"الرصاص هو التعبير العنيف عن منتهى الضعف"، عبارة قالها العظيم الراحل الدكتور فرج فودة "شهيد الكلمة"، رافضًا بها كل معاني العنف والإرهاب في مختلف صورهما، وأصبحنا نوثق بها ذكرى اغتياله التي تنم عن منتهى الضعف من جماعات إرهابية لم تجد من الحُجج والمنطق ما تواجه به فكر مثل فكر فرج فودة وقوته وجراءته، فاختاروا التخفي كالفئران وراء عدد من الرصاصات للتخلص من مصدر تنويري هام سيؤثر في عقول ونفوس الشباب الذين سعوا لتغييب عقولهم واستخدامهم في عملياتهم الإرهابية وأفكارهم التكفيرية وألاعيبهم التجارية الدولية.
ولد فرج فودة في العشرين من أغسطس لعام 1945 في مدينة الزرقا بمحافظة دمياط، في الستينات ألتحق بكلية الزراعة، وحصل على البكالوريوس عام 1967 وهو نفس العام الأكثر ألمًا بالنسبة له حين استشهد أخيه الأصغر في نكسة يونيو.
تعتبر خسارة 1967 من أهم المراحل في حياة الدكتور فرج فودة فقد كسى الحزن والانكسار عليه كأي مواطن مصري شعر بالهزيمة التي حققها العدو على الوطن الغالي؛ غير أنه قسم آراء الناس حول أسباب الهزيمة إلى قسمين، فمنهم من يرى أن يتم العمل بشكل علمي عقلي منظم لمجاراة روح العصر وجمع معلومات بشكل موسع عن العدو وتقديرات الأمور بشكل منطقي، ومنهم من رأى إن العدو ما هو إلا تنظيم قائم على الدين وبالتالي مواجهته لابد وأن تكون بنفس المنطق؛ أي توحيد الأمة الإسلامية لمواجهة هذا العدوان، وقد كان فرج فودة من أنصار الرأي الأول.
كانت نقطة الانطلاقة الحقيقة للجماعات الإسلامية المتشددة - في رأي فرج فودة - بعد هزيمة 1976 استنادًا إلى الاتجاه الفكري السائد والداعي بضرورة تكوين منظمات دينية لمجابهة العدوان الإسرائيلي.
في عام 1975 حصل فرج فودة على درجة الماجستير في الاقتصاد الزراعي، ثم بعدها حصل على درجة الدكتوراه من جامعة عين شمس فى عام 1981، بعدها سافر ليعمل مدرسًا في جامعة بغداد وعاد فأسس مجموعة استثمارية متخصصة في تقييم المشروعات.
ويبدو أن "فودة" كان يميل إلى التدريس الجامعي والبحث العلمي، وكان ينوي استكمال حياته فيه، لكن تغير رأيه كليًا حين صدمه خبر اغتيال الرئيس محمد أنور السادات من قبل الجماعات الإسلامية، فقرر وقتها ترك التدريس الجامعي والنزول لساحة العمل السياسي، وبمناسبة الحديث عن السادات فقد كان الدكتور فرج فودة متفقًا مع سياسة السادات الاقتصادية وتبنيه لتفوق الليبرالية، لكنه عارض السادات عند تعديل المادة التي تنص على أن الشريعة الإسلامية هي "المصدر" الرئيسي للتشريع، بإضافة حرفي الألف واللام وقد اعتبر إضافة هذه المادة تمهيدًا لقيام الدولة الدينية، المقوضة للدولة المدنية.
لم يكن أمام فرج فودة في العمل الحزبي آنذاك غير الانضمام لحزب له تاريخ وطني عريق يحافظ على الهوية المصرية ويتبنى الديمقراطية الحديثة، ففور قرار السادات بالتعددية الحزبية كانت أقوى الأحزاب هي أحزاب التيارات الدينية، فكان قراره بالانضمام للوفد الجديد ليدعو الشعب للمستقبل والعلم والمنطق والسلام ودحض العنف وفصل الدين عن السياسة، لكنه عاد فاستقال من الحزب بعد التحالف مع الإخوان المسلمين وهو ما كان يحاول منعه بقدر طاقته.
بعد نجاح التيارات الدينية في الحياة الحزبية كانت تحذيرات الدكتور فرج فودة تتلخص في الخطر الحقيقي القائم من وراء دخول هذه الجماعات المتشددة ذات الأيديولوجيات التكفيرية هو الرجوع بالمجتمع لعصور ظلامية ونشر قيم العنف والإرهاب والتخلف.
ظل فرج فودة يحارب الفكر بالفكر والأيدلوجية بنظيرها، حتى إنه على الرغم من تشجيعه لخطوات الضبط الاجتماعي العسكري لهؤلاء المتشددين، فإنه كان يميل بشكل أكبر للحوار معهم ومقابلة الفكر بالفكر، كما كان يدعم ضرورة وجود وسائل إعلام علمانية قوية ترد عليهم وتدعو لقيام الدولة المدنية.
اغتيل فرج فودة بعد مناظرتان شهيرتان الأولى يوم 7 يناير لعام 1992 بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، وكان بالطبع ضمن جانب أنصار الدولة المدنية مع الدكتور محمد أحمد خلف الله، بينما على الجانب المقابل كان شارك فيها الشيخ محمد الغزالي، والمستشار مأمون الهضيبي مرشد جماعة الإخوان المسلمين، والدكتور محمد عمارة الكاتب الإسلامي، وحضر المناظرة نحو 20 ألف شخص.
المناظرة الثانية كانت بعدها بحوالي 20 يوما في نادي نقابة المهندسين بالإسكندرية وكانت لنفس الموضوع، وشارك فرج فودة ضمن أنصار الدولة المدنية مع الدكتور فؤاد زكريا، بينما كانت جانب نصار الدولة الدينية: الدكتور محمد عمارة، والدكتور محمد سليم العوا، وشارك فيها نحو 4000 شخص.
بعدها أصدرت جبهة كانت تطلق على نفسها "جبهة علماء الأزهر"، بيانًا نشرته في جريدة النور يُعارض أفكار فرج فودة وينتقدها بأشد عبارات التحريض.
وفي عام 1992 وتحديدًا في الثامن من يونيو في تمام السادسة والنصف تم إطلاق رصاصات الغدر على الدكتور فرج فودة من قبل شابين على دراجة نارية بعد فتوى الدكتور عمر عبد الرحمن مفتي الجماعة الإسلامية بقتل المرتد "كما وصفه" في عام 1986. ولما سُأل من أي كتبه عرف أنه مرتد، أجاب بأنه لا يقرأ ولا يكتب.!
وهكذا رحل الدكتور فرج فودة بعدما ناضل من أجل حياة مدنية لا تختلط فيها دين بسياسة ولا تمتلأ بدعوات العنف والإرهاب والدماء من قبل الجماعات المتشددة، وستظل ذكراه العطرة قائمة، نرويها من جيل لجيل، كان لدينا رجلًا دافع عن قوة كلمته حتى مات فداءً لها ومحبة في وطن أراد أن يراه في أبهى صورة له.