كثيرًا ما ندعو إلى تنوير العقول، وننظر إلى هذه الدعوة بوصفها رسالة علينا الاضطلاع بها للنهوض بمجتمعاتنا من حالة التخلف والتردي إلى حالة التقدم والترقي، متبعين في ذلك منهجًا نقديًا تحليليًا، لفحص أفكارنا ومعتقداتنا، كي نفهم مصدر الأفكار الكامنة داخل رؤوسنا، من أين جاءت؟ وكيف تكونت؟ وعلينا أن نفرز الصائب من الباطل منها، ونميَّز بين الجيد والرديء.. فإذا كانت الفكرة جيدة نُبْقِيها، أما إذا كانت رديئة فنطرحها جانبًا.
ولكن السؤال الأهم الآن، هو:
كيف يتم فرز الأفكار؟
وكيف نميز الجيد عن الرديء منها؟
ما معيار صحة الفكرة وصوابها؟
ما الذي يحدد ما إذا كانت الفكرة ذاتية المنشأ أم مُكتسبة؟
هل هناك إنسان بمنأى عن التحيزات بشتى أنواعها (سياسية ودينية وعرقية وطائفية... إلخ)؟
كيف يمكن لأحكامنا ومواقفنا أن تكون موضوعية؟
علامات استفهام كثيرة وكبيرة تحتاج إلى إجابات دقيقة، سوف نسعى من جانبنا الإجابة عنها:
إن معيار صواب الفكرة – فيما نرى - هو ضرورة استنادها إلى العقل. إذ إن العقل هو الذي يميز الإنسان عن سائر الكائنات، فليكن احتكامنا بالدرجة الأولى إلى الأسانيد والبراهين العقلية.
والمعيار الثاني لصواب الأفكار يتمثل - فيما نظن – في بعدها الإنساني.. فكلما اتصفت الأفكار بالشمولية والإنسانية، وابتعدت عن التحيز لفئة أو عقيدة أو جنس من البشر على حساب فئة أو عقيدة أو جنس آخر، كلما كانت أصوب.
ولنأخذ مثالاً على ذلك:
«الحرية»
هذه فكرة.. إذا رغبنا في فحصها، فعلينا استنادًا إلى معياري (العقل، والبعد الإنساني) أن نطرح بعض التساؤلات:
هل الحرية مطلب إنساني؟
هل هي فكرة جيدة أم رديئة؟
هل هي فكرة مستمدة من أيديولوجية معينة مناهضة لأخرى؟
هل قامت بغرسها في عقلنا فئة من البشر لنعادي بها فئة أخرى؟
وهل السعي لتحقيقها يتوافق مع مبادئ العقل؟
الإجابة عن هذه التساؤلات تحدد كنه هذه الفكرة وأصالتها.
لا شك أن الحرية مطلب إنساني، نادت به المذاهب الفكرية المختلفة، ودعت إليه الديانات السماوية والوضعية، ومن ثمَّ فالدعوة إلى الحرية، هي دعوة إنسانية، ليست مقتصرة على دين دون آخر، أو مذهب دون غيره.
بقى أن نفهم؛ بأي معنى نحن نفهم الحرية؟
ما حدود هذه الحرية؟
هل هي حرية مشروطة أم مطلقة؟
هل إذا أردت الآن أن أمدد ذراعي، فهل يحق لي أن أجعلهما يمتدا حتى يرتطم أحدهما بأنف من يجلس بجانبي؟
إذا وافقت أنا على هذا المعنى للحرية، ورضيت أن يكون هذا قانونًا عامًا يحكم البشرية كلها، فإن أنفي سوف يتحطم في أقرب فرصة يجلس فيها بجواري شخص قوي البنية، وشاء أن يمدد ذراعيه.
إذا وافقت على أنها حرية مطلقة غير مشروطة، وارتضيت أن تكون قانونًا عامًا للبشرية كلها، وأردت أنا أن أمارس الجنس مع امرأة لا تربطني بها صلة، فهذا معناه أنني ارتضيت أن يمارس أي شخص غريب الجنس مع ابنتي أو شقيقتي أو زوجتي أو والدتي، لأن هذا هو قانون البشرية.. وهكذا في بقية القيم والأفكار.
وحتى نتفادى حدوث هذه الفوضى، يجب علينا - كما يقول - الفيلسوف الألماني «كانط» Kant : .
أن يسلك الواحد منا في حياته وكأنه يضع «قانونًا عامًا يحكم البشرية كلها».
وضرب كانط أمثلة بمن يرغب في «الانتحار»، فهو حين يُقْدِم على الانتحار يجب عليه أن يتذكر أنه بسلوكه هذا يُشَرّع للبشرية أن تفعل مثله وتنتحر، فيفنى كل البشر.
وضرب مثالاً آخر بمن يعطي «عهدًا كاذبًا» ويعلم أنه لن يفي بما وعد، فهو حين يسلك على هذا النحو فعليه يتذكر أنه بسلوكه هذا يُشَرّع للبشرية أن تفعل مثله، وبهذا سوف تنعدم الثقة بين كافة البشر.
وما دمنا نتحدث عن معيار صحة الأفكار وبطلانها، علينا أن نقول بوضوح بضرورة الوقوف على مسافة واحدة من كل المذاهب الفكرية والسياسية والطوائف والمعتقدات الدينية، حتى يمكننا أن نحكم حكمًا عقليًا سليمًا على تلك المذاهب والطوائف والمعتقدات، إن إصباغ المقدس على ما هو بشري يحول دون إصدار أحكام صائبة، ويؤدي إلى الخلط في الفكر والأفكار.
إن ملايين الأرواح التي أزهقت عبر تاريخ البشرية الضارب في القِدَم، والتي سوف تُزهق مستقبلاً، إنما تم ذلك جرَّاء اعتناق أفكار أيديولوجية معتمة، لم تخضع لميزان العقل، بل تأججت بعاطفة دينية هوجاء دفع ملايين من الأبرياء حياتهم ثمنًا لها، ومازال حتى هذه اللحظة التي نعيشها ملايين آخرون مستعدون لدفع حياتهم – عن طيب خاطر – ثمنًا لهذه العاطفة العمياء!! .
أما إذا تساءلنا عن مصدر المبادئ الأخلاقية، فسنجد كثيرًا من الناس يبادرون بالإجابة: « إن الدين هو مصدر الأخلاق»، من خلال الكتب السماوية نميز ما بين الخير والشر، والحرام والحلال. الكتب السماوية جميعها تدعو للفضيلة وتنهى عن الرذيلة. وهذا كلام صحيح، وصحيح أيضًا، أن هناك مجتمعات لا تؤمن بأية ديانات سماوية كاليابان والصين وغيرهما، ومع ذلك يلتزم أفراد تلك المجتمعات في سلوكهم اليومي بالقيم الأخلاقية، على أفضل ما يكون الالتزام.
ومهما يكن من شيء، فإن الدين ليس هو المصدر الوحيد للالتزام الأخلاقي، فهناك مصادر أخرى كثيرة ومتنوعة كالضمير والشعور بالواجب والتربية والعادات والتقاليد الاجتماعية، كلها تفرض علينا منظومة من المبادئ الأخلاقية، والتي قد تختلف باختلاف المجتمعات والأزمان.
ولكن ما يمكن قوله هو أن الإنسان كائن أخلاقي، إذ يمتلك ثلاثة عناصر ضرورية، لابد من توافرها في أي كائن أخلاقي، وهى:
1- العقل
2- الإرادة
3- حرية الاختيار
ولذلك فالإنسان هو الكائن الأخلاقي الوحيد في هذا العالم، لأنه الوحيد الذي تتوافر فيه هذه العناصر الثلاثة، الحيوان ليس كائنًا أخلاقيًا، رغم أن بعضنا يصف الكلب بصفات أخلاقية كالوفاء، والإخلاص الشديد لصاحبه، إلا أن ذلك لا يصدر عن عقل وحرية وإرادة، ومن ثمَّ، لا يُعَد الكلب كائنَا أخلاقيًا، كذلك لا يمكن وصف الملائكة بأنها كائنات أخلاقية، إذ إنها لا تملك أن تفعل شرًا، فهي مجبولة على فعل الخير، لا خيار لها سوى فعل الخير، ومن ثمَّ فإن الإنسان وحده الذي يمكنه أن يسلك طريق السلامة أو طريق الندامة، كلٌ حسب ما تمليه عليه إرادته، إن كانت خيرًا فخير، وإن كانت شرًا فشر.
دكتور حسين علي/ أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس