لماذا اختار معظم أهل الصوفية "اللون الأخضر" في أعلامهم، في حين اختار آخرون اللونين الأبيض والأسود؟ وهل لهذه الألوان دلالة في علم التصوف، ولدى الطرق الصوفية المختلفة في مصر، وخارجها؟
تقول الباحثة د. نوران فؤاد في كتابها "الصوفية في مصر .. طريقة ومجتمع" الصادر عن سلسلة "كتاب الهلال – العدد 738" إن اللون الأخضر ناتج عن الاعتقاد الراسخ بانتماء هذا اللون للرسول (صلى الله عليه وسلم) وعلى ذلك اتخذته معظم طرق الصوفية لونها المفضل بما فيها الطريقة الجعفرية، التي دار بحث فؤاد حولها (على مدار أكثر من 130 صفحة من 268 صفحة، أي ما يقرب من نصف الكتاب)، فاللون الأخضر يعبر عن كتب الطريقة، وزيها وأثاث مراكزها، وهو يُكسب الطريقة شرعية وجودها وانتهاء نسبها لآل البيت.
وأوضحت الباحثة أن هذا اللون ينتشر أيضا في دولة المغرب، ولدى طرق عديدة في مصر كالطريقة الشاذلية، حيث يلعب اللون دورا في تأكيد الانتماء الصوفي للطريقة وجذب مزيد من الأعضاء الجدد لها. ويحرص الشيخ الحالي للطريقة الجعفرية على ارتداء شال أخضر رمزا للطريقة أثناء الحضرة، بينما يرتدي المريدون نفس الشال، ولكن بألوان أخرى احتراما منهم للمكانة الدينية والاجتماعية لشيخهم، كما يحرص المريد عند حضور الحضرة على العناية بمظهره فيرتدي أفضل الثياب وأحسنها البياض، ويغطي رأسه بالعمامة أو الطاقية.
وتوضح الباحثة – في مقدمة كتابها - أن عدد المتصوفين في مصر وصل عام 2008 إلى نحو 11 مليون صوفي، يتبعون 73 طريقة صوفية، لكل طريقة شيخ يسمى شيخ الطريقة، ويعد ذو النون المصري من الرواد الأوائل الذين أحدثوا تحولا في مفهوم التصوف، خاصة في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، حيث أظهر تحولا في مفهوم التصوف، واستخدم اصطلاحات وتعبيرات خاصة.
وأشارت الباحثة إلى أن الطرق الصوفية قامت بأدوار دينية واجتماعية وثقافية وسياسية مهمة، حيث تعمل على التأكيد على الزهد والروحانية بالإضافة إلى إحياء التراث الشعبي والديني.
فالصوفية على يقين من أنه لن يخرج الناس من شقائهم الذي هم فيه الآن إلا بعودتهم إلى معين الروح ونقاء السريرة وصفاء القلب وغيرها من القيم والمثل التي حرص الصوفية على تربية أبنائهم عليها وطبعهم بها.
ويشير أستاذ الفلسفة الدكتور عاطف العراقي في تقديمه لهذا الكتاب إلى أن الدراسات الصوفية الإسلامية كانت موضع اهتمام كبير جدا من جانب المستشرقين بالإضافة إلى مفكري العرب، وأيضا من جانب دارسي التراث الإسلامي منذ أكثر من نصف قرن من الزمان وحتى الآن.
وتوضح د. نوران فؤاد أن للتصوف في مصر تيارين وهما: التصوف الفلسفي والذي كان سائدا في العصور الوسطى، ويقصد به التوحد مع الله أو مذهب الاتحاد والحلول، ومن روّاده الأوائل الغزالي وابن عربي، والتيار الثاني هو الطرق الصوفية وهو الشق العلمي لتصوف القرون السابقة، وتتضح ملامحها من خلال أوراد خاصة بكل طريقة على حدة، وشعارها الذي يميزها، والمواكب الخاصة بها ورموز أخرى تعبر عن هويتها، وعليه كان التصوف في بدايته مسألة أو ظاهرة فريدة، ولكنه أصبح تدريجيا حالة شعبية أو مسألة شعبية، وأصبح عمليا ومتطورا.
وهي تعرف الطرق الصوفية بأنها جماعات اجتماعية لكل منها رئيس (شيخ طريقة) يتولى إدارتها، وتتشكل من أفراد (أتباع) يحكم العلاقة بينهم قانون داخلي تحدده الطريقة، وآخر خارجي يفرضه المجلس الأعلى للطرق الصوفية، ويربط هؤلاء المريدين ببعضهم البعض علاقة تسمى بالقرابة الشعائرية. ويحرص مشايخ الطرق على إرجاع نسبهم للطبقات الإسلامية التي تبدأ بالرسول (صلى الله عليه وسلم) ثم الصحابة، فالتابعون، فتابعو التابعين، فالزهاد العباد، فالمتصوفة.
وتحرص الباحثة على الحديث عن الطرق الصوفية في أفريقيا، وعن نشأتها في القارة السمراء، وتبين أوجه الشبه ومظاهر الاختلاف بين الطرق الصوفية في تلك القارة، وأدوار الطرق الصوفية فيها، وتشمل النشاط الديني، والنشاط الأسري، والنشاط السياسي والعسكري، والنشاط الاقتصادي، مشيرة إلى أهم الطرق الصوفية بالقارة، وهي الطريقة السنوسية ومؤسسها الشريف محمد بن علي السنوسي (1787 – 1859) الذي أصر على ترك مكة وأقام في الجبل الأخضر في وسط ليبيا، والطريقة التيجانية، ومؤسسها أحمد محمد التيجاني (1737 – 1815)، والطريقة القادرية وتنسب للشيخ محمد محي الدين عبدالقادر بن أبي صالح (المولود 1077 م) وقد انتشرت تلك الطريقة في غرب أفريقيا، ثم امتدت إلى أجزاء القارة الأفريقية. فضلا عن وجود طرق أخرى أقل انتشارا مثل المريدية، والحمالية واليعقوبية وغيرها.
أما في مصر فظاهرة الطرق الصوفية تضرب جذورها في أعماق التربة المصرية، وكان القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) هو البداية الحقيقية لنشأة التصوف في مصر، ومن أشهر المتصوفين في ذلك القرن ذوالنون المصري، وقد أخذ عنه شيوخ التصوف في عصره ليس في مصر فقط، وإنما في أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي. وقد انتظمت الطوائف والطرق الصوفية بعد ذلك، وظهرت طرق مثل: السقطية (نسبة إلى السري السقطي) والطيفورية (نسبة إلى أبي يزيد الطيفوري البسطامي) والجنيدية (نسبة إلى الجنيد) والعزازية (نسبة إلى أبي سعيد العزاز) والنورية (نسبة إلى أبي الحسين النوري) والقصارية (نسبة إلى حمدون القصار).
وخضعت الطرق الصوفية لتنظيم خاص بكل طريقة على حدة، ولكن هذه الطرق لم تستمر طويلا، غير أنها كانت اللبنة الأولى وحجر الزاوية والأساس الذي قامت عليه الطرق الصوفية في القرنين السادس والسابع الهجريين (الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين)، حيث وفد إلى مصر عدد كبير من الصوفية خاصة من العراق والمغرب وأسسوا العديد من الطرق، وتُرجع الباحثة ذلك إلى عاملين هما: أن مصر تعتبر مجتمعا دينيا منذ العهد الفرعوني حيث تشيع فيها روح الزهد والتنسك والتي أكدها العهد الإسلامي في مرحلة تالية. والعامل الثاني بحث أصحاب الطرق الصوفية عن قاعدة عريضة من المريدين والأتباع تمثلها الجماهير المصرية.
وتذكر الباحثة عدة عوامل لعبت دورها في انتشار الطرق الصوفية وتثبيت أقدامها في المجتمع المصري، ومنها: إدراك الطرق الصوفية للطبيعة المزدوجة للتدين الشعبي، واهتمام الطرق الصوفية بالجانب العملي من التصوف أكثر من الخوض في المسائل النظرية الصوفية، ولجوء بعض الطرق الصوفية في بداية نشأتها إلى تشجيع الزواج الخارجي والذي يعمل على تماسك الجماعة داخليا، مما يؤدي فيما بعد إلى انتشار الطريقة جغرافيا، وزيادة عدد أعضائها، بالإضافة إلى وجود وتثبيت كرامات لشيخ الطريقة، ووجود "نقابة الأشراف" في مصر وهو ما يعد في حد ذاته أحد أسباب تدعيم وبقاء الطرق الصوفية، واستمرارها وانتشارها، حيث يوجد في مصر أكثر من 19 نقابة أشراف فرعية في مختلف المحافظات، تضم أكثر من أربعة ملايين مصري.
ثم تتناول الباحثة التنظيم الإداري للطرق الصوفية، وتوضح أن ذلك التنظيم وعلى رأسه شيخ مشايخ الطرق الصوفية يعود إلى عهد محمد علي حيث أصدر فرمانا يسند فيه للشيخ البكري سلطة مطلقة على العالم الصوفي والذي يشمل الطرق والمؤسسات التابعة لها كالتكيات والزوايا والمقامات.
وتتوقف الباحثة عند أوجه الشبه ومظاهر الاختلاف بين الطرق الصوفية في مصر، والدور الاجتماعي لها، والنشاط الثقافي الذي يأخذ الطابع الديني والتعليمي، فضلا عن النشاط الاقتصادي، والأسري، والترفيهي، والنشاط السياسي والذي لا يمكننا النظر إليه بمعزل عن تلك العلاقة ثنائية الوجه بين كل من الصوفية والسلطة.
ويتضح لنا أن العلاقة بين كل من الطرق الصوفية والسلطة هي علاقة احتياج متبادل، فشيوخ الطرق في حاج ماسة إلى سلطة الدولة لتعضدهم وتقوي دعائمهم أمام منافسيهم من معارضي التصوف فكريا وعمليا، وعلى صعيد آخر تحتاج الدولة إلى تلك القوة الصوفية ذات الكثرة العددية، والثقل الاجتماعي والديني والثقافي والسياسي والاقتصادي كدرع واق لها أمام الجماعات الدينية الأخرى. وهكذا أصبحت الطرق الصوفية في العصر الحالي ميكانيزمات تمتمص غضب الجماهير وتحفظ للمجتمع استقراره وتوازنه.
وتذكر الباحثة أن هناك مقالات كثيرة تناولت ظاهرة الموالد في مصر، كظاهرة عمرها أكثر من ألف عام، حيث يوجد 294 ضريحا من أضرحة الأولياء. كما توقفت عند الكتابات الأدبية حول سير الأولياء وبركاتهم، وإلى الموقع المهم الذي يمثله الأولياء في المزاوجة بين الإيمان الديني والمعتقدات الموروثة، مشيرة إلى قصة "مولد الشيخ حمزة" لمحمود السعدني، وقصيدة صلاح عبدالصبور حول الصوفي بشر الحافي، فضلا عن إظهار صورة الولي في بعض المسلسلات والأفلام السينمائية المصرية مثل "آدم يعود للجنة" و"سارق الفرح" و"الزوجة الثانية" و"الأرض".
وتتوصل الباحثة إلى أن نشأة الطرق الصوفية في كل من مصر وأفريقيا تتفق على أنها رغبة من الشعب، فبالنسبة لمصر كانت نشأتها هي البديل للثورة على ظلم الحكام، وفي أفريقيا كان انتشارها رغبة من الشعب في مكافحة الاستعمار.
ثم تتخذ الباحثة من الطريقة الجعفرية الأحمدية المحمدية مثالا تقدمه لنا، وتتبحر فيها، وتحضر بعض اجتماعاتهم وتنقل لنا ما يدور في تلك الاجتماعات والموالد الخاصة بالطريقة التي ينتسب مؤسسها صالح الجعفري إلى جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن الإمام علي كرم الله وجهه، ثم تعرض لنا – بعد ذكر نسبه – مؤهلاته العلمية، وتصوفه، ومؤلفاته، ووفاته (يوم الاثنين 18 جمادى الأولى سنة 1399 هـ = 1979م) ودفن بجوار مسجده الذي أنشأه قبيل وفاته بحديقة الخالدين بالدراسة بالقاهرة، وحاليا يرأس تلك الطريقة الشيخ عبدالغني صالح الجعفري، الابن الوحيد لمؤسسها.
إن دراسة د. نوران فؤاد تطرح رؤية مستقبلية حول ظاهرة الطرق الصوفية بصفتها قوة اجتماعية لتقريب الناس، انطلقت من خصوصية الواقع المعاش، وما يشهده من تغيرات في هذه الآونة. فمجتمعنا المصري يمر في الوقت الراهن بتحديات كبيرة وبمرحلة انتقالية مهمة يسعى فيها قدما نحو التجديد والتقدم والابتكار، لذا تمثل الطرق الصوفية طرفا ثانيا في المرحلة، يمكن أن يساهم في بلوغ هذه الغايات.
وقد لاحظنا أن الباحثة لم تتوقف كثيرا عند سلبيات الممارسات المتعلقة بهذه الطرق أو اعتبارها إحدى الظاهرات الاجتماعية المجافية للحداثة، والتي يجب اختفاؤها تلقائيا أو القضاء عليها إراديا، كما دعت إلى ذلك العديد من الكتابات والدراسات السابقة، بقدر ما حاولت تجاوز ذلك بالدعوة إلى إصلاحها وإعادة تنظيمها والتنسيق بين أنشطتها بصورة أكثر مما هي عليه الآن.