الأربعاء 29 مايو 2024

العقد الاجتماعى للجمهورية الجديدة

مقالات29-6-2021 | 22:17

منذ مطلع يناير عام 2011 تم تسويق فكرة «التغيير» كمطلب سياسى، مصحوب بعملية منظمة إعلاميًا وحقوقيًا وإخوانيًا لدفع ذلك المصطلح نحو الشارع، وذلك من أجل صناعة مطلب جماهيرى ضاغط على الأنظمة.

 

موجة التغيير التى تم إطلاقها.. وقتها ظلت عن عمد تحاصر ذلك المصطلح فى مرحلة «الشعار» دون إرادة حقيقية لتحويلها إلى واقع عملى، لكن الإرادة التى كانت فاعلة وقتها مدعومة بتواصلات واتصالات وتمويلات خارجية كانت تريد تحويل الشعار إلى مطلب مفتوح بلا سقف؛ لخلق حالة تمرد عام وتحويلها لنمط ثقافى واجتماعى ليس رافضًا الأنظمة السياسية بل متجاوزًا ذلك برفض فكرة الدولة الوطنية من أساسها!.

 منذ تلك اللحظة أديرت عجلة «التغيير» من أطراف خفية وأخرى معلنة، غازلت فيها مشاعر وأحلام الجمهور فأحدثت كل الأعراض الجانبية لتلك المحاولات دون الوصول لواقع فعلى لهذا التغيير، لتكشف التجربة عن أن ما كان مقصودًا هو استخدام آمال وطموحات  التغيير لإحداث حركة فى الشارع ودفعها نحو حالة سقوط سياسى حر، عبر توريطها فى مسارات إجبارية تندفع نحوها بقوة طوفانية دون أن يكون لها نهاية، وأنه لم يكن المقصود أبدًا إحداث تغيير نحو الأفضل، إنما خلق حركة جماهيرية انشطارية عشوائية الاتجاهات لا يمكن السيطرة عليها خاصة إذا ما كانت مقرونة بحملة تشكيك وتخوين لكل مؤسسات الدولة.

تطورت الحركة مرورًا بما حدث من تسليم الدولة بالكامل لتنظيم عصابى إخوانى متخابر ثارت عليه الجماهير، وبرغم عظمة ما حدث إلا أن هناك من حاول إعادة استخدام حركة التغيير لإنتاج الفوضى المستدامة وتحويلها لنمط سلوكى يمكن تسميته «بعقد الفوضى الاجتماعية الجديد»!. 

وسط هذه الحالة كان وزير الدفاع آنذاك «عبدالفتاح السيسى» قد قرر النزول على رغبة الإرادة الشعبية والتصدى لمسئوليته الوطنية فى ظروف بلغت من التعقيد منتهاه، منذ تلك اللحظة أدرك السيسى أن المطلوب هو إعادة صياغة عقد جديد يستلزم تجديدًا جريئًا للخطاب الاجتماعى ومواجهة الأنماط السلوكية الناشئة عن حركة الفوضى المخلقة.

لقد تقدم السيسى إلى مسئولية القيادة استجابة للنداء والإرادة الشعبية، وقد أعلن خلال لقاءاته الانتخابية التى سبقت ترشحه للولاية الأولى أنه لا يملك سوى العمل، وقد سبقها خطابه الذى أعلن فيه الاستجابة للترشح، والذى أكد فيه مرارًا وتكرارًا أن مصر بلد له حرمة وله سيادة، وأن فترات الاستباحة يجب أن تتوقف.

لقد كان كلام الرجل شديد الوضوح بضرورة صياغة عقد اجتماعى جديد يضع قواعد محددة من أجل الإدارة الرشيدة للتغيير، والتى تقوم أساسًا على أن هذا التغيير ليس شعارًا نظريًا، بل عملًا شاقًا طويل المدى، وأن حركته يحب أن تكون فى اتجاه تحسن وتطور عيشة المواطن.

منذ اللحظة الأولى ارتكزت فلسفة العقد الاجتماعى للسيسى على أن المستهدف الرئيسى لمطالب التغيير يجب أن يكون ضامنًا ومحافظًا على قوة الدولة الوطنية، وهذا لن يحدث إلا من خلال إدارة مؤسسية للتغيير؛ أى الارتقاء به من مرحلة الشعبوية إلى مرحلة المؤسسية.

إرادة السيسى لصياغة عقد جديد لم تكن خيارًا منفردًا أو رؤية أحادية، بل فرضتها تحديات التجربة المؤلمة، بعد إزاحة نظامين متتاليين فى غضون ثلاث سنوات، مما أثبت بشكل جازم أن الحاجة لعقد جديد أصبحت ضرورة من أجل الإنقاذ، ومن أجل صون السلام الاجتماعى.

لقد أخذ السيسى على عاتقه سرعة إنجاز وصياغة بنود عقد «الإنقاذ الاجتماعى»، وبدأ بنفسه عندما قرر الانتقال من الشرعية الثورية إلى شرعية الإنجاز، أى أن دعوته القومية بضرورة العمل الجاد بدأت بنفسه من خلال تحديد التزامات رئاسية محددة رتبت مسئوليات محددة، فانعكست على حركة العمل فى كل شبر من الدولة، وبات المواطن يرى بنفسه وأمام عينيه مسارات التمويل قد تجسدت فى مشاريع لم تغفل أبدًا الارتقاء بحياة المواطن الذى تُرك ضحية الإهمال لسنوات طويلة فتزعزعت بداخله فكرة وجود الدولة الراعية، ليجد الآن مشروعات الإسكان تتم برعاية الدولة لانتشاله من مستنقع العشوائيات الذى جعله فريسة لتيارات الإرهاب أو الفساد.

كانت حركة السيسى تعرف طريقها واتجاهاتها بعد أن أدرك حتمية تغيير الواقع الاجتماعى البائس الذى سمح بخداع المواطن، وتغييبه واستدراجه لدعاوى التغيير من أجل التدمير.

 ارتكزت الفلسفة الرئاسية الجديدة على جرأة التغيير وامتلاك القدرة على إدارته، وقبل أن يطالب بتجديد الخطاب الدينى بدأ مسرعًا فى تجديد الخطاب الاجتماعى والإدارى من أجل خلق حالة وعى جمعى تكون قادرة على استيعاب ما يجرى، إلا أن فلسفته قد التزمت بالمواجهة المستمرة للواقع، وأن حجم الطموحات والتطلعات يجب أن يوازيها حجم مماثل من العمل والتضحيات، وإلا ظلت رهينة لأوهام اليقظة، لقد أصر السيسى على صياغة عقد اجتماعى جديد توثقه أعمال على أرض الواقع، وليس عقدًا عرفيًا لم تبرح بنوده حناجر من يهتفون بالشعارات.

برغم التعقيد الذى يبدو قد أحاط بهذه الفلسفة إلا أنه وبرغم صلابتها فإن حقيقة الأمر تبدو فى غاية البساطة، إذا ما تخيلنا أن السيسى قد قام بإعادة استطلاع الخريطة الاجتماعية لما قبل ٣٠ يونيو ومتأملًا أسباب ما حدث ونتائجه، ليقرر على الفور البدء فى عملية «إعادة انتشار اجتماعى» للدولة على كامل مساحة أراضيها، وصولًا إلى أبعد نقطة فى مساحات احتياج المواطن، فخلفيته العسكرية أتاحت له رؤية استراتيجية مقرونة بقدرة على أداء الأدوار المتوازية فى توقيتات قياسية بدقة متناهية.

■ ■ ■

قبل أن يُبرم «السيسى» العقد الجديد المرتكز على فلسفة العمل الدؤوب، ألزم نفسه بثقافة العمل الشاق وبمبدأ المحاسبة لكل من يخطئ مهما كان منصبه، فإدارة عملية التغيير ليست بالأمر الهين، ودولة بحجم مصر لا يمكن أن تُترك فريسةً للإهمال، لكن آلام التغيير يجب أن تواجه بقدرة قومية على الاحتمال وجرأة مواجهة الحقيقة.

على هوامش العقد الجديد سالت الدماء الزكية، لم تذهب هباءً، بل دمغته بخاتم الإخلاص، فإذا كان هناك من قدم دماءه فداءً لهذا الوطن فإن عدالة العقد تقول إن تقدير عرق الشقاء والعمل الجاد ليس أمرًا مستحيلًا.

نُشر بالتعاون مع جريدة روز اليوسف