يطلق الشاعر نزار قباني (1923 – 1998) مسمى "الأدب المستريح" على الأدب الذي نشف الزيت في مفاصله وتصلبت عضلات الحركة في قدميه، إنه الأدب الذي نسي غريزة المشي، وحيث هؤلاء الذين لا تخرج مواسمهم عن نظم قصيدة في ذكرى أربعين ميت، أو تهنئة رئيس برئاسة، هؤلاء هم المستريحون الذين عانقوا وسائدهم وناموا منذ عشرين سنة، ناموا، ورياح الفكر العالمي تلطم نوافذهم بدون هوادة، وحوافر التاريخ تنبش تراب بلادنا كما لم تنبشه من قبل.
وهو في كتابه البديع "الشعر قنديل أخضر" (1963) يطرح العديد من قضايا الشعر التي وإن مضى عليها فترة من الزمن، فإنها لم تزل تشغل بال الشعراء والنقاد حتى الآن، خاصة تلك القضية التي أسماها الشاعر "معركة اليمين واليسار في شعرنا العربي".
فهو يرى أن شعراء اليمين - وهم الشعراء الأقرب إلى "المستريحين" - هم "تلك الفئة التي لا تزال ترى في "المعلقة" وفي "القصيدة العصماء" ذروة الكمال الأدبي، وغاية الغايات، وحيث إن القصيدة لديهم هي ذلك الوعاء التاريخي الذي يتسع لكل ما يسكب فيه، والثوب الجاهز لكل القامات وكل الهامات، وهي لديهم قدر محتوم لا نملك له دفعا ولا ردا، وحيث إن اليمين في الشعر العربي المعاصر هو الجانب الوقور الهادئ الذي يؤمن بقداسة القديم، ويقيم له الطقوس ويحرق له البخور، وهو الجانب الذي ارتبط ذهنيا ونفسيا ووراثيا بنماذج من القول والتعبير، يعتبرها نهائية وصالحة لكل زمان ومكان، ويرفض أي تعديل لها أو مساس بها.
أما عن اليسار واليساريين فهو جيل مفتوح الرئتين للهواء النظيف، مبهور بالتيارات الفكرية الجديدة التي تهب عليه من كل مكان فتعلمه أن يثور وأن يرفض وأن يحفر بأظافره قدرا جديدا، إنه جيل يقرأ التاريخ، ولكن يرفض أن يبتلعه ضريح التاريخ".
إن احتكاك اليمين باليسار – من وجهة نظر الشاعر نزار قباني – هو أمر حتمي في كل مجتمع صحيح البنية ومعافى، وهو على حق في قوله هذا، فالمجتمع المريض وحده هو الذي لا تشتبك كرياته الحمراء والبيضاء في صراع شريف من أجل الحقيقة.
وفي فصل "السفينة العائدة" من "الشعر قنديل أخضر" يرى الشاعرُ نفسَه كالسفينة المتعبة التي تعود ليريح الشاعر جبينه "على جبين أصغر حصاة في بلادي"، ونكاد نسمع بكاءه في قوله: ثم يأتي إليك من يقول: أين الوطن في شعر هذا الشاعر؟
لكنه لا يستسلم لبكائه هذا ويجيب: "الوطن مرسوم في كل فاصلة، في كل رشة حبر يتركها أديب على الورق، رائحة الوطن هي رائحة مدادنا، ورائحة شواطئه وجباله وأقماره ونجومه وعيون نسائه هي بعض أبجدياتنا .. بلادنا مجموعة كلمات جميلة".
وفي الفصل الأخير "كلمات مكتوبة بحبر العناقيد" يظهر حب الشاعر الجارف للبنان، وخاصة لزحلة "موعدي مع زحلة .. أحلى موعد أعطيته في حياتي"، و"إنني أعرف أن زحلة أميرة أسطورية تنام على الحرير وتصحو على الحرير وأن ألف فارس ينتظر تحت شرفتها المقمرة.. ومع هذا فقد حملت هديتي وجئت علّ الأميرة ذات الشرفة المقمرة، والعينين القزحيتين، تفتح بابها لتسمع استغفاري وتقبل أشعاري".
وتتوالى فصول الكتاب، فيتحدث الشاعر عن "جانيه والوجودية" وأستاذه مارون عبود، معترفا بأستاذية عبود في إجابته عن السؤال الذي يوجهه لنفسه "وأنتم يا شعراء الفترة الممتدة من عام 1940 صعودا إلى اليوم، من هو هذا الكبير الذي كان يقيّم آثاركم؟" والإجابة هي: كتبنا شعرا في عصر مارون عبود.
وفي فصل آخر يتحدث عن صديقه شاكر مصطفى الكاتب المسرحي فيقول: شاكر مصطفى لا يرمي حروفه رميا على خشبة المسرح، كل فكرة لديه تعرف موضعها، وكل نقطة، كل فاصلة تقف في مكانها وسط ديكور المسرح المضاء.
ثم نأتي إلى الفصل الذي عنون به نزار قباني كتابه "الشعر قنديل أخضر" فيقول في بدايته: أسهر معكم على ضوء حرف جميل، على ضوء هذا القنديل الأخضر الذي يسمونه الشعر. الشعر قنديل أخضر، علقته أصابع الله في داخلنا، قنديل أروع من ألف شمس، أكبر من ألف شمس، لأنه في اشتعال دائم لا يعرف كسوفا ولا خسوفا.
وتمضي بنا الفصول" "الخبز والزنبق" حيث يعترف الشاعر أنه لا يكتب عن الخبز إنما يكتب عن الزنبق، ليس لأنه لا يؤمن بقضية "رغيف العيش" ولكن لأنه يرفض أن يكون أدبه كجمعية تعاونية تموّن الناس بالفحم والزيت والدواء، ولا تهتم إلا بمعد الجمهور وجهازه الهضمي.
وهو يقول صراحة: ليس عندي لكم خبز ولا كساء ولا دواء، ولكن اسمحوا لي أن أحمل إلى بيوتكم بعض الزنبق الذي قطفته لكم من رغوة الثلج في عنق حبيبتي، من صباح ذراعيها. الخبز وحده لا يكفي لملء حياتكم، لملء أيامكم.
بعد ذلك تتوالى ثلاث رسائل إلى صديقاته في ثلاثة فصول "البنادق والعيون السود"، "رسالة إلى صديقة مجندة" حيث إن "معركة بور سعيد هدمت كل مفاهيم الشاعر الجمالية "فلا تستغربي أن أزهد بكل ما تعبق به خزائنك من أصفر وأسود وليلكي، وأقف ساعات أمام بقعة زيت تركتها بندقية على قميص مجندة من بنات بلادي".
وفي الرسالة الثانية إلى حبيبة له حيث تتضح نظرة أهل الشرق إلى الحب في ذلك الوقت، فيقول لها "مزقي هذه الرسالة، إن فيها مادة محرمة، شعر، شعري أنا، ففي مدينتنا تحرق دواوين الشعر كما يحرق الحشيش المصادر".
أما الرسالة الثالثة، فيرد فيها الشاعر على رسلة بعثتها حبيبته تعده فيها إنسانا مغرورا.