لعبة الدم والثأر مستمرة. إذا كانت هناك مقولة مأثورة تشير إلى أن "معظم النار تأتى من مستصغر الشرر" فإن معظم حكايات الثأر فى الصعيد بدأت بمواقف صغيرة ربما تكون بين الصبية وانتهت بمقتل الرجال.
وقد ابتلى صعيد مصر منذ قديم الأزل بـ "شيطان الثأر" (الشر الجامح- دستور الصعايدة).. مصطلحات تعبر عن أن الثأر هو طائر الموت الحزين الذى يرفرف على حياة أهل الصعيد مختطفا أغلى ما لديهم من شباب ورجال وأحيانا أطفال. الثأر فى الصعيد لا يطبق دائما على القاتل وإنما ربما يطبق على أحد أبناء عائلته بدون ذنب ويعلمون أنه ليس بذراع شر، وهذا يشعل نار الغضب فى قلب أولياء دمه وهم أسرته إذا مات ابنهم، وبذلك لا ينتهى سلسال الدم أبدا.
تلك الظاهره التى لا تعرف تمييزاً بين غنى وفقير أو متعلم وجاهل، فهناك الكل يحمل السلاح دون أن يخفى حاله بل فى معظم الأوقات لا يكلف القاتل الشرطة عبء البحث عنه ويقوم هو بتسليم نفسه ويعترف بافتخاره بدون ضغط أو إنكار بقيامه بالقتل ويعلنها بكل ارتياح.
الثأر ليس مشكلة أمنية فقط، بل هو بالدرجة الأولى مشكلة اجتماعية تتغلغل فى نسيج الفكر الصعيدى التقليدي.. فهناك نسبة كبيرة من المتعلمين والمثقفين لا يستطيعون أن يجهروا برفضهم للثأر كمبدأ، حتى إنهم يتشدقون أحيانا بكلمات منمقة تتخللها كلمات عن التحضر والتسامح، ولكننا نفاجأ بأنهم يشكلون إحدى دعائم إذكاء الصراع بين العائلات عند أول نزاع ينشب.
تعتبر ظاهرة الثأر من أخطر الظواهر الاجتماعية التى عانت منها المجتمعات البشرية، وهى قديمة قِدَمَ الوجود البشرى على سطح البسيطة. وتعتبر من أخطر ما يهدد سلامة وأمن وسكينة المجتمعات، كما تعتبر العدو الأول للتنمية والتطوير، وهذه الظاهرة من أعقد وأصعب الظواهر التى تؤثر فى حياة المجتمع، وتعد من أسوأ العادات الاجتماعية الموروثة التى تهدد الأمن والسلم الاجتماعى وتعيق عملية التنمية فى البلاد وتؤدى إلى سفك دماء الكثير من الأبرياء وإلى قيام العديد من النزاعات القبلية.
والواقع أن الثأر عادة مترسخة بقوة فى الثقافة الجمعية لأهل الصعيد، ولم تفلح وسائل التحديث أن تقاوم أو تحاصر ثقافة الثأر.. فرغم ازدياد أعداد المتعلمين وارتفاع نسبة الحاصلين على أعلى الشهادات الجامعية وزيادة عدد الجامعات والمدارس والتعاطى مع وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، إلا أن عادة الثأر لا تزال موجودة بقوة لا يمكن مقاومتها.. وآخرها كانت المجزرة التى حدثت فى قرية أبو حزام التابعة لمركز نجع حمادى بمحافظة قنا
لعنة الثأر فى صعيد مصر وتقاليد لا ترحم..