الأحد 2 يونيو 2024

«الفيروس الغامض».. تهويل إعلامى.. وحقائق قليلة

15-5-2017 | 12:32

بقلم –  أحمد عبداللطيف أبو مدين
الطبيعة لا يمكن تحديها.. الطبيعة يمكنها تغيير استراتيجياتها فهى تقابل الهجمات المضادة لها بكل عنف وبلا هوادة، وتستطيع فرض نفسها وقوتها باستبدال أسلحتها بأدوات جديدة متطورة تتحدى محاولات الإنسان،لتحول انتصاره إلى هزيمة.
الطبيعة تقاوم، وتصمد وليس هناك أبلغ من ظهور فيروس الإيدز المفاجىء والقاسى بعدما أعلنت منظمة الصحة العالمية الانتصار الحاسم على أعدى أعداء الإنسانية ونهاية «فيروس الجدرى» الذى ظل عبر قرون عديدة من التاريخ الإنسانى ينتشر على هيئة أوبئة عالمية تجتاح شعوب بأكملها تحصد ملايين البشر.
لم تترك الطبيعة الإنسان هانئا بانتصاره على الجدرى إلا عدة شهور قليلة لتقدم له «طاعون العصر» القاتل الكئيب  “فيروس الإيدز” تحذيرا له من الخروج عن فطرة الطبيعة ثم خرجت علينا مجموعات من الميكروبات الأخرى المتحورة تهاجم البشر فى كل مكان على سطح الأرض.
فى الآونة الأخيرة تداولت وسائل الإعلام المصرية أخباراً عن ظهور فيروس غامض أصاب عددا من الناس توفى بعضهم ونقل الباقى إلى مستشفى الحميات مما أثار الذعر بين الناس وساهم بيان مقتضب صدر عن وزارة الصحة فى ازدياد وتيرة القلق ورغم التحفظ على هذه الأخبار، حاولت رصد ظهور هذا الغامض ولكن تبين بعض الملاحظات العلمية المهمة فى هذا الموضوع بناء على خبرة تعود لأكثر من نصف قرن من الزمان فى مجال الأمراض المتوطنة والمعدية بجامعة القاهرة.
أول هذه الملاحظات هي اندفاع بعض وسائل الإعلام بحثا عن الإثارة فى عرض الموضوع بطريقة غيرعلمية يشوبها التهويل، وقبل الإعلان عن وجود هذا الفيروس الغامض كان يجب تحديد دقيق للتاريخ المرضى للإصابات ويشمل كيفية البداية، وهل هى حادة أو تدريجية والمظاهر المرضية مثل ارتفاع الحرارة أو الكحة أو القىء والإسهال أو الطفح الجلدى وشكله، وهل كانت هناك أعراض عصبية مثل التشنج أو الصداع الشديد، ويجب معرفة التطورات الأخرى المرضية ومسار ظهور الأعراض على الأعضاء المختلفة مثل الرشح وضيق التنفس أو النزيف أو تغير لون البول والصفراء ثم محاولة التعرف على كيفية انتقال العدوى وتجميع البيانات الطبية التفصيلية من جميع الحالات المصابة لمحاولة الوصول إلى القاسم المشترك المسبب للمرض.
ويجب أن يؤخذ فى الاعتبار مكان الإصابات ومحاصرتها والبحث عن ناقلات المرض مثل الحشرات بأنواعها أو الحيوانات والطيور مثل البحث عن التلوث ودراسة نظام إمداد ماء الشرب والصرف الصحى والظروف البيئية المختلفة مثل وجود البرك والمستنقعات، ويجب أخذ عينات من دم وسوائل الجسم من جميع الإصابات وعزلها فى أجهزة خاصة لفحصها فى المعامل المتخصصة، ويجب أن يخضع جميع المرضى للفحص الإكلينيكى الدقيق وإعادة الفحص دوريا ويجب عمل فحص تشريحى للمتوفين مع أخذ عينات باثولوجية ومعملية، وكذلك فحص المخالطين، ومراقبتهم طبيا مع الإبلاغ عن أى مظاهر مشابهة وفى النهاية تحديد الإجراءات الوقائية اللازمة المبدأية وتحذير المواطنين إذا كان هناك شبهة انتشار وبائى مع تحديد البرنامج الوقائى الواضح للعامة.
وللتعرف على كيفية الظهور المفاجىء لميكروب مرضى غامض غريب يجب معرفة الفرق بين المرض المتوطن والمرض الوافد الغريب فالمرض يصبح متوطناً عندما يكون السبب المحدد للمرض موجوداً بصفة دائمة في المجتمع أما الأوبئة فهى انتشار مفاجئ وسريع لمرض ما في رقعة جغرافية فوق معدلاته المعتادة والوباء هو حالة مرضية تحدث عندما يصاب عدد كبير جداً من الناس في المجتمع بمرض معين في نفس الوقت.
ومن الأسباب التي يمكن أن تؤدى إلى ظهور الوباء انتشاره عن طريق الطعام والشراب خاصة لإمدادات مياه الشرب مما يؤدى إلى إصابة جماعية لعدد كبير من الناس.
ومن أشهر أسباب ظهور الوباء، الرذاذ وهو سبيل متاح وسريع وفتاك يصيب التجمعات الإنسانية وقد حدث ذلك فى أوائل القرن الماضى عندما أصاب فيروس الأنفلونزا الشهير «اتش1 أن 1» حوالى 75 مليونا من البشر فى أعقاب الحرب العالمية الأولى مخلفا ضحايا أكثر مما خلفته الحرب نفسها.
ولأن الطبيعة لايمكن تحديها فهى تغير استراتيجية كائناتها الدقيقة وتتكيف وتتطور لتواجه تحديات الإنسان ليصبح الظهور المفاجىء للوباء أحياناً نتيجة حتمية طبيعية لتحور جينى لمسبب مرضى ميكروبى قليل الضراوة والذي قد يتغير ليصبح أكثر شراسة، وهذا يعني أن بإمكانها أن تصيب الناس بسهولة أكثر وتجعلهم مرضى.
ومن أسباب الظهور المفاجىء لمرض جديد والذى غالبا ما يكون مقدمة تبدأ به العديد من الأوبئة التى تجتاح الناس هوعدم خبرة أجهزة المناعة بالجسم لديهم للإصابات البسيطة تحت الحادة لهذا المرض الجديد، وهذه الخبرة المفقودة كانت ستؤدى إلى المناعة ضد الإصابات القاتلة فيما بعد وقد حدث هذا عندما أحضر الأوروبيون مرض الجدري إلى الأمريكتين مما أسفر عن مقتل ما يصل إلى 90٪ من السكان الأصليين.
وأحيانا تكون المناطق الفقيرة المعرضة لسوء التغذية أو المجاعات نتيجة سوء الأحوال الاقتصادية، وكذلك المجتمعات الإنسانية التى تعانى من الكوارث الطبيعية أو ويلات الحروب سبباً في قلة مقاومة الناس للمرض، مما يتسبب في حدوث الوباء نتيجة انهيار مستوى المعيشة والنظام الصحى للبيئة مما يؤدى إلى التلوث البيئى المصحوب بسوء التغذية، وبدوره أحيانا تحت هذه الظروف تظهر «طفرات متحورة» من الميكروبات محدثة أمراضا جديدة خطيرة غالبا ما تكون غامضة.!!
ومقارنة بين خطورة “الحرب والعدوى” ففي الحرب بالتأكيد أنت تعرف العدو وأين يكون؟ وتعرف قوته! وهل يمكن أن تكون هناك هجمة مرتدة!
ولكن في العدوى أنت لا تعرف أين هو عدوك الميكروبى؟ إنه بداخلك يكمن فى خفية ولا تعلم متى يهاجم؟ وكم عدده؟ وكيف حدود ضراوته؟ وكيف يتسلل؟ وأين يختفى؟ وما المضاد له؟ ويعبث فى الجسد الإنسانى حتى تسقط منظومة الحياة فى أغوار المرض مستنزفة سعادة الصحة ومشاعر البهجة والتمتع بما حولنا.. لقد دأبت الطبيعة على تقديم مرض جديد واحد على الأقل في كل عام قافزا على الحواجز القائمة بين أنواع البشر، ومعرضاً الناس للجديد من الأمراض الناشئة والمعاودة وغير المعروفة والتى قد تكون الأكثر ضراوة!.