حاملة القرابين – متحف المتروبوليتان في نيويورك
استفاد المصري القديم من الخامات الطبيعية الموجودة في بيئته لصناعة ما يصبو إليه من مشغولات تلبي احتياجاته الدينية ومستلزمات حياته الدنيوية، وكان منها الخشب، الذي استغله في صنع توابيته، وتماثيله، وقواربه وسفنه، وأثاث بيته، وغيرها من المصنوعات الخشبية المختلفة.
وصاحب ذلك تطور في مهارات حرفة النجارة وتطور في أدواتها، فبرع المصري القديم فى حفر الخشب وتطعيمه بالعاج والأبنوس، واستخدم فى ذلك أدوات النجارة المعروفة فى مصر القديمة كالبلطة (الفأس)، والقدوم، والأزاميل، والمنشار، والمسن، والمصقلة (قطعة من حجر أملس لتسوية الخشب وصقله)، وأدوات العلام وغيرها.
ولم تحل ندرة الأخشاب فى مصر، وعدم صلاحية الموجود منها محلياً، مثل: السنط، والجميز، والصفصاف، فى صناعة التماثيل، أو الأثاث، أو السفن، أو التوابيت، دون أن يبحث عن مصادر خارجية بديلة لأخشاب أكثر جودة، فاستورد خشب الأرز والسرو والصنوبر من مدن الساحل السوري، وخشب الأبنوس من النوبة وبلاد بونت.
استخدم المصري القديم الخشب في صناعة التماثيل منذ الدولة القديمة، ولكنه عرف استعمالاً أكثر كثافة في الدولة الوسطى من خلال ما يعرف بالنماذج الخشبية، التي عثر على العديد منها في المقابر المصرية القديمة.
وجاء تفضيل الفنان المصري القديم للخشب لصنع التماثيل والنماذج الخشبية، عن بعض أنواع الأحجار؛ لأنه مادة تتصف بالليونة، وبالتالي سهولة التشكيل والنحت، إضافة إلى مقاومته، التي لا بأس بها، للكسر، على غير الحال في بعض أنواع الأحجار التي تستخدم في صناعة التماثيل فتتعرض بعض أجزائها، وخاصة أطرافها، مثل: اليدين، والقدمين، والرأس، للكسر أو الانفصال. وتحررت التماثيل الخشبية من الجمود الذي كانت تعاني منه التماثيل الحجرية، واتصفت بالمرونة، والحركة، ودقة التفاصيل، ومع ذلك فرضت طبيعة مادة الخشب على الفنان المصري القديم مجموعة من القيود الفنية، المتعلقة بشكل وأبعاد كتلة الخشب، وخاصة محيطها، فتميزت التماثيل الخشبية بالسمك الرقيق، وميلها في بعض الحالات إلى أن تأخذ الشكل الأسطواني المتجاوب مع طبيعة كتلة الخشب، هذا بجانب تشكيلها من مجموعة من القطع المنفصلة وتجميعها عن طريق الوصلات، كالنقر واللسان، أو الدسر (الألسن العيرة) أو الخوابير الخشبية، المستديرة أو المربعة القطاع، وهو ما منح الفنان مرونة وسهولة في التشكيل وكثرة في الإنتاج بجانب تميز المنتج بالدقة والرقة وثراء التفاصيل.
وعادة ما كانت الأجزاء البارزة، أو الزائدة عن حدود الكتلة الخشبية الطبيعية، المتوفرة لدية، مثل: الملابس، وبعض تفاصيل الجسم أو الوجه، تصنع منفصلة ثم تثبت في مواضعها عن طريق الوصلات الخشبية المختلفة والمناسبة، أو باللصق بالغراء، أو الصمغ، أو بالوصل واللصق معا.. وكذلك الحال مع الملحقات بالتماثيل، مثل: صناديق القرابين، أو العصا الطويلة، أو الزهور، أو الصولجان، أو المذبة وغيرها.. بعض هذه التماثيل الخشبية كانت تطلى بطبقة من الجص يتم الرسم عليها رسومات أو زخارف ملونة.
وانتشرت خلال الدولة الوسطى صناعة النماذج الخشبية، والتماثيل الخشبية الصغيرة، التي تمثل وطوائف العمال، وكانت توضع في المقابر مقام الطحان والعجان والخباز والجندي وراعي الماشية.
وربما لجأ المصري إلى صناعة هذه النماذج التطبيقية تجسيداً للمناظر التي اعتدنا على رؤيتها مرسومة أو منقوشة على جدران المقابر، وحفاظاً على تلك النماذج اللازمة لحياته في العالم الآخر من أيدي العابثين، فابتعد بها عن الجزء العلوي من المقبرة وأخفاها مع جثمان المتوفي في حجرة الدفن المنقورة في الصخر، في باطن الأرض.
يقتني متحف المتروبوليتان نموذجاً رائعاً للنحت على الخشب في مصر القديمة، يعود تاريخه إلى أوائل عهد الأسرة الثانية عشر (حوالي 1985 ق.م)، عثر عليه في مدخل مقبرة منحوتة في الصخر، في منطقة القرنة في الأقصر، للقائد الملكي "مكت-رع"، الذي بدأ حياته المهنية تحت حكم الملك منتوحتب الثاني كأحد كبار الموظفين، ويشغل وظيفة مدير القصر الملكي "خازن بيت مال الملك"؛ "مدير البيت العظيم"، واستمر في خدمة الملكين المتعاقبين منتوحتب الثالث وأمنمحات الأول أيضاً، في وظيفة "حامل الختم"؛ والأمير الوراثي.
وقد تعرضت هذه المقبرة للتعدي والنهب عدة مرات على مدار القرون، وتم تخريب الرسومات والتصاوير الجدارية فيها، لكن غرفة مخفية على جانب الممر المؤدي إلى المقبرة المنحوتة في الصخر، اكتشفها الأثري الأمريكي "هربرت وينلوك"، المشرف على بعثة حفائر متحف المتروبوليتان الأمريكي عام 1920، أثناء قيامه بتنظيف الحطام المتراكم من أجل الحصول على مخطط دقيق للمقبرة، وعثر بداخلها على مجموعة كبيرة من النماذج الخشبية المطلية بالجص الملون (25 نموذجاً)، جسدت بدقة الأنشطة اليومية للحياة في مصر القديمة في ذلك العصر، من نماذج مصغرة للسفن والبحارة، وأصحاب الحرف المختلفة، والمذابح والماشية، إلى نماذج مصغرة من المباني والحدائق، إضافة إلى جانب تمثالين يمثلان نموذجين خشبيين ملونين لسيدتين تحملان القرابين.
في تقسيم المكتشفات بين الحكومة المصرية ومتحف المتروبوليتان، ذهب نصف المحتويات إلى المتحف المصري بالقاهرة، ونصفها إلى نيويورك.. بينما كان من نصيب المتحف المصري بالقاهرة أحد هذين التماثلين، وكان نصيب متحف المتروبوليتان في نيويورك التمثال الآخر.
والجدير بالذكر أن تاريخ نماذج حاملي وحاملات القرابين يعود إلى بعض الفترات المبكرة من تاريخ مصر، وكانت من قبل عبارة عن أشكال فخارية بسيطة، ولكنها في وقت لاحق، تم صنعها بمهارة فنية كبيرة، تنافس تماثيل صاحب المقبرة نفسه، وعادة ما كانت تمثل الإناث وهن يحملن المواد الغذائية، بينما تمثل الذكور وهم يحملون الأشياء الدينية والجنائزية.
يمثل النموذج الموجود في متحف المتروبوليتان سيدة تخطو إلى الأمام مقدمة ساقها اليسرى على اليمنى، على قاعدة خشبية مستطيلة، تحمل في يدها اليمنى بطة حية من جناحيها، بينما تسند بيدها اليسرى سلة من المواد الغذائية على رأسها.
يشير حجم التمثال (44سم ارتفاعاً)، كما تشير هيئة حاملة القرابين، وملابسها، والحُلي التي تتزين بها، على صدرها وفي يديها وقدميها، إلى وضعية أرقى من أن تكون خادمة أو حاملة عادية للقرابين، كما تمثِّل الأشكال الزخرفية الموجودة على فستانها ريشًا صغيرًا، وخطوطًا عمودية للتنورة الداخلية، ريش الجناح الطويل (النموذج المشابه في القاهرة يرتدي ثوبًا مصنوعًا من شبك الخرز)، وكثيراً ما يتم تصوير الإلهات في أزياء مماثلة، ولهذا يرى البعض أن الفستان يشير هنا إلى المعبودة إيزيس أو نفتيس، اللتين غالبًا ما تُصوَّران عند أقدام ورأس التوابيت حماية للمتوفى.
والتمثال منحوت من الخشب، ولا بد أنه قد تم نحته من الشكل الأسطواني تقريبًا لجذع شجرة، إلا أن القاعدة المربعة والواجهة الأمامية المتوازنة تتوافق مع النمط المستقيم للنحت على الحجر. وعلى عكس الحال في النحت الحجري، وما يتطلبه من إلصاق الأطراف بالبدن، تحرر التمثال الخشبي هنا من الجمود والتيبس، وتحلى بالمرونة والتعبيرية، التي تشير إليها المسافة المفتوحة بين الجسم والأطراف، فهذه اليد اليسرى مرفوعة لأعلى لتوازن السلة التي تحملها على رأسها، وهذه اليد اليمنى تتدلى بطول الجسم محافظة على مسافة واضحة بينها وبين الجسد، مما خلق مظهرًا أكثر واقعية وتعبيرية.
ولا شك أن الأذرع، والقاعدة، والبطة، والسلة، تم صنعها جميعاً بشكل منفصل، ثم تمَّ تثبيتها ووصلها بالجسم، في الغالب، عن طريق ألسنة خشبية دائرية أو مستطيلة.. وقد تم طلاء التمثال بطبقة رقيقة من الجص الأبيض كأرضية تصوير تغلق مسام الخشب، وتهيئ للرسم والتلوين عليه، والألوان التي استخدمت في تلوين هذا النموذج صنعت من مسحوق الأكاسيد المعدنية الملونة بعد إضافة الماء إليها كوسيط مذيب، وربما أضيف غليهما الصمغ أو الغراء لتثبيتها.
ومما يثير الإعجاب في هذا التمثال الصغير، إضافة إلى دقة نحته، وتقنية صناعته، ما فيه من زخارف وألوان، فهذه ألوان الحلي ودقتها، والرداء في أجزائه المختلفة، الأعلى والأوسط والأسفل، وما فيه من جمال تصميم، ودقة تفاصيل، وكذلك الحال في الحُلى وتصميماتها ودقة تكويناتها، والألوان التي لا زالت تحتفظ ببهائها القديم، وإن أصاب بعضها الإجهاد والوهن، والقوام الرشيق، والوجه المنمق والعيون الكبيرة المعبرة، والشعر المستعار المنسدل على جانبي الوجه انسدالاً متناسقاً، والألوان المعبرة لتفاصيل السلة التي تحملها على رأسها، أو أجزاء البطة التي تحملها في يدها، ويبدو من الصور التي ينشرها المتحف على موقعه، أن القدم اليسرى تم ترميمها.
هذه قطعة أثرية مصرية من روائع فن النحت المصري القديم، وخاصة في عصر الدولة الوسطى، تتميز بولع في التفاصيل، ودقة في التعبير وثراء في المظهر وجمال في الألوان.